اتّصل أبو مريم في الخامسة عصراً وسألني : هل تذهب إلى مأتم الشّيخ مصطفى مزعل الوادي ؟
أجبت : نعم أذهب .
واتّفقنا أن نخرج عند الخامسة والنّصف، وعند الخامسة والنّصف تماماً سرنا نحو مقبرة الجرف والّتي تقع بالقرب من مطار عبّادان الدّولي .
كانت السّيّارات مزدحمة على جهتي الجادّة، فاضطررنا أن نركن سيّارتنا على الجادّة الّتي تنتهي إلى جزيرة صلبوخ ونترجّل لنطوي المسافة البعيدة تحت حرارة شمس تموز الحارقة حتّى المقبرة .
ووقفنا بالقرب من القبور ننتظر، ونتبادل أطراف الحديث، تكلّمنا حول الدّيانات والهيمنة، والكتب الأهوازيّة ودور النّشر، وكان هناك متّسع من الوقت لنتطرّق إلى مواضيع أخرى أيضاً .
والكلام مع قاسم معرّفي أبي مريم رغم تشعّبه وتفاصيله راقٍ لا يُملّ .
وبعد أقلّ من ساعة جاء المشيّعون يتقدّمهم خيّالة، فداروا حول المقبرة ليدخلوا فيها من جهة اليمين حيث توجد دار أقيمت حديثاً ويبدو أنّ القبر حفر داخلها .
ودخلنا من وسط المقبرة لنلتحق بالحشد المشيّع، كان أبو مريم يتحاشى المشي على القبور فيضع أقدامه بينها، ربّما كان يظنّ أنّ هناك من نحت آية قرآنيّة على صخرة من القبور !
ربما فعلها أحدهم، وقد رأيت قبل فترة في مقبرة شيبان آية نقشت على قبر، وكان النّاس يطؤونها غير متعمّدين، وكنت أحسّ بقشعريرة كلّما مرّ عليها أحد !
والتقيت بابن صاحب القبر وكان رجلا قروياً بسيطاً فذكّرته بهذا الخطأ وشرحت له أهميّة احترام آيات الله وعدم كتابتها على صخرة القبر، فوعدني أن يزيل الآية من الصّخرة ويكتب بدلها أبياتا من الشّعر .
وكنت أقرأ بعض التّواريخ الّتي نُقشت على صخور المقابر، فكان بعضها يشير إلى 30 سنة لا أكثر .
وما جلب انتباهنا هو أن تواريخ الولادة والوفاة والنّصوص والأشعار الّتي كتبت على القبور أصبحت عربيّة كلّما تقدّمنا، بعد ما كانت تكتب باللغة الفارسيّة قبل عقد أو عقدين، ما يدلّ على وعي الشّارع والتزامه بلغته كلّما تقدّم بنا الزّمن إلى الأمام .
وبالطّبع التقينا ببعض الأصدقاء الّذين لا نلتقي بهم إلّا في مناسبات الأعياد والمآتم والأعراس؛ ما يتطلّب منّا أن نبرمج لنزيد هذه اللقاءآت الّتي تنتج منها مواضيع للكتابة، وأفكار جديدة للأعمال الثّقافيّة، وحماس للمتابعة ...
الجميل في هذا التّشييع أنّ المشيّعين لم يرفعوا علم العشيرة رغم أن المتوفّى كان زعيماً للعشيرة . فهل بدأت نداءآت المثقّفين للإصلاح تترك أثرها على مجتمعنا الأهوازيّ ؟ هذا ما رأيته اليوم .
ذهبنا بعدها إلى ديوان الشّيخ والّذي يقع على ضفاف النّهر الفاصل بين الجرف وجزيرة صلبوخ، كانت جميع لافتات المعزّين منها لافتات المندوبين والرّؤساء والمسؤولين خطّت باللغة العربيّة .
لفتت انتباهي لافتة عليها علامة الحظر، وقد كتب عليها نصّ يمنع إطلاق الأعيرة النّاريّة؛ لكنّها لم تمنع الشّباب الّذين كنت أراهم وراء النّخيل بدرّاجاتهم النّاريّة وهم يطلقون النّار في الهواء، ما أدّت طلقاتهم إلى إصابة مخزن محوّل توزيع الكهرباء وإراقة زيته وعطله وبالتّالي قطع التّيّار الكهربائي .
وقد أرسلت شركة الكهرباء محوّلاً آخر فنصبته بواسطة حاملة الأثقال في الفور .
وإطلاق الأعيرة النّاريّة في المناسبات ظاهرة غير حميدة حاول المثقّفون الدّاعون للإصلاح منعها عن طريق كتابة المقالات، وفي المحافل العامّة، وعبر العالم الافتراضيّ؛ لكن هناك فئة من شعبنا لا تقرأ المقالات، ولا تحضر المحافل الثّقافيّة، وقد اختصرت علاقتها بالعالم الافتراضيّ ومجموعات التّواصل في قراءة النّكت ومراسلة أصدقائهم لا أكثر .
فعلى المثقّفين أن يجدوا طريقاً يوصلهم إلى هذه الفئة من شعبنا لعلّهم يستطيعون أن يتدرّجوا سلماً نحو الرّقي، ونحو مجتمع نأمل منه الخير في المستقبل .
وكانت عشرات النّخيل على اليمين وعلى اليسار مهملة وهي تأنّ من الظّمأ وتشتكي من عدم التّلقيح !
واللوم يوجّه إلى أبناء الجرف لإهمالهم هذه الأشجار العربيّة الكريمة .
وعند رجوعنا اقترح علينا المهندس أمير أبو أحمد أن نلقي نظرة على إصطبل الخيل الّذي يقع بالقرب من جسر الجزيرة، ينشط هذا الإصطبل تحت رعاية شركة النّفط، كان البريطانيّون هم الّذين بنوه لرعاية الخيل قبل أكثر من أربعة عقود، يوجد في هذا الإصطبل خمسون حصاناً وفرسا؛ يقال إنّها عربيّة وتشارك في المسابقات .
لكلّ حصان إسم، وحجرة خاصّة، واسم المالك، وعمّال يرعونه .
هناك ساحتان ترابيّتان يتمّ فيهما تدريب الخيّالة، وعند جولتنا كان المدرّب يدرّب فتاة وشابّاً في إحدى السّاحات .
وعند الثّامنة والنّصف، ودّعنا أصدقاءنا ورجعنا .