كان حر المدينة على أشده، خرجت من كوت عبدالله متجهًا إلى الكواخة؛ كنت آنئذ ابن الثامنة عشرة .
رفعت يدي مؤشرًا إلى السيارة القادمة، فوقفت أمامي وركبت .
كان يومًا مكفهرًا، طلبت من السائق أن يشغل المسجل لنستمع إلى أغنية ما؛ قال ونظره يراقب الجادة من المارين :
إن جهاز المسجل تعطل اليوم، ولا يفر الأشرطة بتاتا !
رجوته أن يناولني شريطا لعل حظي يشغلها فتُخرجنا من هذا الجو المتعب وتنسينا بعض هموم اليوم .
مد يده تحت كرسيه وناولني ثلاثة أشرطة .
وضعت الشريط في المسجل وحاولت أن أشغله، بدا وكأنه ميت، امتحنت الشريط الثاني والثالث، وعبثا ما حاولت؛ يبدو أنه بحاجة إلى تصليح كامل .
فوضعت الأشرطة أمام السائق على لوحة العداد .
ونسي أن يرجعها إلى مكانها، حيث كانت مخبأة تحت كرسيه .
والكل يعلم أن الحكومة الإيرانية كانت قد حرّمت الموسيقى، سوى الأناشيد الدينية وتلك التي كانوا يسمونها ثورية .
وصلنا إلى حاجز تفتيش، وحاول السائق أن يخبئ الأشرطة، لكن أحدهم رآه .
أمرونا أن نترجل من السيارة، ثم بدأوا يفتشونها حتى أخرجوا الأشرطة المغناطيسية جميعها .
ولولا الأشرطة الثلاثة التي نسي السائق أن يخبئها، لمررنا بسلام .
قال السائق والإضطراب بائن على ملامحه :
إنها أشرطة مآتم ولطم، وبعضها أناشيد الثورة الإسلامية؛ ثم إن جهاز المسجل معطل .
حدج مسؤولهم السائقَ بارتياب ثم قال :
سأمتحن المسجل والأشرطة، فإن كانت كما تدعي، تمرقون دون أن تتعرضوا لأي أذى، وإلّا سأدمرها على رأسك !
نظر السائق نحوي وهمس مبتسمًا : الحمد لله أن المسجل معطل .
ودخل رئيسهم في السيارة ووضع الشريط في المسجل وضغط على زر التشغيل؛
وإذا بصوت عبدالأمير دريس يصدح عاليًا :
(مرمرني الصبر والشوق مرمرني) !
نظر الرئيس إلى السائق شزرا وقال : لابد أن هذا صوت (آهنكران) ؟! (وكان آهنكران منشد الثورة آنذاك) .
ثم وضع الشريط الثاني وكان صوت سميرة توفيق والثالث داخل حسن وهلم جرا .
نزل الرئيس والشرر يتطاير من عينيه، أحضر صخرة – ولم يعر اهتمامًا لرجاء السائق - وأمام أعيننا دمر الأشرطة كلها .
ومن يجرؤ على الإعتراض ؟!
ثم دفع السائق نحو سيارته قائلا : انقلع أيها الكذاب المنافق ! ترتكب الذنوب في وضح النهار، ولا تستحي .
سرنا والحزن رائن على وجه السائق، والإمتعاض جلي على وجهي .
قلت أكلم نفسي :
إن لم يكن هذا، التحجر بعينه؛ فماذا عسى التحجر أن يكون ؟!
وساد السكوت بيننا إلى أن بلغنا الكواخة .