ممارسة الطب بين الماضي والمستقبل

2022-02-10

لا يجادل أحد في أن مهنة الطب من أهم المهن في أي مجتمع نامي او متقدم . فمن منا لم يصب بوعكة صحية من قبل ؟

ولكن ما لا جدال فيه أيضاً أن الصورة التي كانت تتم بها ممارسة الطب في الماضي قد تغيرت تماماً عن الصورة التي تتم بها ممارسة الطب في الوقت الحالي،  ففي الماضي كانت ممارسة الطب معتمدة بالأساس على صور تقليدية من العلاقة بين مقدمي الخدمات الصحية من أطباء او صيادلة، وأعني بهذه الصورة التقليدية هي  أن  يشعر الإنسان بأنه ليس على ما يرام صحياً، فيتوجه إلى أحد الأطباء المعروفين أو الذين نصحهم به أحدهم بعيادته أو مستشفاه، ويقوم الطبيب بتوقيع الكشف عليه وإجراء التدخل المناسب للحالة دوائياً كان أو جراحياً، وبعد ذلك يرضى المريض الواثق في طبيبه بالنتيجة التي انتهى إليها علاج الطبيب ذو المؤهلات المناسبة للتدخل الذي تم ... وانتهى الأمر .

كانت الدعاية الطبية فيما مضى لا تتعدى لافتة توضع على شرفة عيادة الطبيب وإن زاد الأمر عن حده، فلافتة أخرى بمدخل البناية التي بها العيادة، وباقي الدعاية متروكة لمهارات الطبيب والتي تتحدث عن نفسها وتأتي له بالمزيد من المرضى الراغبين في التماس الشفاء لديه..

أما في وقتنا الحالي، وسط ذلك الطوفان الهائل من الدعاية التي اصبحت تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم كما يقال، أضف إلى هذا ذلك النمط الاستهلاكي الذي يصيبني بالخوف أحياناً، نجد أن الصورة السابقة التي وضحناها آخذة في التواري بل والإندثار، فأصبحنا  نرى يوميا ًعلى شاشات القنوات الفضائية أطباء كبار وصغار يظهرهم الإعلام كنجوم لبرامج طبية (إعلانية في الاساس) القليل منها يقدم للمواطن العادي بعض المعلومات الطبية التي لا بأس بها والكثير منها لا هم له إلّا ذِكر عنوان عيادة أو عيادات الطبيب مع بعض الأسئلة المكررة والتفاخر بالنتائج، وأصبحنا الآن نرى لافتات لأطباء بالطرق الرئيسية بالمدن الكبرى والصغرى تحمل صورهم كنجوم السينما، وهو ما أراه قد ابتعد كثيرًا عن الحد المقبول للدعاية الطبية، ففي النهاية نحن نتحدث هنا عن تجارة مشروطة، تجارة السلعة فيها العلم والثقة الحقيقيين بين الطبيب والمريض، وليس الظهور في الفضائيات أو الإنترنت .

المشكلة الثانية في ممارسة العمل الطبي متعلقة بالأوضاع التي تعمل فيها الفرق الطبية باختلاف انواعها بالمؤسسات الطبية الحكومية، فمع الارتفاع الكبير في احتياجات المعيشة أصبحت الدخول التي تؤمنها الوظائف الطبية الحكومية أضعف من أن تقاوم ذلك التيار، فأصبحنا نرى عزوفا عن ممارسة الطب بالجهات الحكومية عند العديد من الأطباء الشباب وأحيانا الكبار، ناهيك عن التمريض الذي أصبحت أعداده في نطاق  الندرة، مما خلق مشكلتين الأولى هي غياب بعض صور الخدمة من المستشفيات والوحدات الحكومية، و الثانية هي توجه هؤلاء الأطباء إلى العمل الخاص والذي يخضع لمتطلبات وقواعد العمل التجاري البحت التي ذكرنا بعضها، والذي لا يستقيم كثيراً مع خدمة استراتيچية كالطب، و لسد العجز تم اتخاذ عدد من الخطوات التي كانت في أغلب الأوقات مسكنات وقتية وليست حلولاً جذرية للمشكلات التي تكاتفت مع عدم توافر التمويل والدعم الكافي لعناصر العملية الطبية الوقائية والعلاجية . 

المشكلة الثالثة والتي بدأت تأخذ منحنى خطيراً فيما أرى هو الدور الإعلامي الهجومي نحو مقدمي الخدمة الطبية والذي لا أفهم سببه في أغلب الأحوال، والذي يعتبر الطبيب مهملاً مجرماً حتى يثبت العكس، وما يصاحب ذلك من حشد مجتمعي للرأي العام ضد ممارسي العمل الطبي عموماً، فأصبح من الطبيعي أن نسمع في وسائل الإعلام عن طبيب تم ضربه أو ممرضة فقدت عينها أو طبيبة تم صفعها من مريض، والأدهى والأمرّ هو عدم الإهتمام لدى العامة بالأمر وكأن هؤلاء مجرمون يستحقون ما يحدث لهم من قصاص مجتمعي عادل !!! وقد عرفت من مصادر أثق بها تمام الثقة أن الكثير من شباب الأطباء قد عزف عن التخصص في الفروع الجراحية خوفاً مما قد يلحق له إن حدثت مضاعفات طبية لأحد مرضاه وأصبحوا يفضلون التخصصات غير الجراحية الأكثر أماناً، ولا يستطيع أحد أن يلومهم أو يجبرهم على غير ذلك .

هذه هي المشكلات، فهل من حلول ؟

أُلخص آرائي في نقاط منعا للإطالة :

- الجسم البشري ليس آلة معدنية، كل منا عبارة عن الآلاف من العمليات المتداخلة المعقدة، ومن الطبيعي أن تختلف استجابات كل منا واستعداده للشفاء، تذكروا تلك القاعدة .

 - الطبيب ليس عدوا للمريض، ولا يضمر نحوه الشر، ولا أتخيل طبيباً يدخل غرفة العمليات وقد عقد العزم على قتل مريضه، أو إصابته بعجز .

- الاهمال الطبي وارد بالطبع كما هو وارد في أي مهنة أخرى، وكذلك المضاعفات الطبية فهي أكثر وروداً، فيجب أن نفرق بينهما بوضوح، وتقوم على هذه التفرقة جهات علمية متخصصة في كل مجال طبي، واشدد على أن تكون متخصصة .

- ارجو من الإخوة الأطباء أن يتوقفوا عن الانسياق وراء مسوقي الدعاية والإعلان، أو على أقل تدير فليحكموا المنطق في قبول أساليبهم، فهؤلاء عملهم هو الدعاية المكثفة و التي في بعض الأحيان تعطي انطباعا عكسيا لدى العامة عن الطبيب وتصوره كإنسان لا هم له سوى تملق المرضى لجمع المال، خاصة مع اتباع بعض الأساليب التي لا تليق بمهنة علمية في المقام الأول كالطب .

. - الطبيب إنسان أيضاً، له احتياجات وطموحات، ولا يمنع كون الطب مهنة إنسانية أن يمارس الطبيب عملاً طبيا يدرعليه دخلاً يعيش منه، فتلك مهنته التي يتعيش منها في النهاية، وهذا التعيش محكوم بقواعد وقوانين يجب أن توضع ممن قبل أطراف تجيد قراءة الواقع ولا تعيش في أبراجها العاجية .

- في كل مهنة يمارسها بشريون هناك الجيد والسيئ، فلنفكر قليلاً قبل أن نصدر أحكامنا .

- الخدمة الطبية الحكومية شديدة الأهمية ولا جدال، ولكن العامل البشري وتوفير ظروف العمل الملائمة لا يقل أهمية عن البنايات و المنشآت، أرجو أن ينجح قانون التأمين الصحي الجديد في مصر، وفي أية دولة عربية في مثل وضعها  في تحقيق ذلك، فهو في رأيي الفرصة الأخيرة لإنقاذ النظام الصحي الحكومي على أقل تقدير .

تامر محمد محمد موسى

طبيب أسنان و كاتب مصري يقيم في الاسكندرية، صدرت له رواية بابليون. وقد فازت بالمركز الثاني بجائزة منف للرواية بدورتها الثانية عام الفين و ثمانية عشر و المركز الأول بجائزة ببلومانيا للرواية العربية عام ألفين وواحد وعشرين، له عدة مقالات في العديد من المواقع .

facebook  .doctortamermosa

 Email : tamermmosa@gmail.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved