تشارلز ديكنز .. معرفة الحياة عن طريق الكتابة !

2010-03-15
في وقت كانت شوارع مدينة لندن عام 1861 مكسوة بالتراب والروث ، كان ديكنز يقف امام الكاميرا ويداه في جيبه ونصف ابتسامة ساخرة تتلاعب عبر شفتيه ، وملابسه ، شعره ، رتبهما بعناية اكبر على نحو غير عادي ، حذائه لامعة كأنهما اثنان من الشلنات الجديدة .
ديكنز في وعيه الذاتي قد لايشكل مفاجأة للقراء بقدر ما كانت تشكله شخوصه من حرج لطبقات معروفة في الوسط اللندني ، كما كشفت تلك الشخصيات في ورقات قصة رجل ينتحر بحشر رأسه في انابيب المياه ، ويقدم اعترافا كاملا في التمهيد لقصته " الآمال الكبار " حيث يختلط الأنين بالضحك وبطريقة جافة ومشبوهة ، ديكنز يختلق هذه النكات وهو اكثر عصبية كما كان صديقه وناشر أول سيرة لحياته " جون فورستر " يقول .
في سن الثانية عشر عانى من الفقر بسبب والده الذي أشهر افلاسه ودخل السجن بسبب ديونه، فوجد نفسه يعمل في مستودع لإنتاج سائل تلميع الاحذية تملئه الجرذان الموبوءة ، واستمر في هذا العمل قرابة عام كامل لكنها تركت على خياله ندوبا لم تلتئم ابدا وسببت له غضبا على ما يعانيه من ظلم اجتماعي وحساسيته لمصير الاطفال المتخلى عنهم ، وقد علمه المكوث في الفنادق اشياء لم يكن ليتعلمها بسهولة ، منها الطعام وكيفية الحصول عليه ، وترويضه لحياة الفوضى التي كان يحياها حتى تمشيطه لشعره اصبح من اولويات اهتمامه بحيث ان كل شيئ كان دائما يعني له وضعه في مكانه الصحيح .
سعى ديكنز في كتاباته ايضا الى خلق النظام من الفوضى وأمر من هذا القبيل يقوده في كثير من الأحيان الى الكفاح وقد وصف نفسه ذات مرة بأنها مثل حيوان متوحش وانه لايزال يشهد توترا لجذب كل الاشياء نحوه وهو ما يعجّل بقرب نهاية حياته وعلى وجه الخصوص عندما قام بجولة في البلاد وأدى بعض القراءات أمام الجمهور لكنه بدا مضطرا لتكرار جريمة قتل نانسي في " أوليفر تويست " بعدما رأى من مجتمعه القتل اليومي لعشرات الناس وبحجج مختلفة ، وليلة بعد ليلة ومثل سفاح اصبح نوعا ما تختلط شخصيته بشخصيات جحيم دانتي حتى يصف خياله باعتباره قاطرة قوية سرعان ما تنفجر أو تحيد عن مسارها .
في سيرة حياته يصف " مايكل سلاتر " وبواقعية ديكنز وكيف طور شخصياته ففي عام 1836 بدأ في نشر كتابه الأول والذي قدمه على استحياء بأسم مستعار لأنه كان يخشى الفشل ، إلا ان المفاجأة اظهرت غيرما توقعه ديكنز حيث استقبل الكتاب بحماس ، وهكذا بدأ اسمه يلمع في الاوساط الأدبية ولأنه مولع بأن يضفي نوع من الغرائبية على اعماله وحياته فابتكر " بيكوك " تلك الشخصية التي حازت على اعجاب القراء في مختلف انحاء بريطانيا وزادته شهرة .
في حديث سلاتر عن تصرفاته الغريبة والمريبة تتضح للقارئ التركيبة التي جُبل عليها ديكنز منذ دخوله مخزن الطلاء الأسود ولم تفارقه حتى وهو يغادر منزله في كل ليلة في منتصف ليل لندن البارد ليسير في شوارعها قاطعا مسافات طويلة وبلا سبب مقنع لتلك النزهات الليلية ، أضف الى ذلك انه كان لايبالي في ان يتثائب بفم مفتوح وهو ما يعتبر من الموبقات في المجتمع الإنكليزي المحافظ ، ويذكر انه في احدى الحفلات التي أقيمت لأجل تكريمه في امريكا قام بإخراج مشطا وبدأ يمشط شعر ذقنه المعروف وشاربيه وأمام أعين الحاضرين دون أية مبالاة ، وعلى الرغم من كل التصرفات الغريبة فقد كانت شهرته تزداد مع كل كتاب جديد له وكان قراؤه ينظرون اليه على انه ضمير الأمة الذي يتكلم باسم الملايين ، هذه الجموع الغفيرة من قرائه كان يجمعهم به ذلك التفاعل المذهل وهوعلى منصة الخطابة يستمعون منه لفقرات من اعماله وكان لهذه القراءات وقع السحر على نفوسهم ، لكنها لم تداوي ذلك الجسد العليل الذي بدأ يعاني من الإجهاد حتى توفي بالسكتة الدماغية عام 1870 ليوارى الثرى في ركن من كنيسة وستمنستر بإنكلترا .
كتب ديكنز خمسة عشر رواية كبيرة على رأسها " ديفيد كوبر فيلد " عام 1849 و "قصة مدينتين " عام 1858 ولايزال الجانب المرئي من شخصيته غريبا حتى في علاقاته العاطفية التي بدأت بأول تجربة حب مخيبة للآمال ، وزوجة بلا حب ، وحب في آخر مشوار الحياة .
ديكنز يعيده " روبرت دوغلاس " الينا مرة اخرى حتى نتعرف على سيرة أديب وروائي ومسرحي حاز على شهرة كبيرة أهلته ان يأخذ مكانة شكسبير بعد رحيله .
الهوامش
مايكل سلاتر / صحيفة الديلي تلغراف اللندنية
أحمد فاضل

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved