" إنها السماوة ..
فادخليها آمنة مطمئنة " .
الشعر هو أن نترجم حنق السنين الى موسيقى وإشاعة ورمز ..
( خورخي لويس بورخيس )
ألله ياسماوة ما أجملك وأنتِ تنامين في حضن الفرات، لكن الأجمل ما فيكِ هو أن يعشقك شاعر يفرش الروح للقياكِ، يغنيكِ قصائد، يلملم ذرات ترابك يشمه وهو مغادر نخيلك وماءك، أهله وكل ما يعشق فيك. رأيتك مرة واحدة في صحوتي ، لكنني كنت أراك دائما على قصائده، ذكراك كانت تهيج مع كل بيت ينشده، لا أعلم أحدا من الشعراء أحب مدينته كما أحبك، حملك في شرايينه عقودا طوال كلها ألم ووجد، الدكتاتورحاول ان يطفأ قمرك، قَتُل ابناؤك، نساؤك، اطفالك، شيوخك، كما العراق كله أصبح قبرا كبيرا مثلك، وقبل ان يمضي الى غربته راح الى صديقه يستأمنه على داره وبستانه ومكتبته، ولما عاد بعد ان عادت الى العراق روحه برحيل الطاغية، لم يجد من ماله شيئا فصديقه ذاك الذي كان يحسبه حافظا للأمانة راعيا لها قد باعها في لحظة عرض فيها " الله الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها "، فحملها ذلك الوغد فكان كغيره من سوّد التاريخ وجهه ووصمه بعار الأبدية. هذا الخائن " النذل " جاء وسط العشير يذرف دمعا كدموع التماسيح يقول في خضوع : - لاأملك شيئا سوى أهل بيتي .. خذوهم إذا كانوا يسدون شيئا مما أخذته ! لكنه الشاعر المتأوه بشعره، القابض على حب أهله وتراب وطنه يكتفي ببصقة تملئ وجه النذل من خان الأمانة وهو حكم لو تدرون عظيم ؟ فكان لابد ان يهجوه وهي سابقة لم يدن الشاعر منها لعلمه بما يتحلى به قومه، ومع كل ذلك الألم الدفين في صدره الموجوع لم يشأ السماوي إلا ان يدخل بنا قصيدته " إنها السماوة .. فادخليها آمنة مطمئنة " مدخل من عرف الحب ولم يعرف سواه من قبل : فأنا وأنتِ وعشقنا المجنون / ثالوث المحبة والغرام / من وحي مائكِ / أسرجت قنديلها الواحات / في / جسدي المُسيج بالقفار / فتهيئي للطلق ... / آذن بالفسائل رغم عُقم الدهر / بستانُ المنى / واستبشرت غدنا الخميلة ُ والهزارْ / هيأت ُ أمطاري لزرعكِ / والمآذن لابتهالاتي .. / ومنديلي لدمع الجُلنار . حاول الشاعر أن يترجم حنق السنين الى بشرى يسوقها للتي أحبها داعيا إياها أن تخلع عنها ثوب الخوف عند اعتاب مدينته التي يراها آمنة وادعة، مع ان جرحه لازال ينزف، والنذل لازال يقيم هناك، فيقول : ها نحن في وادي السماوة / فاخلعي الخوف القديم / الناسُ - كل الناس باستثناء نذل واحد - أهلي .. / وكلُ بيوتها بيتي .. / اطرقي ما شئت ِ من أبوابها .. / تجدي الرغيف / الظل .. / والماء القراح / وما يسرك من كلام / معصومة الأعذاق .. / والسعف / الفسائل / اليمام .. ، يعود الشاعر مرة أخرى ليهجو ذلك النذل ، والذي يريد ان يقوله لنا أنه رجل عقّ الأعراف خلاف ما جبل عليه قومه : الناس - كل الناس باستثناء نذل واحد - / طبعوا بطبع نخيلها : / يتقاسمون مع الضيوف النبض قبل الظل ../ كل الناس - باستثناء نذل : / يفرشون قلوبهم قبل البساط / وقبل آنية الطعام ! ، هنا كان لابد للشاعر ان يستخدم كلمة أقسى مما قاله فيه ، وهي قليلة بحق من خان الأمانة : أترين ذاك القرد ؟ / اجمل من غزال كان لولا أنه / خان الأمانة والصداقة / جاحدا فضل النمير على السفرجل / فانتهى مسخا / تحف به الرذيلة في السماوة / تستحي منه الخطيئة واللئام !! / ، ما أعجب هذا الوصف الخطيئة واللئام يستحون من فعلة هذا النذل ، هجاء حقرّ به الشاعر خائن الأمانة وهو لايزال يبث آلامه للتي أحب ومذكرا على الدوام بها على انها حق مستلب كما استلبها طاغية العراق حينما أراد تكميم فمه : ذا كان بستاني .. وتلك الدار داري .. / خانني بهما اللئيم / فلم يعد لي منهما غير الطيوف / بهدب جفن مستضام ! / أترين تلك القلعة الحجرية الجدران ؟ / لي فيها صراخ شاسع .. / ودم .. / وأسنان مهشمة .. / ودمع أب تجرأ بالسؤال عن ابنه / المحكوم / بالعشق المؤبد والهيام / يانخلة الله / السلام عليك يوم ولدت من قلبي بتولا / والسلام عليك / يوم أموت فيك مضرجا / بلظى / الصبابة والتغرب / ، هنيئا لك أيتها المدينة المعشوقة فبالرغم من كل ماتحملين من رزايا وظلم العباد للعباد ، شاعرك السماوي يرمي عليك السلام صبح ومساء : والسلام على جذورك يوم أبعث في الفسيلة / والسلام على الفراتين / السلام على السلام / فأنا وأنت وعشقنا المجنون / ثالوث المحبة والغرام / يومي بظلك : / ألف عام / في جنة / من فوقها الأقمار تجري / عرضها روحي وقلبي / ليس يقرب من حدائقها الخريف / ولايكف عن الهديل بها / الحمام . في زحمة هذا العشق ينسى الشاعر بيته وبستانه وأوراقه ، هو التماهي في حضرة الحبيب ، هو النسيان : ليس يقرب من حدائقها الخريف/ ولا يكف عن الهديل بها / الحمام / كوني كتابي في يميني / فالبداية أنبأتني / حسن عاقبة الختام / شيدته ضلعا على ضلع سريرك / فاطفئي الفانوس .. / نحلي يحسن المسرى / الى / زهر القرنفل والخزام / فاستمطريني / غيمتي حبلى بماء الورد ../ هيئت لعنفوانك / فاستري عريي بسعفك / أنطقيني .. وافتحي لي دفتر الرؤيا / ليكتب / سفر رحلته الغمام / ودعي شذاك يغيظ / آلهة المدام / الليل خيمتنا / وحارسنا الظلام .. يحيى السماوي في شعره الوجداني يتحلل من كونه بشرا يعيش على الأرض ليكون ملاكا تضوع منه كلمات تفهمها الأشجار والبلابل ، الأنهار والجداول ، فهو يغازلها بحنان ، هذا الغزل وهذا العشق حط على جميع دواوينه الشعرية منذ " عيناك دنيا " حتى " بعيدا عني قريبا منكِ " ، يتميز شعره بتنويعاته فهو لم يقف عند شعر التفعيلة فقط بل ذهب الى قصيدة النثرالتي وجد فيها مساحات شاسعة لأخيلته ، وهو بشهادة الأستاذ الدكتور عبد الرضا علي : ( يمتلك اقتدارا في تشكيل عوالم أخيلته السحرية في الأداء المدهش ، الى جانب تجليه في انفعالاته الوجدانية ) ، كما في قصيدته التي بين أيدينا : في الزورق المهجور/ قبل صياح ديك الفجر: / شمر عن لهيب الوجد تنوري / وأغوتني نضائد نخلة الله البتول / بقطف تمر اللذة العذراء / أطلقت العنان لخيل شوقي بالصهيل / فضنا بماءينا / فكان السيل معراجي / الى / ما خلف باب المستحيل / . الشاعر هنا ولفرط حبه بمدينته فهو يحلم بذاك اليوم الذي يعود اليها بعد تغرب دام عقود ، ومع ان كل ما يملك ضاع فهو يأمل أن يبني حياته من جديد مع أنه تجاوز ستينه ونيف من العمر ، إلا انه يشعر كلما اقترب من السماوة انها تمنحه عمرا جديدا وشبابا نضرا ، انها الخلود الأبدي الذي سيبحر اليه ، هو كلكامش العصر الباحث عن عشبة خلوده فيها ، ولقد سمعته لمرات يقول : - سأطوي خيمتي لأعود اليها .. انه لايستطيع الحياة بدونها : طفلين عدنا / عاريين على سرير الزورق المهجور / ملتحفين بالماء المبارك / والهديل / لسنا بعصر المعجزات / فكيف عاد مضرجا بالنبض / عاشقك القتيل ؟ قصيدة " إنها السماوة .. فادخليها آمنة مطمئنة " إرجوزة محبة وعشق، ألم مدفون، تصريح أزلي بالعودة الى الأرض التي شهدت الولادة ومراجيح الطفولة وعنفوان الشباب، والعوم الى المجهول، إنها قطعة من شريان الشاعر ما زال الدم فيها يكتب حنينا للعودة .
أحمد فاضل