ليلة إنقراض الرجل الأخير

2014-11-11
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/5d04760a-8065-45ad-9d2e-62d0a45130a0.jpeg
الى المرأة في يومها ، وكل أيامها لأهل الأرض أعياد

(قد قال بالألم تلدين ، فما أُتــرع نهداك الا بالحب وحده)

ليلة إنقراض الرجل الأخير

كتاب فولتير على الطاولة..
ومدام بوفاري تنتزع كل عشاقها كما تنتزع دبابيس شعرها..
بسبابة واحدة أخذت تمحو تفاصيل ما شتلته عربة تجرها الخيول في أحياء باريس.. وما حدث في القصر القريب أيضا.. وحيث ترنحت خطواتها نحو بيتها عند الفجر.. وما سكبته من تأوهات على رسائل الخيانة في أدراجها.. وما جنته من سحنة زوجها و هو يقلب قلبها على ورق قديم  مستسلما لحماقته وجنونه..
لم تعد الكنيسة تناقش أمرها.. ذابت خياناتها في بحر من ضياء برج إيفل.. وغبطة السين بتحوي مويجاته ، وخلود الرضا في قاعه..
نهضت كقديسة في رحاب أنثى، وتململت بترم في حيزها البشري الضيق..
أطل صوت حبيبتها مضطربا من سماعة الهاتف كعصف إنفجار مفخخة قريبة..
تلك مجنونتها التي تتحول الى كائن آخر حين تشرع في الكتابة.. فلا تكاد تسمع النداء المسترخي كعنقود عنب مختمر عند دنانها..
_لم أخرجتني من قصر بودلير؟..
انتصبت كلماتها فوق شرفات الغضب.. وهي تواصل:
_هنا الزنجية تسرح بين قصيدة وأخرى كأنها الليل الذي لا ينقضي عمن فارق خليله..
_بل أنا معك فيه حيث تنبت كل "أزهار الشر" بين قبلة وأخرى..
_"خرز خلخال تطشر وألمك؟؟"..
القلعة الطينية تقترب من الشريعة بزخارف السعد.. والغراف يتغنج تغنج النساء بالكفوف المحناة، وبلون الديرم على الشفاه.. و الكحل الذي لا يغادر الجفون الا مع نظرات الوله..
الماء يمارس الحب بين أناملهن مع عطور المسك والهيل والعنبر ، والضحكات تتوارى بين أغصان الرمان الطرية المحملة بثمار مريم العذراء واليسوع..

عند الكنيسة تبعت الزغاريد صيحات قدها المجون من قدم ومن دبر، لا حاجة لدليل على إقتحام الأسوار الإلهية نحو ورقة توت تسقط بمحض إرادة ما سُفــِّه في بيداء المحرمات..
مثليتان تشرعان بتقبيل بعضهما البعض بين ضجيج المدعوين من الرجال.. تطلقان شهقة تذوب لها سيوف الحرب المحتدة.. و تنسل مسحورة لتماهي الجسدين في بريقهما.. وإقتحامهما لغموض الأدغال.. والعشب الخجول الندي المطعم بزهرات زرق صغيرة تلمع كفصوص الماس في خواتم الأميرات..
لم تشعرا بمقدم الخيول وهي تجر حديدها بلا قوائم ، ولا سمعتا بيتا من ميمية المتنبي لسيف الدولة.. فقد أجهز الفردوس بجرأة الشهوات على حروب الردة.. محلقا بجناحين من زبد قاموس الحرير..  
داعبت الأنامل ما بين منحنى وآخر ثمار حواء المتدلية من جنائنها المعلقة.. مضى الولدان بأقراطهم خاشعين.. وتبعتهم كل حور العين..
 لم يعد من شبق البرية سوى مزنة آذار لتهبط كالوحي على واحات اللذة الخفية.. مقيمة بين الزهور رغوة شراب طافحا فوق اللهاث.. منصاعا لكل خيوط الرعشة..
ضجت كواعب الربيع على جسديهما ضجيج غاب بين دفتي إعصار.. وتلوى شلال حائر بين إستبداد قمم الجبال ولهفة منحدرات الوديان لقدومه العارم..
تداخلت الأذرع في عناق غير عادل.. أشبه بعناق الذهب مع الماء المذيب له..
خصل من شعريهما تضمخت بثمالة الكؤوس.. سكرت حلمات النهود بفتوى الشغف..
 _ليس من خيار بين البقاء و الإذعان لتوحد جائر بحق الذهب و مائه..
_لم أختر الذوبان..
_و لا أنا..
_أنت لعينة.. قدمت من زمن آخر يجهلني..
_بل أنا أعرف جيدا من تكون هذه المرأة الغاضبة دوما..
_تسألين عن الغضب؟ ، ما رأيك بالموت تحت دثار الأحياء؟.. ، ما رأيك في أزقة تحتشد مع بعضها لتطردني كيتيم لم يدرك والديه بعيدا عن أية سكة تصلني بما كان؟..
_عدنا من جديد لما حدث في لشبونة.. ، كانت تلك ليلة فحسب قبل الحرب ، وقرأناها معا في رواية..
_أنت تخلطين بين ما رأيت أنا، و ما قرأنا معا..
_حبيبتي.. ، اني اتوق الى ضمك..
_وانا لا أتوق الى حب يتحدى الجغرافية وما فيها من تضاريس..
_قد خلعنا كل ما كنا عليه خلف هذا الباب..
_مازال صوتانا يصدحان بأنوثة، ما زلت من زمن أغبر..
_"مدري ليش أتمايزك وردة قرنفل ، وأتيه روحي بريحتك، وأحتار من يا صفحة أشمك"
_"من تجسني إشفايفك تاخذني غيبة"..
_و "من ترشني إبمزنتك ولهان أفز"
_"لن روحي يمك"..
_أبعد هذا من حيرة؟
_انها حيرتي بين سحر الزهور الصغيرة التي تنبت في آذار على الأراضي البكر في قلعة سكر.. وبين فردوس براء من سمائه.. ولد عند منحنيات إمرأة.. بين الشامخ من جبالها ووهاد أسرارها..
عريان يدخل ذات الغرفة في فندق بغدادي متواضع، ويختار غرفة رقم 319
_"على طولك إشعلني وصيح بيه الصوت"..
_"أنا بطرك النفس بين الحياة والموت"..
_أجاورنا ليلتها ، أم سمع رنين الشهوة في أربعة خلاخيل؟..
قهقتا بجنون.. ، انطرحتا عند الغدير.. ورق الطين تحتهما حتى استحال شغافا.. نديت أوراق من شجر البرتقال.. تنهدت بكارة القداح وهي تتمزق عند إصرار أريج ما حملت الصواني يوم الدخول..
_هل سمعتِ بسقوط طاق كسرى؟..
_هل علمتِ بثورة الزنج على مسطحات الماء بين بغداد والبصرة؟..
_" جملني بعد كطره وخذني وياك"
_" هناك الفيض كلبك" 
_"حتى روحي تنام"

الجواري والإماء في قصر معاوية يرمين بأدوات الإخصاء عند المسجد الأموي.. ، والمنصور والمنتصر والمستنصر بالله مع نبوخذ نصر وحمورابي وجلجامش يضعان مسلة متوارثة.. و يختنان قربها عذارى شهريار قبل ليلة من ولوج السياف لمخدع مولاه..
_"لنها ما بالغبشة غبشة بغير عينك"
_"خاف أترز بيك حد كطع النفس"
_"وازهك وأضرك"..
_"خاف تطشر ولك وشلون ألمك؟"
تناوب الجسدان بين طي وإنبساط.. وانزلق نهر من الخمر ، وآخر من لبن بين القلعة والغراف ، بين دجلة والفندق ، بين عريان وخشيته من جد علوية بجيد يتعرق بماء زمزم..
_عصبت أعين الرفاق..
_اغتصبوا الرفيقات..
_انهن يغسلن فروجهن بماء الذهب في الأقبية تحت بنايات بغداد..
_سقطت بغداد بعد سقوط النساء مع الرضع في قبور جماعية..
_ "يمعود دخيلك والكلب شيصير"

_"من تكطع بتوته منين اجيب بتوت؟"

تطرق الباب زليخة على أنغام المزنة الأولى.. وتفتح أبواب الغراف والقلعة.. 
_لم يعد يوسف هنا..
_ولا السنين العجاف..
_ولا العجل المعبود..
تاهت زليخة في أوراق مصحف، وجف ثدياها في مجاعة أفريقيا، وشهدت الحشود في قم مقتل قرة العين..
_"عاذرك لو تغتاظ"
_"بس من غير شارة ، وشارتك هالبينت ودخيل جدك!!"..

صغرت في عين سيف الدولة عظامها، وعظمت في عينه رحلة أحمد نحو كافور الأخشيدي.. ، طلق المعري الدنيا ثلاثا، ولم يقذف في رحم الخطيئة، لم يأكل لحم ذبيح..
العموريون يتقدمون نحو أور تقدم بدو الخيام نحو الحواضر، والملوية تعلو حتى تناطح غيوم هارون الرشيد.. اليهود في كركوك يبنون معبد ملك بابل.. برج بابل يتحدى بعلوه السماء..
_أهذه باريس؟
_لست مدام بوفاري لأعرف..
_مدام بوفاري لم تحضر عرسنا المثلي..
_ولا غلمان القصور العباسية، بل لم نشرب خمر ابي نؤاس..
_كل هذا يقع خارج التحامنا على أرائك الفردوس..
_انها لذة للشاربين..
_ما من لذة خارج امتداد الغراف، وجدران القلعة، ورمانها البتول..
_انها ناطحة سحاب قدر ما استطاعت..
_ليس بي أمنية أن انطح السحاب، فأنا فوقه حقا..
_ماذا عن كل ما جرى فوق الطين و تحت الخيمة الزرقاء؟..
_لا يعنينا قدر ما كان يعني لبوفاري موتها وهي تشرب قدحها الأخير..
_هناك نحيب عند قبرها..
_وهنا موسيقى حب أعدت للمؤمنين، وكان مذاقها كافورا..
_ذلك حب لا ريب فيه..
_هل نمضغ كل ما مضى كعلكة لابد من رميها بعد حين؟
_إن كان كالعلكة ، بلى.. ، مالذي يجبرنا على الإحتفاظ به؟
_ربما كان يومها ذهبا يلمع في عين أحدهم؟
_ها أنت تقولين يومها ثم تلحقينها بأحدهم..
_أتعنين اننا نرى سوى ذلك؟
_أعني ان وقت القبل قد حان..
_اني اراه كذلك..
_ما الاستبرق والسندس الا مداس كسرى؟..
_بحوزتنا خلود جلجامش دون أفعاه..
_هل يجرؤ الموت على شجار مع لذة الخمر؟

يمتد العناق السرمدي حتى أذيال ثوب مدام بوفاري..
يقترب برج إيفل مهرولا من نخلة ثقيلة الأعذاق.. تتراقص صورتاهما على صفحة الماء.. يلقي الغروب بألوان الحبور.. وتغمض الشمس أعينها على تداخل الأزل...
_______________________________________________
كان يفترض أن أضع الكثير من الهوامش ، لكني سأترك للقاريء أن يضع هوامشه الخاصة به، وأكتفي بالقول ان كل الشعر الشعبي المحصور بين قوسين مأخوذ من قصائد للشاعر العراقي عريان السيد خلف ، وهو أحد شخوص هذا النص أيضا.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved