أول الكلام : مضى زمن طويل لم أتواصل في الكتابة عن الذكريات حتى نسيت أي عدد بلغت ! وهكذا قدّرت الرقم 45 تقديراً قد يحتمل الزيادة بواحد أو اثنتين ! فقد خمّنت أنني قد وفيّت ذماماً؛ بيد أن الذكريات تنبض أحياناً في قعر الذاكرة فتطفو على السطح، وتبدو على الأغلب كغيوم متفرقة تتصل مع بعضها البعض لتُكوّن سحابة داكنة حتى إذا ثقُلت هطلت صَبيباً أو غيثاً عميماً ! وزِدْ على ذلك أن بعض الأحداث اليومية التي تبدو عابرة تحفز الذاكرة على التذكر، على أن خير من وصف الذكريات موجِزاً أحمد شوقي في كافيته التي أبدعت فيها فيروز، حيث قال :
مَثّلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى – والذكرياتُ صدى السنينَ الحاكي
ولا أعرف أقدم مَن تذكر شعراً كتذكُر عنتر بن شدّاد في معلقته :
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ – منّي وبيض الهند تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها – لمعت كبارق ثغركِ المُتبسمِ
وغنتها أيضا فيروز وكم تمنيت ألا يغنيها ملاك مرهف رقيق مثل فيروز، فإن غنّاها رجل كفهد بلان فهو بلا شك معذور !
***
قبل أيام ثلاثة، خرجت أتمشى في يوم صحو تبدو شمسه الذهبية مغرية رغم أن درجة الحرارة تدنت تحت الصفر بسبع درجات مئوية، فخرجت أتمشى مُحصّناً بمعطف كشميري، وبقلنسوة من فراء الثعلب، ناهيك عن قفازين جلديين، وحذاء شتوي مُجرب في أيام الثلوج ! نزلت نحو الوادي ومشيت بمحاذاة نادي الكلاب الذي كان خلواً من أي كلب على غير عادته، وكان عليّ أن أصعد مرتفع حاد، تأملته وإذا تحت وفر الثلج جليد كأنه زجاج، فترددت بين أن أصعد ارتفاع ثلاثين متراً وبين أن أمشي مسافة خمسمائة متر، في طريق مثلج لكنه غير خطر، فجازفت الصعود بحذر، حتى بلغت المرام.. حيث الطريق ذو ممشى نظيف أمين، وانتابني زهو فقلبت مثلاً سائرأ إلى : اطفر نهر ولا تمش شهر!!
وهكذا تذكرت الصويرة وسوّاقها الذين لايتجاوز عددهم العشرة على طريق بغداد بسيارات ( قمارة) تتسع لستة ركّاب بضمنهم السائق، وكنت أعرف السواق على هذا الطريق بالأسماء والوجوه والشمائل، وكان يومئذ طريق بغداد غير مبلط ولايوجد جسر بل عبارة تتسع لست سيارات لعبور النهر، تبعد عن المدينة بحدود خمسة كيلومترات، ثم يُستأنف الطريق الترابي بحوالي خمسة عشر كيلومتراً أيضاً حتى نبلغ منطقة القطعة، وهي التي تشير إلى البصرة جنوباً والى بغداد شمالاً وبذلك يكون الطريق المفضي إلى بغداد عند منطقة السيد سلطان علي وسط العاصمة ! وحين أصف الطريق بالترابي فهو مسحوق من طين جاف يُشبه " بودرة الطلق" التي تُرش بين أفخاذ الرُّضع للحماية من الاحتقان الجلدي ! ومن يسافر إلى هذا الطريق ذهاباً أو إياباً سيكتسي بهذا البودر من شعر رأسه الى حواجبه.. حتى الملابس الداخلية ما لم يتلفع برداء ! أما في الشتاء المطير فيتحول الطريق الى رائب بني اللون ! لذا فإن السفر إلى بغداد رغم قصر المسافة 55 كم يكون مشروعاً لا بد من الإعداد له مُسبقاً !
أما الطريق الى الحلة فلا تُعرّف مسافته على وجه الدقة، ذلك لأنه لا يوجد طريق بالمعنى المعروف للكلمة، إنما أراضي زراعية مقسمة إلى سواقي وألواح فعلى السائق أن يختار الأرض الملائمة ويبحث عن أماكن جافة، ولطالما تطمس عجلات الباص الخشبي، وينزل الركاب ويدفع الرجال حتى إذا اندفع الباص سمعت الصلوات من جميع الركاب وقد تميل السيارة وهي تجتاح ساقية جافة، وقد يزداد الميل وتسمع النساء : علي علي يابو حسين إحنا زوّارك إن كان المقصد يتعدى الحلة ومواصلة سيارة أخرى إلى النجف ! على أن الظيق سيكون معبداً سالكاً من مشروع المسيب حيث يتصل بطريق بغداد؛ وكان سائق الباص على الأغلب " طوير" وفي الحقيقة كان إسماً على مسمى ! كنا نركب بحدود التاسعة صباحاً فنصل النجف في السابعة أو الثامنة ليلاً بعد توقف قصير لنأكل كباباً سائغاً ونشتري "بقصم" شهيراً في باب المشهد، والمشهد هي النجف حيث هناك كراج سيارات الحلة - النجف، وهناك يقع سجن الحلة الشهير حيث كنا نزور الوالد المعتقل في عام 63 إثر انقلاب 8 شباط الدموي ! ثم عوضناها لاحقا بباص مصلحة نقل الركاب فهو ينطلق بأوقات محددة ومريح وسريع ومأمون لأن السرعة محددة كما الأجرة !
كنت أتمشى والذكريات تنثال، وقد تذكرت السواق، وأكثرهم تأنياً وتقوى وهدوءاً واتزاناً هما مصطفى ترك، الذي سبق أن كتبت عنه، والحاج بنّي، وأكثرهم تهوراً وعلواً في الصوت ناجي الملقب " دُمْ دُمْ" فهو يمشي بسرعة عالية ولا يُبقي أحداً خلفه، ولطالما يجازف في صعود العبارة ليسبق الآخرين، وهو من عائلة كريمة متعلمة لم يحالفه الحظ في الدراسة.. ومن الدلالين شخصان من السوامرة أحدهم جبار، المعروف بعقاله المميز وغترته البيضاء، وكان ذا صوت جهوري يسمع من بعيد، على خلاف الرجل الهادىء الوقور أبو زاروق، وهو لقبه ولا أتذكر اسمه.. ونحن على علاقة مع عائلته لأن زوجته صديقة أمي..
ومن يكون حظه مع السائق الحاج بني عليه أن يحسب لقطع الطريق بما يقرب بساعتين بدلاً من الساعة، وعندما يستحثه الناس بعد طول سأم، كان الحاج بني يجيب بصوته الهادىء الوقور بحكمة يرميها على إذن الركّاب : إمشي (إمش) شهر (شهراً) ولا تعبر نهر (نهراً) ثم يواصل سياقته بالسرعة ذاتها غير عابه لإلحاح الركأب ! ومرة كان الراديو يبث تقاسيمَ رائعة على العود للموسيقي الذائع سلمان شكر والركاب يسمعون وكأن على رؤوسهم الطير، حتى سمعنا صوت أبي غانم الذي كان في سخط وتلاسن حول السرعة البطيئة مع الحاج بني محتجاً على هذه الطنطنات المابيها معنى " على هذه التقاسيم عديمة المعنى"، فكان رد السائق وقوراً حاسماً . لست وحدك الذي يقرر وإنما هذه الطنطنة قد تعجب الآخرين ! وهنا سأل الحاج بني : شتكولون نغلق الراديو : فصاح الركاب صيحة رجل واحد لا حجي لا بل علِّ الصوت، وفعلاً علّى صوت الراديو واستمر الحاج بني يسوق بضمير مرتاح بالسرعة ذاتها !!
كل هذه الذكريات رافقتني وأنا أتمشى حتى وصلت المرتفع الذي صعدته والآن تحوّل إلى منحدر مثل دنيانا!! وانتابني خوف وهكذا شجعت نفسي وقد قلبت حكمة الحاج بني كما أول مرة محاولا ان أتثبت من موضع اقدامي، وما هي إلّا خطوتان وإذا برجلي تنزلق وسحبت وراءها كل جسمي وانزلقت مع "دقلات" بلغت أربعاً أو خمساً.. فنهضت أنفض الثلج عن معطفي ورحت أزحف لجلب قلنسوتي ومازال في ردفيّ عقابيل ألم لم يختفِ يعد !
رحم الله سوّاق الصويرة من رحل منهم ومن أقام..
العاشر من شباط/فبراير 2020