بغاث الطير وطائر الميمك والسوذق
كثير هو الشعر الذي يطالعنا قبل أن نطالعه في شتى المواقع والصحف... وقليل من هذا الكثير ما يشدنا الى قراءته حتى النهاية، بل ونستعيد قراءته مرات ومرات! ومن هذا القليل قصائد الشاعر جواد كاظم غلوم. وقصائد هذا الشاعر جاءتنا كزخات في عام مطير هو 2011، ولن تعثر له قبل هذا العام على شيئ، حتى لتحسبه شاعرا شابا موهوبا تلبّسَه شيطان الشعر مرة واحدة "وهو المعاصي سيد الأرباب"، فتفجرت قريحته عن فيض من شعر مائز يحمل بصمات قائله، لغة وعاطفة وفكرا وصوتا واضح النبرة لا يختلط مع بقية الأصوات على كثرتها. قصائده ليست من ذلك الشعر الذي يقرأ على عجلة في سيارة أو من ضرب ما يسمى بقراءة قبل النوم، بل تحرضك على الاستغراق فيها حتى آخر الشوط فتجزم أن هذه الأفكار وهذه اللغة وهذه العواطف لاتكون إلا لشاعر خبر الحياة وخبرته، ولا بد أن يكون شاعر كهذا إلا وقد مارس الشعر بصمت وله معه مشوار غير قصير.
من بين العديد من قصائده التي نشرها على مختلف المواقع، تبرز قصائده عن الطيور، وعلاقته معها ليست بعلاقة نمطية كتلك التي اعتدنا قراءتها في الشعر العربي قديمه وحديثه. ذلك أن استقراء سريعا للشعر العربي يُخبر بأن الشاعر العربي كان على علاقة هامشية خارجية بالطيور، تتسم بالنمطية في جل الأحوال، حتى وإن تغيرت أنماطها وجاشت عواطفها، فهي إما علاقة وصفية بلاغية كما عند أبي صخر الهذلي: (وإني لتعروني لذكراك هِزّة***كما انتفض العُصفور بلله القطر) أو علاقة مناجاة كما عند ابي فراس الحمداني: (أقول وقد ناحت بقربي حمامة***أيا جارتا لو تعلمين بحالي) أو علاقة مناوحة كما عند عبد الرحيم البرعي اليمني: (كلما ناحت حمامات اللوى***في أراك الشِعب ناوحت الحماما) أو علاقة تمني امتلاك جَناح كما عند قيس بن الملوَّح: (أسِربَ القطا هل من معير جناحه؟***لعلي الى من قد هويت أطيرُ!)أو علاقة مذاكرة كما عند عبد الله بن الدمينة الخثعمي (أان هتفت ورقاء في رونق الضحى***على فنن غض النبات من الرندِ)...بينما انفرد أبو تمّام بأبيات قليلة غاية في التركيز والروعة في وصف قُمريتين يرتشفان الحب بينما هو سادر في وحدته وحزنه أذكرها لفرادتها وتميزها:
غنّى فشاقك طائرٌ غرّيدُ***فدعت تقاسمُه الهوى وتصيدُ/ساقٌ على ساقٍ دعا قُمريةً***لما ترنّم والغصون تميدُ/إلفانِ في ظل الغصون تألّفا ***والتف بينهما هوىً معقودُ.
ولا أود الإفاضة في هذا المجال الواسع، بيد أنه لا مناص من التذكير بالشاعر فريد الدين العطار الذي خصص 4650 بيتا من مطولته "منطق الطير" للشعر الصوفي الفلسفي حيث موضوعها بحث جمهرة من الطيور عن طائر وهمي هو السيمرغ (من الفارسية =الثلاثون طائرا)، الطيور ترمز للسالكين المتصوفة الباحثين عن الذات الإلهية مرموزة بالسيمرغ.
لم يصبح الطائر في الشعر رمزا للحرية إلا في مرحلة متاخرة كما هو الحال في اشعار ايليا أبو ماضي في "البلبل السجين"، أو في قصيدة "البلبل" لعلي الشرقي، أو "هند والهزار" لبشارة الخوري، حيث الهزار المغرد الذي خرّ صريعا بفعل حجر هوالشاعر نفسه الذي يختم القصيدة ب: ياهند إني كالهزار فإن يكن*** هو مذنبا فأنا كذلك مذنبُ
والشاعر جواد كاظم غلوم ارتقى في علاقته مع طيوره الى علاقة خاصة تجاوزت العلاقة الخارجية الى قراءة الطير داخليا واستبطان احاسيسها، وهمومها، وأفكارها، وهل للطيور أفكار؟ إذا عرفنا أن الشاعر جعل الطيور معادلا موضوعيا للإنسان في رحلة معاناته الأبدية واغترابه يكون عندئذ الجواب بلا ريبة: نعم! كما أن الشاعر اختار طيوره بعناية لم يتوفر عليها الشعر العربي إلا لَماما. أتوقف مع ثلاث قصائد: بَغاث الطير، وطائر الميمك، والسّوذق. وله قصيدة أخرى عن الحمام، هذه القصائد الثلاث يمكن اعتبارها مطولة واحدة بثلاث حركات نظرا لتقارب موضوعها إن لم ندّعِ وحدته، وتماسك النسيج الشعري من خلال السرد الحكائي رغم اختلاف أبطالها الطيور وتنوعهم. ولكون هذه الطيور غير عادية ولفهم دلالتها الرمزيه عمد الشاعر الى توضيحها بهوامش ليسهلَ فَهمُها على القاريء. ولهذا فإن قراءة القصائد متسلسلة تتيح فهما شاملا وتسمح بإدراك تطور الشعرية من قصيدة النثر الى قصيدة التفعيلة عبر هذه القصائد الثلاث.
في تعريفه لبغاث الطير يقول ابن سيّدة:" بَغاث الطير وبُغاثها،ألائمُها وشِرارُها، وما لا يصيد منها، واحدتها بَغاثة، الذكر والأنثى في ذلك سواء، مثل نعامة، نعام، وتكون النعامة للذكر والأنثى سواء"، وأنا أزيد حمامة، حمام. أما الطير فتخبرنا المعاجم بانه اسم لجماعة ما يطير، مؤنث، والواحد طائر.(راجع لسان العرب جذر: بغث، وجذر: طير). وبغاث الطير لاتعتاش من صيدها، ولا تبلغ أعالي الجبال ولا شواهقها، إنما هي طيور متطفلة على ماتصيده الجوارح، ومسكنها دائما دون السفوح، وكم ينطبق عليها قول الشابي: ومن يتهيب صعود الجبال***يعش أبد الدهر بين الحفر...
في المقطع الأول من بغاث الطير توصيف لحالة الخراب، الخراب الشامل الذي طال كل شيء ، الكنيسة والجامع ، الحقل والمصنع ، الفن والأدب ، حتى رائحة الاشياء وعبقها أصبح شيئا آخر ، فلنسمع:
هذي التراتيل الكنسيةُ/في بوحها المطبوع بالألق السماوي/أضحت إيقاعات لمغن عاهر/في ملهىً بذيء/رفاة الموناليزا../يراكم في حاوية للنفايات/ المقابر لم تعد تترنم للأرض/ فقد خذلتها ماكنة المصنع/ المشيد فوقها/ المآذن لم تعد تتضرع.......المزارع الوافرة بالبرتقال/وشذى الأقاحي/أضحت وكرا للخاطفين/ وشاحذي الفدية.
في المقطع الثاني تساؤل استنكاري(لا إنكاري) عن هذه الأمطار التي تاتي بها غيوم ملوثة،تزيد اليباب يبابا، والفقر فقرا،يأتي الشر من "الخير"من التكايا، والناس تهرب لا تلوي على شيء فالنوارس تتخذ المداخن ملاذا بدل البحر، تسبدل السخام بزرقة البحر! وكذلك اللقالق هي الأخرى هجرت القباب والمآذن ولاذت بالمداخن ولم يعد بياضها بياضا ناصعا فقد اتسخ بالسخام! وحل محلها بغاث الطير!
ما هذه الغيوم التي ترشنا بمطر الأسى؟/ ما هذا الفيضان الضال يُغرِّقنا بالخراب؟/ يلاحقنا أينما حللنا/ما هذه الأغربة التي تطوف فوق رؤوسنا؟/وتهطل علينا بسجيلها المجمر/ لم تعد النوارس تصطفُّ/في مرفأ القلب/وضفاف العيون/فقد بنت أعشاشها فوق المداخن /ما برحت تنفث دخانها الأسود/في سمائنا المرصعة بالهموم/وتنشر جنجويدها في حوارينا.
ويستمر الشاعر جواد كاظم غلوم في هذا السرد الشعري، بمخيلة يستمدها من الواقع المأزوم، في عالم ملتاث وملوث ، تحكمه قوانين بغاث الطير التي مانفكت تتكاثر وتفسد في الأرض، ويبقى السوذق الشاعر وحيدا مغتربا يأبى الذل :
بغاث الطير أكثرها فراخا***وأم الطير مقلاة نزور
فلنسمع شيئا من المقطع الأخير:
وحدك أيهاالسوذق الباشق/فامرح واسترح/سأفرش جفني بساطا حريرا/مخملا ناعمالا يُطوى أبدأ/مهما تلبدت الغيوم/وتعكرت الأجواء/واحمرّت السماء/وغبرت الأرض الخضراء.
كلمة أخيرة، لو قدِّمت لي هذه القصيدة بدون اسم شاعرها، لحسبتُها مقاطع منسية من" الأرض اليباب"، ترجمها مترجم حاذق،،، شكرا للمبدع الشاعر جواد كاظم غلوم.
للموضوع صلة