سركون بولص اخيرا...وصل الى مدينة اين

2009-06-29

هل وصلت الى مدينة اين. انت من بنيت نشيدا سامقا تغار منه السماء. اذا وصلت..قل لنا كيف هي اين .المدينة اللغز التي تقض مضجع الوجود.

هل وصلت . الوصول الى مدينة اين. الديوان الخالد في مكتبة الشعر. هل وصلت فعلا.. الوصول..  الى هناك، وصول الى نسغ الحقيقة. التي تنبض على مدار الاسئلة. الحقيقة الماثلة للمحبين والخائفين على حد سواء. اين...المكان الذي يراه الموتى باعين بيضاء. هل وصلت ياسركون. اعرف ان الاجابة مكتنزة في قصائدك ، انت الذي يتقن زرع الالغام في المالوف.

انت الذي جعلت من المفارقة -اللمعة صهوة الشعراء المأخوذين بالدهشة الاولى . الشباب انذاك والان يلتقطون دررك بعطش لايوصف . الشعراء الاخرون عابسون ومملون مثل خراف شائخة. انت البشوش الروح والمحيا، ترد التحايا بقامة المحبة ،كلماتك ترقص على رخام المعنى ولاتتلوى مثل افاع لغوية طاعنة في التكلف. صنعتك هي البراءة .ليست صنعتك تصفيف مفردات القاموس. انت جعلت القاموس ينحني لخيالك النادر. القاموس يذوب في عوالمك. وليس مثل من يجعلون القاموس ذريعة فاضحة يدارون بها ارواحهم المسطحة وفقر ابار خيالهم في قراهم اللغوية المكرورة والبئيسة.

 ذات مهرجان، في الرباط اوائل صيف1999 ،التقيت عزيز ازغاي الشاعر التسعيني- ليس في السن طبعا- في شارع علال بن عبد الله .عقرب الساعة يكاد يلتهم الظهر. تصافحنا انا الخارج من مقر جريدة العلم التي كنت اكتب لها مقالات في الثقافة مقابل المال . وهو الخارج من مكتبه بعمارة السعادة حيث المجلس الوطني للشباب والمستقبل . كنت غاضبا لان المدير المالي الذي يتحدر اسمه من السباع ، ماطلني طويلا في مستحقاتي الشحيحة التي اكلوا منها مااكلوه. وحتى يخفف عني شدة حنقي ، دعاني لمرافقته الى فندق المجلس بزقاق زحلة قرب محطة القطارالرباط المدينة المطلة على الشارع الفسيح وسط العاصمة، في الطريق اخبرني ان له موعدا مع سركون بولص وامجد ناصر وخالد المعالي وهاشم شفيق وحسن صلاح.

كان الشعراء ضيوف المهرجان ينزلون في هذا الفندق المزعج موقعه. فامجد ناصر ازعجه هديروصفارات القطارات مثلما ازعجه صوت المؤذن الاجش الخال من نبرات رخيمة كما الاذان الشرقي، صعدنا الدرج...بدا بولص جالسا في الوسط جنب خالد المعالي وهاشم شفيق. صافحهم عزيز وصافحتهم بدوري.قدمني لهم عزيز.كان خالد المعالي يسرق جرعات حارة من قنينة الفودكا الكبيرة ،يستلها من حقيبته الخفيفة ويردها بخفة الحواة، كلما لمح نادلا او نادلة الطابق العلوي للفندق.

يحتسي جرعة ثم يتغزل في النادلة ذات الساقين الممدودتين مثل اعمدة رخام. تنورتها السوداء الى الكعب العالي الاسود بدوره يتوسطهما رخام ابيض شهي ،وقميصها الابيض المفتوح يجعل كل ذلك الدم يفور.تماما مثل الفودكا. كان سركون وديعا ولطيفا..يضحك برفق،سلمته نسخة من مخطوطتي الصغيرة *ايام الله الباردة*،تصفحها،تمعن قليلا في بضع قصائد قصيرة جدا،رفع راسه..قال بمحبة وحكمة *لاتستعجل النشر* فجأة..التحق بمائدتنا امجد ناصر،صافح الجميع مداعبا بولص،اشتكى من ضجيج القطارات والمؤذن -علت ضحكة مفرقعة ..المعالي طلب من النادلة ان تاتيه بكسكس حتى ياكله قبل موعد وجبة الغذاء ..اتته به راضية ،قال للجميع *لي موعد مع زفزاف في كازا*.رحل المعالي ..بقينا..دعانا ازغاي الى مادبة غذاء في احد المطاعم .

الزردة..وليمة الشعر الضائعة-

صافحنا *ميشيل* بحرارة، قام عزيز ازغاي بتقديم الشعراء لصاحب المطعم اليهودي الديانة،وقبل ان نبدا في الاكل والشرب اسر لنا عزيز ان ميشيل يملك صوتا شجيا ،يصدح بالغناء في ليالي السمر الرائقة بمطعمه. تسلم كل منا لائحة الاكلات، طلبنا انا وعزيزسمكتين وقنينة نبيذ مغربي،طلب سركون ذيل خروف *الحقيقة ان ذيله كان قصيرا وخال من الكثافة اللحمية مع بضع حبات من حمص مبخر- كانت خيبة امل اشورية بالتاكيد * وجعة،امجد تناول مالا اتذكره..ولكني اتذكر الجعة .هاشم شفيق نادى على الجعة والسمك على مااعتقد، حسن صلاح ربما كان على مائدته طاجين او سمك والجعة حتما كانت حاضرة.

دخلنا في الاكل والشرب والحديث...عن الشعر والبعث والعراق ومصر..وعقدة التفوق..،اراد عزيز الحديث مع سركون عن قصيدة النثر ..لكن وجدنا انفسنا نتحدث عن صدام حسين والبعث والعراق نحن ثلاثتنا هاشم وامجد وانا طبعا -صاحب المشكلات الايديولوجية- تضايق مني في صمت مؤدب كل من سركون وعزيز،كنت اعتذر من حين لاخر لبولص الكبير عن شططي ...يربت على كتفي بحنو الاب ويبتسم ابتسامة قديس * لاعليك يا رشيد*،كان هاشم متحمسا لموضوعي المفضل -تعسفا-البعث والقمع وراء خصوبة الحركة الشعرية الحديثة بالعراق ،كذلك كان امجد مهتما بالموضوع ومتدخلا نشيطا، كنا نتفق حول نقطة افتراضية * دور البعث والقمع في التحول النوعي للحركة الشعرية مادامت الظروف السياسية اغنت تجربة المنفى الادبي والشعري تحديدا ربما فورة شعرية وسردية عرفها الادب العراقي في ظل حكم صدام خاصة ظاهرة ادباء المنفى ،كان البعث والقمع شرطان موضوعيان لنقلة شعرية خاصة بالعراقيين وكان لها الاثر الكبير على الحركات الشعرية العربية الاخرى . نالت مصرالثقافية من الرأي ما نالت ..،كان الشاعر المضياف عزيز منتبها لوجود حسونة المصباحي وشاعر تونسي اخر على طاولة اخرى من المطعم ،اشارللنادل ان يخدمهما على حسابه ،نهضنا ..عزمنا المغادرة ..كان حسونة ومواطنه يواصلان حديثا خاصا بهما ،تكفل عزيز باصرار بتسديد ماطلباه ،خرجنا وفي الطريق لامني عزيز على فرضي لموضوع سياسي على مائدة الشعراء.

في الغذ ..استمعنا لامجد وسركون واخرين في امسية الشعر بحديقة حسان، انتهت الامسية وكنت منهمكا في حديث ثنائي وثلاثي ورأسي يدور ..اذا بي اسمع صوتا اشوريا بلكنة شرقية يناديني *رشيد..رشيد* ،صافحني سركون بحرارة . منذ ذاك لم اره سوى في دواوينه وقصائده المنشورة هنا وهناك .تنبعث اخباره عن طريق عزيز وحسن الوزاني ..

سمعت عن وعكة في القلب ..ليخبرني الشاعر والمترجم رشيد اوحتى * الذي اعد انطولوجيا الشعر العراقي الحديث مترجمة الى الفرنسية * بوفاة الاشوري الرائع ، لم اهضم الخبر ..قلت : كم هي مخادعة هذه الحياة.. انقبض صدري وتغضن قلبي حزنا ..لم افهم كيف يرحل عنا سركون بولص دون ان نراه ثانية في المجلس والزردة وحسان ..ترى هل يمكث سركون في مدينة اين ..هل وصل اخيرا.

رشيد ازروال

شاعر من المغرب

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved