ربما اعتبر الحديث عن وضع المرأة في الساحة العربية الراهنة ضربا من الافتعال أمام واقع يستدعي تركيز الاهتمام على محددات مصيرية أكثر إلحاحا.
وبالفعل، قد يبرز مثل هذا الافتعال للوهلة الأولى، إذ ما قيمة الحديث عن المرأة ووضعها أمام الخطر الذي يتهدد المسجد الأقصى، أو أمام واقع الاحتلال الأميركي للعراق، أو أمام ما يسمى بالحرب على الإسلام والمسلمين؟ ألا يعد الحديث عن المرأة تناغما مع السياسة الأميركية المطالبة بالإصلاح وبالديمقراطية؟
لكن صحة مثل هذه المواقف تتوقف على طبيعة الزاوية التي نعتمدها لطرح الموضوع وعلى طبيعة النسق الفكري المعتمد ثم الإطار العام الذي يتم فيه تنزيله، نضيف إلى ذلك أننا في مجتمعاتنا العربية أكثر حساسية وأسرع في رد الفعل على الألم الذي يسببه الآخر، أي ذلك العدو الخارجي، في حين تعودنا التزام الصمت عن الألم النابع من داخلنا .
إننا مجتمعات لا تستطيع أن تنظر لذاتها إلا للتباهي، ونحن في حاجة إلى ذلك الآخر لنلبسه معطف همومنا، إننا أكثر ضعفا أمام أنفسنا من ضعفنا أمام من نرى أنهم أعداؤنا.
ويعكس موضوع المرأة إلى حد ما جملة هذه الإشكاليات، فهو في جانب مؤشر على تجاوز الذات، كما أنه مؤشر على الحالة المرضية العامة التي استفحلت في البلدان العربية والتي أدت إلى هذا الوضع السياسي القاتم الذي نعيشه .
وأشير هنا كذلك إلى أن جزءا مما سأقدمه للقارئ يعد ردا على مقال الكاتب أحمد الريسوني على موقع الجزيزة نت الذي اعتمد على مبدأ عدم المساواة البيولوجية الطبيعية لتفنيد قضية المساواة من أصلها.
"الحكم على قضية المرأة بأنها موضوع مفتعل غير موضوعي وفيه الكثير من التجني، كما أن أصحاب هذا الموقف يريدون الالتفاف على استحقاق داخلي من خلال تصديره وربطه بآخر وهمي"
تعد قضية المرأة أو تحرير المرأة موضوعا قديما متجددا، فهو يعود على الأقل إلى بداية القرن العشرين، وربما أمكن الغوص أكثر في التاريخ العربي لاستجلاء جذور سابقة للفترة الحديثة.
لكن الوعي به في العالم العربي والإسلامي كجزء من مشروع حضاري يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي، مع بعض الوجوه البارزة، مثل قاسم أمين في مصر والطاهر الحداد في تونس.
إن دراسة دور هذين العلمين يخالف بعض التوجهات الفكرية السلفية والتقليدية، التي ترى أن موضوع تحرير المرأة جاء بفعل الاستعمار الغربي وهو يطرح اليوم لتبرير التدخل الأجنبي "الأميركي" في العالم العربي.
لقد كتب قاسم أمين كتابيه "تحرير المرأة" ثم "المرأة الجديدة" بين سنتي 1898 و 1900، وكانت مصر ترزح تحت الاحتلال البريطاني، وقد كان مبعث اختياره لهذا الموضوع هو وعيه بشمولية الأزمة في المجتمع المصري، والعربي عموما، التي انتهت بالتدخل الاستعماري، ولهذا السبب وجه فكره لتحقيق نهضة حضارية شاملة، يكون فيها للإصلاح الاجتماعي والثقافي الدور البارز ليضمن المجتمع المصري مناعة ضد التدخل الغربي.
ويعد فكره من هذه الناحية تواصلا للمشروع الحضاري العربي الإسلامي ورواده في القرن التاسع عشر، إننا نلمس من خلال أفكار قاسم أمين ذلك الوعي بقيمة البعد الاجتماعي والثقافي كإطار عام للنهضة، وذلك قبل أن تنغمس المجتمعات العربية في غياهب السياسة والتسييس مع تصاعد الحركات الوطنية ضد الاستعمار مع ما تبعها من انفلات لعقال الإيديولوجيات الشعبوية "Populiste" غير أن هذا الحضور المكثف للثقافي والاجتماعي في فكره لا يعني انعزاله عن الاستحقاق الوطني بالمعنى السياسي، حيث تورد المصادر أنه كان على علاقة متميزة مع سعد زغلول، أحد رموز الوطنية المصرية.
أما في الجهة المغاربية فقد كان لفكر الطاهر الحداد أثر بارز في تأسيس الوعي بقضية المرأة في سياق المشروع الحضاري التونسي والعربي، لقد كان لكتابه "امرأتنا بين الشريعة والمجتمع" 1930 وقع كبير على الساحة الفكرية في تونس.
فقد أثار غضب بعض علماء جامع الزيتونة، حيث رد عليه أحدهم بكتاب "الحداد على امرأة الحداد" وحاول فيه دحض أفكاره، مثل قاسم أمين، كان موضوع المرأة جزءا من رؤية أشمل في فكر هذا الرجل، فقد جسد انخراطه في الحركة الوطنية من خلال اهتمامه بالعمل النقابي التونسي الناشئ، حيث ألف كتابا مهما حول العمال التونسيين وظهور الحركة النقابية 1927، كما كان من بين الأوائل الذين دعوا إلى تأسيس هيكل نقابي تونسي مستقل عن النقابات الفرنسية.
ويبدو من خلال مثال هذين الرائدين أن الحكم على قضية المرأة بأنها موضوع مفتعل، سواء من طرف مفكرين منبهرين بحداثة الغرب، أو من طرف قوى خارجية تريد اختراق بنية الثقافة والمجتمع بغاية السيطرة، يبقى غير موضوعي وفيه الكثير من التجني، كما أن أصحاب هذا الموقف يريدون الالتفاف على استحقاق داخلي من خلال تصديره وربطه بآخر وهمي.
"العالم العربي والإسلامي هو اليوم من بين الفضاءات القليلة في العالم التي مازالت فيها المرأة تواجه أوضاعا كانت قد سادت خلال عهود خلت "
على الرغم من أهميته المعرفية فإن هذا الجانب التاريخي والفكري لا يمكن أن يحجب عنا ذلك البعد الإنساني المرتبط بما تعانيه المرأة العربية في حياتها اليومية في ظل مجتمع أسس هياكله على تفوق المبادئ الذكورية.
فالعالم العربي والإسلامي هو اليوم من بين الفضاءات القليلة في العالم التي مازالت فيها المرأة تواجه أوضاعا كانت قد سادت خلال عهود خلت.
إن ما يسمى بجرائم الشرف التي تسود بعض المجتمعات المشرقية تمثل نبذة من واقع أكثر مرارة، فقد أصدر المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الأردن تقارير عدة حول هذه الظاهرة ورصد حالات عديدة لهذه الممارسة التي تختفي وراء مقولة التقاليد والعرف وتستفيد من صمت من ادعوا تمثيل الإسلام من العلماء ومن رموز التيارات الإسلامية.
إن الأحكام التي تصدر في حق من تولى "غسل شرف العائلة" لا تتعدى في أغلب الأحيان بضعة أشهر، ومثل هذا الحكم من شأنه أن يحفز النزعة الذكورية العدوانية على استغلال هذا التقليد لتلبية أغراض أخرى قد لا تكون لها علاقة أحيانا بالشرف.
فقد صار الأخ يقتل أخته بمجرد الشبهة، وفي حالات أخرى تمت تصفية البنات لأسباب متعلقة بالميراث أكثر من ارتباطها بالشرف.
ولنا أن نتساءل كذلك عن مفاهيم الخيانة والعار في هذه المجتمعات، فهي شديدة الضبابية بحيث إن أي شكل من أشكال التواصل الإنساني قد يعد جرما يقود صاحبته إلى قصاص الشرف.
مثل هذه الجرائم البشعة تستند في خيال المجتمع إلى اعتبار المرأة المسؤولة الوحيدة عن الغواية، في حين أن للقضية طرفا آخر هو الرجل، ذلك المغيب من واجهة هذه القضايا والذي ينعم بموقعه الذكوري المريح، كيف لا والشرف يأتي به الرجال في حين تفرط فيه النساء.
ولكي نقف أكثر على المأساة التي تعانيها المرأة في المجتمعات العربية، علينا أن نتتبع وضع النساء في المناطق التي تمزقها الحرب المعلنة، أي الحروب الرجالية بأكثر دقة، في دارفور وفي الصومال وكذلك في جيبوتي.
في هذه البقاع يموت الرجال مرة واحدة على جبهات القتال المفتعلة، في حين تموت النساء مرات ومرات للدفاع عن حق الحياة للأبناء وعن حرمة الجسد من الاغتصاب.
أما في المجتمعات العربية الأخرى التي تعيش حالة اللاحرب واللاسلم، فنجد المرأة تواجه ضرب الزوج والطرد من بيت الزوجية، وفرض حالة الزواج القسري دون إمكانية الطلاق من زوج متهور، نضيف إلى ذلك ما تعانيه البنات في سن البراءة من عمليات بتر وحشي لأعضائهن وإعلان فرض الرقابة الاجتماعية على الجسد والحواس.
إننا لسنا في حاجة إلى تعداد أوجه المعاناة التي تعيشها المرأة العربية في حياتها اليومية لنقر بحقها في حياة أفضل مما يقدمه هذا النظام الذكوري، لكنني أشدد على أن هذه المعاناة هي المدخل الحقيقي للوعي بوطأة هذه القضية على مستقبل المجتمع، وذلك على النقيض من الكتابات التي تعدد أوجه الاختلاف بين الذكور والإناث من حيث نسب التمدرس والتشغيل واحتلال المناصب القيادية، أو عدد الحقائب الوزارية ومقاعد البرلمان النسائي.
"إننا اليوم في العالم العربي بحاجة ماسة إلى تغيير وضع المرأة، لكن هذا التغيير يجب أن يندرج ضمن مشروع أشمل لتحرير الإنسان العربي، فلا قيمة لمبدأ تحرير المرأة ومساواتها دون إيجاد الإطار العام لتحقيقه"
إن ما لم يفهمه العديد في مجتمعاتنا هو أن المطالبة بالمساواة وبالحرية للمرأة يعني بالأساس الخروج من الصورة القاتمة التي يرسمها الواقع اليومي للمرأة في المجتمعات العربية وفي بقية المجتمعات.
إنه يعني استرجاع المرأة لإنسانيتها التي اغتصبتها الثقافة والهياكل الاجتماعية القائمة، وليس الأمر كما ذهب إليه الكاتب أحمد الريسوني، والذي لخصه في تذكير الإناث وفي التعدي على الطبيعة وعلى الفطرة، لأن قضية المرأة مرتبطة بطبيعة الثقافة السائدة وبالهياكل الاجتماعية الموجودة، وهي توظف الاختلافات البيولوجية لتبرير التفاوت الاجتماعي.
إنني أستغرب من أن يتم تقديم مطلب المساواة بين الرجل والمرأة على أنه سعي دؤوب من طرف المرأة للتشبه بالرجل، أو أنه محاولة لصهر هويتين في واحدة.
فكل رواد التحرر في هذا المجال ركزوا أكثر على مظاهر استغلال المرأة وعلى ضرورة المساواة مع الرجل انطلاقا من البعد الإنساني العام وليس انطلاقا من التقسيم بين الذكور والإناث.
وليست المطالبة بالمساواة تعديا على الفوارق البيولوجية الموجودة كما أنها ليست طمسا للتنوع البيولوجي، بل هي دعوة لتحقيق مساواة في ظل التنوع البشري الطبيعي، فكما لا يمكننا أن نغفل عن حقيقة وجود إناث وذكور في العالم، لا يمكننا أيضا أن ننكر وجود الإنسان.
إن المساواة لا تعني التسوية البيولوجية، لأن مثل هذا القول فيه الكثير من السطحية وهو ابتذال لتجارب تاريخية رائدة لتحسين وضع المرأة، وحتى إن أخذنا بعين الاعتبار فاعلية الفوارق البيولوجية، فهذا لا يمكن أن يحجب عنا واقع المرأة التي تحدت مثل هذه النظرة الدونية لتقوم بما لا يقوم به الرجال وأكثر.
أقول هذا وأنا أستحضر دور المرأة في الأرياف العربية، حيث تقوم بحراثة الأرض وجمع الحطب ورعي الأغنام وغير ذلك من الأعمال الشاقة إلى جانب دورها كأم.
أستحضر كذلك مثال مناضلات شهيرات ضد الاستعمار وضد الهيمنة، مثل جميلة بوحيرد خلال الثورة الجزائرية، وسناء محيدلي في لبنان، وكذلك المناضلات من أجل الحرية وحقوق الإنسان وكرامة الوطن مثل راضية النصراوي في تونس وكذلك توجان الفيصل في الأردن.
لقد قدمت هذه الأسماء الكثير للمواطن العربي دون أن يمثل حيضهن عائقا أمام ذلك، وأقول لمن ينكر أي دور سياسي للمرأة بأن في ذلك تجنيا على صفحات مشرقة من التاريخ النضالي العربي، وأذكّر من يعتمدون على التقاليد الإسلامية لتبرير ذلك بدور عائشة زوجة الرسول صلي الله عليه وسلم في ثورة الجمل ضد الخليفة علي بن أبي طالب إلى جانب طلحة والزبير.
إننا اليوم في العالم العربي بحاجة ماسة إلى تغيير وضع المرأة، لكن هذا التغيير يجب أن يندرج ضمن مشروع أشمل لتحرير الإنسان العربي، فلا قيمة لمبدأ تحرير المرأة ومساواتها دون إيجاد الإطار العام لتحقيقه.
وبعيدا عن التهميش نقول بأن المطروح ليس التسوية مع الرجال بتحدي الفوارق البيولوجية، بل إن المطروح عمليا هو تحسين الوضع الاجتماعي للمرأة من خلال منع ضربها وإعطائها الحق في طلب الطلاق وتحديد سن الزواج ومنع إيقافها عن الدراسة، إننا في حاجة إلى مزيد من العقول المفكرة إناثا وذكورا.
ــــــــــــــــــ
كاتب تونسي