ذكرى من صمغ

2020-06-05

سيتذكر عادل ذلك المساء العذب من شهر حزيران بعد سنوات طويلة وهو يتنقل من عالم إلى آخر، كالمتشرد الأعمى تحت الشمس المثقلة، يمضي أيامه دون ان يترك عنوانا على أرصفة الزمن . بينما كان يبحر في ضياء هذا العالم الجديد كسائح مجهول، تبدأ آثار الأقدام بالإمحاء من الذاكرة. وفي زحمة الشوارع والسيارات المجنونة ينتابه الشعور بالضياع في متاهات الريح، مكسواً بغبار الكلل، مترقباً انقشاع الغمامة . كل ذلك يثير الكآبة، وكأنما يعيش في جوِ خانق من العزلة والنسيان . ورغم ارتفاع الموج، ولكن كان بإمكانه الشعور بأنه لا يزال يتنفس .

 كان يقضي يومه متجولا في أرجاء المدينة كجندي مجهول على أرض لا ينتمي لها، غريب لا يحمل بطاقة تشير إلى وطنه، إلّا ان جروح الوطن تطفح ندبات  أنينها على مرافئ الإنتظار .

 دُمَرْ گازية، المحطة الرابعة في حياته الصاخبة . منطقة صغيرة تقع على أطراف دمشق مؤلفة من بيوت ليست في تناسق هندسي . وعلى جانب الطريق وتصاعداً باتجاه المرجة، مركز المدينة، تزدحم بالمطاعم  الفاخرة في الهواء الطلق تعج بالزبائن ليلا مع جلسات ممتعة، تقدم فيها مشروبات روحية وعشاء طازج، لذيذ . هذه الأماكن في الأغلب يختلف اليها رجال أغنياء وأصحاب أموال .

 في إحدى الليالي والسماء يغطيها الصمت، يتوسطها القمر، تزينها النجوم المتناثرة، أنوارها  تشق غمار الليل . ارتاد عادل مع صاحبه صلاح الذي يعيش معه في نفس المنزل إحد المطاعم الراقية الواقعة على مسافة ليست بعيدة عن الدار، رغبة منهم أن يعيشوا بعض اللحظات الباهرة، الممتعة في جوِ مختلف، رغم أنهم يعانون من وضع اقتصادي متردي . شعر في غمرة هذه اللحظات وكأنه تحرر من أعباء الحياة اليومية المعقدة . أحس بنوع من الحماس يغزو قلبه ويسري في عروقه، ويرسل الطمأنينة إلى روحه .

 بعد أن تم الترحيب بهم، طلبا لكل منهما زجاجة بيرة . وظلا لساعتين يتبادلان أطراف الحديث عن الأمور السياسية والأدبية وصوت أُم كلثوم مع أُغنية لسه فاكر يصدح في أرجاء المطعم، يحتسون على مهل، وزجاجة البيرة لازالت مملوءة إلى أقل من نصفها . كان النُدُل يراقبون المشهد عن بعد وكأن لا أحد في المطعم غيرهم . كانت علامات عدم الرضا واضحة على وجوههم من خلال الإبتسامات المصطنعة . كانوا يحملقون فيهم عن بعد والزجاجة بالكاد تتناقص . وبين حين وآخر، يتم إحراجهم بالاستفسار فيما لو كانوا بحاجة إلى المزيد . وكانت الإجابة : لا .. شكرا .        

  عادل شاب يبلغ من العمر ثلاثين سنة، متوسط القامة، شعره الإسود كثيف مفروق في منتصفه بشكل مستقيم، نحيل الجسم، رشيق، طبعه عنيد، اجتماعي، بشوش، أبيض البشرة،  وتحت أنفه البارز شارب رفيع . وعلاوة على ذلك كان بالغ الأناقة والثقة بالنفس، يتصرف بجلالة جديرة، ملامح وجهه توحي للآخرين أصغر من عمره بكثير.. كان يتميز بصفة عدم الإنجرار والإندفاع بسرعة نحو النساء، ويتعامل معهن باحترام وحذر .

  كالعادة استيقظ عادل صباحا على صخب الساكنين معه في نفس الدار، راح يتقلب ويتلوى في فراشه،  ويدس رأسه تحت  البطانية العتيقة، ربما تصد عنه الضوضاء والجلجلة في المطبخ، وصوت عدنان الجهوري، وكأنه يخطب إلى جمهرة من الناس . كان يحلم ولكنه لا يتذكر منه شيئا . حاول أن يواصل التفكير في الحلم ولكن خانته الذاكرة، حتى الأحلام أصبحت ماركة غالية، تتلاشى مع اليقظة، سراب في صمت القبور، وكأن أحداثها  أحاطها  طوق من الجدار السميك . ومن خارج الدار تخترق الجدران صدّاح  المارة  في الدربونة الضيقة، حيث يقع  محل ابراهيم في نهاية الزقاق، وهو فلسطيني سوري . ابنته كانت مراهقة جميلة بعينيها العسليتين الواسعتين، وبنيتها الفارعة، ناصعة البياض، رشيقة . يراها أحيانا عندما تخرج إلى المدرسة او عندما تعود منها . والدكان يقع بجوار البيت .

  الحياة دبت في أحشائه نوعا ما . في البداية كان يشعر بصعوبة أن ينام برخاء ويحاول استدراج النوم ليأتي اليه، لأنه لم يتعود على هذه الحياة العصرية لفترة طويلة ولم يلمس امرأة بعد أن أمضى عمره بين الوديان والجبال الشامخة والمنعزلة عن أي تماس مع التحضر .

  ما ان غطى الليل حتى يشعر المرء بحيوية الحركة في الشوارع والساحات العامة . ذابت ثلوج الحزن والقلق واستوطن الحلم والأمل . زال الدم من الطريق، ولكن بقع حمراء، آثارها لا زالت باقية على جدران الذاكرة .

كان ينظر إلى السماء فوجدها زرقاء صافية، و أسراب من الطيور تلقي باعلى صوتها أُغنية تتناثر الحانها الفضية في الفضاء على هدير نهر بردى، وكأنهما يوحيان بخبر مفاجئ . وبينما عادل عائد عبر الشارع المقابل لنهر بردى الشهير في دمشق من المركز الثقافي السوفيتي الواقع في وسط المدينة، في طريقه إلى البيت والكائن في منطقة  دُمَرْ گازية، مستغرقا تماما في تأملاته الخيالية والرياح راقدة في هدوء ساكن . وإذا بصوت نسائي ناعم يخترق الصمت . كانت هناك اشراقة عذبة تداعب وجهها وتضفي على نظرتها شيئا من الحزن ولكن ثغرها يضيء تفاؤلا :

                 - مرحبا  

                 - مرحبا

      - ممكن ان تقول لي كيف لي الذهاب إلى مساكن برزة

      - عليك بالذهاب إلى الجهة الثانية وتستقلي الحافلة…  وهو يشير بيده باتجاه المحطة .

        وبعد أن أوضح لها عن الطريق في بضع كلمات بلهجتهِ .

        وفجأة قالت مستفسرة :

                - انت من دير الزور .

                - لا، أنا عراقي .

      - أهلا وسهلا . لأن دير الزور يتكلمون بنفس اللهجة .

      - نعم .

      - يبدو عليك لست قديما هنا .

      - نعم وصلت إلى سوريا قبل ستة أشهر .

      - صعب وبدون عائلة .

      - نعم .

      - إن لم  يضايقك الأمر، إلاّ ترشدني الى المكان . أنا من مدينة درعة .

     - أهلا وسهلا ..  كلًا لا أمانع .

    بعد صمت قصير وهم يمشون جنبا إلى جنب . هتفت بصوت خافت ومدت يدها نحوه وقالت مع ابتسامة عريضة :

     - انا اسمي رواء .

     وفعل هو  نفس الشيء وقال :

    - عادل .

   - تشرفنا .

   - اهلا وسهلا .

رواء شابة في العشرينات من عمرها قصيرة القامة، ممتلئة، شعرها اسود كالفحم، لها بشرة صافية، سمراء كخبز التنور، عنقها بارز، جميل جدا، وتحت الحاجبين تبرز عينان سوداوان، واسعتان وهادئتان . ذقنها مستديرة . أما شفتها العلوية منتفخة قليلا بسبب طقم اسنانها الأمامية، لكن أسنانها كانت جديدة لامعة، انفها عريض ولكن ليس كبير، أشبه إلى حد ما بالفتيات من جنوب شرق آسيا، أما جبهتها لا عريضة ولا ضيقة . جسمها رشيق يزينه ثديين بارزين .

قبل أن يبحر الغسق في عتمة الليل ويتأرجح في نسيم المساء، كان يشغله فكرة الرجوع إلى البيت . آخر حافلة الساعة الحادية عشر مساءً.. كان يخشى أن لا يغيب عن الحافلة الأخيرة إلى دُمَرْ گازية .  وإلا فانه  سيتعين عليه العودة إلى المنزل بسيارة أجرة . وهذا يعني أنه بالنتيجة عليه دفع أموال إضافية لا يستطيع تحملها .

رواء كما لو كانت في مقابلة تلفزيونية وعليها أن تخبره كل شيء عن دقائق حياتها . راحت تتحدث عن نفسها بالتفصيل . إنها حامل في الشهر الثالث، وزوجها كان طيارا، وقد توفي بعد سقوط طائرته في دورة تدريبية، وأنها تبحث عن رجل كبير في المخابرات السورية وهو يعيش في مساكن برزة، وإنها عانت الكثير من المتاعب بعد الحادثة .

كانت تقوم بسرد حكايتها بشكل متسلسل ككاتب موهوب قادر على اختيار كلماته . وأمور أخرى كثيرة تتعلق بحياتها الخاصة دون انقطاع . وتموج فكره لإيقاعات حنجرتها وهي تبث حكايتها اليومية بنهم . وفي نفس الوقت تابعوا طريقهم باتجاه موقع الحافلات . بينما عادل لم يكن في جعبته ما يثير رغبتها . ربما لم يتاح له الفرصة ليقول شيئا عن نفسه وإن أراد قد يبدو سرده شيء سخيف . هل يقول لها عن سنوات التحدي في مواجهة الموت أم عن حياته الحالية وهو يدور في الشوارع دون هدف، ويعيش في منزل يتقاسمه مع أربعة آخرين . بل كان يفضل نسيان الماضي والخوض في الحاضر والمستقبل . تراجع قليلا وضحك في نفسه . لم يملك حاضره، فكيف له أن يبحر نحو المستقبل الذي لايرى في الأُفق أي امتداد له . ومع ذلك كان يتمتع بصفة مؤثرة جدا، حيث مظهره الخارجي وأُسلوبه في الكلام يخلقان بسرعة جوا من الثقة . يجعل النساء يشعرن  معه بالأمان .

وبينما يشق الإثنان الطريق كانت تتحدث معه وكأنما يعرفان بعضهما البعض منذ وقت طويل . وأثناء محاولة عبور الشارع توقفا لبرهة ومال عادل بجسده قليلا واشرأب عنقه إلى الأمام، مدّ يده إلى الخلف باتجاهها كمن يطلب منها التريث وهو يلقي بنظره يمينا وشمالا ليتاكد من خلو الشارع من السيارات وفوجئ بتلامس راحة يدها بيده الممدودة إلى الخلف حتى تشابكا، وكأنما طفلة تخشى أن تضيع في زحمة الطريق . شعر للحظة أن وهج جمرتها قادر على  تحريك الخيوط الصدئة التي ظلت راكدة لسنوات من الإهمال . خيط من الدفء تسرب من كفها، انساب منه ومض مفعم بولادة علاقة إنسانية ورسائل محمومة . وظل شابكا يدها على مدى مسافة الشارع إلى الإتجاه الثاني . حرر عادل كفه بهدوء وتصرف بشكل طبيعي وكأن ماحدث لم يكن سوى لحظة عابرة . كان بعيدا عن أساليب الحيل، تصرفاته تنم عن البراءة المطلقة وحسن النية، ويؤثر على عقولهن بملاطفاته الهادئة .

وبعد أن  وصلا  إلى المحطة . كان هناك عدد قليل من الناس في انتظار وصول الحافلة . وظل واقفا معها وهما يتبادلان الأحاديث، وفي الأغلب كانت لرواء الصدارة . وعندما ظهر على مدى النظر وصول الحافلة، طلبت منه أن يكمل جميله ويتابع الطريق معها من أجل البحث سوية عن الشخص المعني في المخابرات إن لم يزعجه الأمر .           

والحقيقة أثار في نفسه بعض التحفظات وخاصة عندما أفصحت له عن غايتها من الزيارة . كانت ترعبه الأجهزة الأمنية وصيتها . ومع ذلك كان يثيره بعض الشيء أن يخوض غمار هذه المغامرة، علاوة على ذلك كان لدية فائض من الوقت، ولم يتجرأ على الممانعة . لم يعرف دوافعها، ربما بسبب أن الرقة الانثوية ، تُطلق رائحةً تطمئن القلب ويزداد عبقها كلما تسربت عبر مسامات الجسد وتثير الذهن، أم هي لبوة صغيرة مثيرة للشفقة .

كانت في الساحة الصغيرة مجموعة قليلة من الناس، سرعان ما امتلأت بحشود كبيرة  تقاطروا باتجاه موقف الحافلة من كل المنافذ المؤدية إليها مع صرخاتهم وقهقهاتهم تصدح في أرجاء المحطة . وصلت الحافلة وتزاحم الناس على الصعود، اصطفا في الطابور، وتحركا بخطوات وئيدة تتناغم مع حركة الآخرين . عادل وقف خلف رواء واضعا يده اليمنى على كتفها  اليمنى، ويخطو مع خطواتها، كما لو أنها دليل الطريق . أما رواء فلم تبدِ أية ممانعة لتلك الحركة .  صعدا إلى فناء الحافلة الذي كان مكتظا بالركاب من مختلف الأجناس والأعمار إلى مساكن برزة . اتخذا مكانا بمحاذاة النافذة قريب من المقعد الأخير ووقفا هناك، عادل ظهره إلى النافذة ويده اليسرى يمسك بالعمود  الممتد في سقف الحافلة وبينما رواء تقف على مسافة شبر من عادل، بعد أن وقفت وجهًا لوجه أمامه، تحركت أوراق هواجسه، فسمع منها حفيفا، بحيث تصل إلى إحساسه أنفاسها الهادئة مع كل هزة تصنعها الحافلة .

كانت نظراتها قد أيقظت عواطفه وأشواقه التي ظلت راكدة في مستنقع النسيان . ومع كل خاطرة موسيقية تنسل إيقاعاتها عبر خطوط وجدانية فتملأ فضاء الحافلة بعبق وجودهما . رواء شعرت في لحظة أنها في كنف أسره، وهذا الإحساس بات ينمو كلما طالت رفقتهما . عادل دفن مشاعره في أعماقه التي ظلت ساكنة دون أن تطفح على السطح . تجتاحه أحيانا فكرة تحطيم هذا الجدار المصطنع لكبريائه المفرطة التي تعيقه من أجل الحصول على غمار اللذة .

راح يتأمل قسمات وجهها وحركة شفتيها تحوم في الهواء في هذه الرحلة القصيرة الطويلة، وكأنه يدون ملامحها في مخيلته، وبينما هي في حماس شديد للبحث عن أية حكاية لتبقي خيوط التواصل مشدودة . وفي هذا الوقت غاص عادل في العمق وذهنه شارد، بعيدا هناك تحت المياه، ودخان النشيج يتبدد في كثافة الضباب . كلما رفعت عينيها والتقت عينيه، أشاح عنها نظره وتظاهر بجدية الإستماع إليها . كان ما شد انتباهه تصاعد تنهداتها كالبخار الحار، وارتفاع صدرها أكثر مما هو أساسا مرتفع . وحيال مرأى هذا المشهد، أحس بجلده يقشعر، وكأنه في العراء عاريا في جو جليدي . أسلم نفسه للصدفة مفعما  بشعور ملهم، ولحظات سرمدية .

هذه اللحظات ربما بثت في نفس الفتاة بهجة الحياة، على عكس عادل الذي لم يتكامل لديه هذا الإحساس المفاجئ، لأن رأسه لم يكن ممتلئا بأفكار خيالية لا تمت بصلة للواقع . التجارب السابقة تمخض عنها موقف ثابت في نظرته إلى العلاقات الغرامية.. بالرغم أن عادل كان بحاجة ماسة إلى تلك العلاقة الإنسانية، إلّا أنه لم يرَ فيها المرأة المثالية أو فتاة أحلامه . إنها مجرد نزوة عابرة ونسمات ناثرة تتبدد مع انتهاء دورتها . ربما كان يفكر أن يرتبط بها وخاصة هي كانت على أهبة الإستعداد لذلك، لولا أنها كانت متزوجة طيار يرقد تحت التراب  وتبحث عن رجل مخابرات، علاوة على ذلك حامل في الشهر الثالث . وأثناء سير الحافلة واهتزازها، كانت تمسك بذراع عادل بين فينة وأخرى كي لا تتأرجح مع تأرجح الحافلة . وفي إحدى المنعطفات الحادة كادت رواء على وشك أن تقع، بادر عادل بجرأة أكبر وذلك بوضع يده على كتفها العاري البعيد ناصع كضوء القمر، وطوقها نحوه، بذريعة مسكها كي لا تقع . هذا الإحتكاك سرب صعقة حميمية إلى أوصالها وكأنما نفض عنها الغطاء ليكشف جسدها العاري . لصقت رواء راسها بصدره حتى ترامت إليها دقات قلبه، لم يدم طويلا . حرر عادل قبضته، أرجعت رواء جسدها إلى الخلف قليلا مع ثبات قدميها دون حراك . رفعت راسها والتقت عيناهما في نهر من التساؤلات، وقعت نظراته على شفتيها النديتين، وفي هذه اللحظة انزلقت كفها اليمنى في راحته ووضعت راحتها الأخرى على يده بحنان حتى شعر عادل بقبضتها . هذه الحركة أغرقته في بحر من الذهول، وكأنها اخرجته من الأزمنة الأُخرى وجعلته متيقظا مصحوبا بحيوية المشهد. راح يؤنب نفسه على ممارسة الزهو بدلا من الإندماج في عالم الحب . ولكن ظل متمسكا بشروطه الذاتية في نظرته إلى الأُمور .

توقفت الحافلة عند احدى المحطات في مساكن برزة، المنطقة التي كانت في يوم ما محطته الثالثة. عادل ورواء كانا قد وقفا قرب الباب استعدادا للنزول. سمح لها أولا بالترجل من الحافلة  وذهب خلفها. جالا سوية  في الازقة  بحثا عن منزل ظابط في المخابرات ورواء لا تعرف عنه شيئا، بل لم تلتق به سابقا، حتى لا تتخيل كيف يبدو مظهره. ولكن عادل كان له صورة اخرى عنه ، قصير الطول، له شارب ثخين وعريض، وكرش كبير، ومتعجرف. سألت رواء بعض المارة عن خليل عبد السلام، ينادونه : أبو راوية. كانت الإجابات واحدة .. لا نعرف. ودام البحث أكثر من ساعة دون جدوى.

              كانت المصابيح المضاءة من اعمدة المتراصة قد عكست ظلهما على أرض الشارع. وقد أقلقته الاحساسات الثقيلة، والمخاوف المجنونه، وفتاة يائسة  تنتظر  منه الإنقاذ. وهو يحدق في ساعته القديمة. الوقت يمضي وهي لم تصل الى غايتها. نظر اليها وسيل من العرق المتصبب يتدفق من عنقه وينساب نحو عموده الفقري، وإذا بريح خفيفة تسربت عبر مسامات قميصه فاحدثت في جسده رجفة خفيفة. أحيانآ يشعر الانسان ان شيئا ما ينقصه ولكن يجهل اسبابه، نظراتها اليه وتقربها منه جسديا، ربما لم يكن لهما بُعد عاطفي، وإنما املاء الفراغ الكبير الذي تركه زوجها الراحل في حياتها، لاسيما لم يمض على وفاته سوى ثلاثة أشهر وفقا لبيانها . فهي بحاجة الى مَنْ يطرح عن كاهلها الأحزان المتراكمة . فهي اشارت أيضا من خلال قصتها عن التعامل السيئ معها من قبل عائلة زوجها. كان يعزي أسباب ملامستها له هو احساسها بالامان، احساسها بالحنان وكأنما تريد ان تعبر باللمس عن مشاعرها. كانت جملة من التكهنات قد توالت أفكاره .

وفجأة وكأن حلقها قد جف وصوتها رانت عليه بحة غريبة، وسمة الخجل ارتسمت على وجهها، تزاحمت الكلمات على لسانها في باديء الأمر، تنفست الصعداء، عادت إلى نفسها بعض الثقة وتتابعت كلماتها بانتظام :

                 - الوقت متأخر وعليّ البحث يوم غد مجددا .

             وسكتت للحظة وكأنها تريد ان تقول شيئا او تفصح عن امر، تشعر بثقله .

              واستغل عادل لحظة سكوتها، وسألها إذا هي بحاجة الى مساعدة أخرى .

               هبطت رأسها قليلا وعضت  شفتها السفلى من الداخل و فوجئ بسؤال لم يتوقعه :

           - انت كنت رائعا معي كل الوقت . وشعرت بإحساس جميل بانك إنسان طيب وتحب الخير، وهذا الموقف خير مثال على ذلك . هل بإمكاني ان أقضي الليلة معك في بيتك ؟ .

              وقالت العبارة الأخيرة بصوت خفيض .

           أردفت قائلة :

           - عفوا، لحين يوم غد. لا أعرف أحدا في دمشق سوى أبي راوية .

           اجاب عادل بنبرة فيها الأسف :

           - شكرا على اطرائك وانت أيضا كنت رائعة جدا . ولكن مع الأسف انا أعيش مع أربعة اخرين في الدار .

             قالت وبحزن :

          - لا. كنت أتصور تعيش لوحدك. شكرا… على كل حال… احاول ان اجد حلا .

وعانقها عادل بحرارة، وأحس براحتيها تطوق ظهره بقوة . وقال لها :

           - اتمنى لك حظا سعيدا . إلى اللقاء

كانت عيونها تقول له اريد أن أراك مرة أُخرى، لكن عادل كان في عالم آخر . وعاد أدراجه كالشبح يسلك نفس الطريق، كما فعل قبل عدة ساعات، وإنما بعكس الإتجاه، ولكن هذه المرة وحيدا . انتهت رحلة الصداقة في منتصف الطريق وهكذا  افترقا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved