الحريات الديمقراطية في فلسطين، والرسالة التي لم تصل !

2021-07-06

ما يميز الدولة عن غيرها من الكيانات والاُطر المجتمعية والسياسية، هي أنها وحدها من تمتلك الحق في استعمال القوة ضد مواطنيها، في إطار سعيها لتطبيق القانون والحفاظ على النظام العام.. وخوفا من تغول الدولة بأجهزتها المختلفة، الأمنية والإستخباراتية وغيرها، وتعسفها في استعمل ذلك الحق، وجد القضاء المستقل والنزيه، العادل والشفاف، ليكون حكما بين المواطنين وبينهم وبين دولتهم وبين مؤسسات الدولة وأفرادها.. وهذا هو مغزى الإبتكار العظيم للمفكر الفرنسي مونتسكيو الذي ضمنه في كتابه "روح الشرائح" عام 1748 ومنه قدم للعالم نظرية الفصل بين السلطات .

 ما حدث في محافظة الخليل في الضفة الغربية يوم 24 حزيران أمر يستحق أن نتوقف عنده، ليس من زاوية تصفية حسابات كما يسعى بعضهم إلى تصويره، بل من زاوية القلق والتخوف المشروع من أن تصبح الإغتيالات السياسية ظاهرة قد لا يستطيع أحد تحمل تبعاتها، خاصة ونحن في قلب معركة وطنية ضد الإحتلال ومستوطنيه وممارساتهم في طول البلاد وعرضها..  فقد قامت عناصر من جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية باختطاف المعارض السياسي نزار بنات وقتله دون توجيه اية تهمة له، الأمر الذي ولد نقمة شعبية ترجمت بتحركات شعبية، اختلط فيها حابل الحق بنابل الإستغلال والإبتزاز السياسي..

ومن الطبيعي في ظل اشتداد حدة الصراع بشقيه، مع الإحتلال وعلى المستوى الداخلي، أن تدخل العديد من الأطراف على خط توسيع حدة الصراع الداخلي، بصب الزيت على النار. لكن بالمقابل، لم يُلمس أن السلطة الفلسطينية، بحكومتها واجهزتها وقضاءها، تصرفوا بحكمة تسحب فتيل الإنفجار وتهدئ غضب الشارع الذي لا يستطيع أن يرى أنه وفي قلب الصراع المتفجر في القدس وفي نابلس وفي العديد من المناطق في الضفة الغربية، يأتي بعضهم ليفتعل هذه الجريمة، وكأن المطلوب تحويل أنظار الرأي العام الفلسطيني وشده باتجاه قضايا تلهيه هن معركته الأُسية في مواجهة الاستيطان والإقتلاع والتهجير..

كما أخطأت السلطة مرة أُخرى حين اعتبرت أن هناك من يسعى لاستغلال الجريمة لتحقيق أهداف سياسية . وهذه مسألة طالما حذرنا منها، بأن الهوة بين الجماهير ومطالبها وتطلعاتها وطموحاتها الوطنية، وبين خيارات القيادة الرمسة للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير آخذة بالإتساع . ومن الغباء اعتقاد البعض ان مثل هذه الجريمة، البعيدة عن تقاليد العمل السياسي الفلسطيني، لن تكون محل استغلال البعض، بل على العكس، فالمنطق والعقل والحكمة كلها تقول بأن أية قضية ومهما كانت بسيطة وصغيرة، فهناك أطراف خارجية اسرائيلية وغيرها ستدخل على خط التوتير الدائم، انطلاقا من ضعف مناعة وحصانة المجتمع الفلسطيني، بسبب الإنقسام أولا والممارسات الإسرائيلية ثانيا وسياسات السلطة المنافية للحد الأدنى من الديمقراطية.. لكن المشكلة هي في طريقة الرد على هذا الإستغلال، الذي اقتصر على أن هناك محاولة للنيل من الشرعية ومن الرئيس، وعلى هذه الأرضية نظمت مسيرات دعم لـ "الشرعية" وجرى شيطنة التحركات الشعبية واتهام المشاركين فيها بأنهم ينفذون أجندات خارجية..

هذا يعني أنه ممنوع على الفلسطيني أن يحتج وينتقد ويرفع صوتاً رفضاً لظواهر يعتقدها البعض أنها خاطئة، وكأن القيادة والسلطة والأجهزة الأمنية منزهون عن ارتكاب الأخطاء، بل هم فوق المواطنية ولا يمكن محاسبتهم.. وهنا يأتي دور الحكماء، وما أقل عددهم في واقعنا الفلسطيني، الذين هم وحدهم كانوا قادرين على معالجة تداعيات ما حدث بقليل من الحكمة والتبصر، بعيداً عن لغة التحدي والتخوين . فكم من قضايا صغيرة، وبسبب جهل وعناد قائد ومكابرة أجهزة، تكون سببا في اشعال ثورات كبرى تؤدي لاحقا إلى قلب المجتمع رأسا على عقب، وعلى العكس تماماً، كم من مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية كبرى، تستحق أن تندلع بسببها ثورات، تتحول إلى قضية بسيطة بسبب حكمة قائد .

لم نكن بحاجة إلى دعوات أمريكية وأُوروبية ومن مؤسسات حقوقية كي نفتح تحقيقا في ملابسات الجريمة، وكان يمكن للحكومة أو الرئاسة أو حتى النيابة العامة، الذين يعلمون جميعا حساسية الواقع الفلسطيني وتداخله مع الشأن الإسرائيلي والإقليمي والدولي، أن يفتحوا تحقيقاً سريعاً، ويتخذوا من الاجراءآت التي يمكن أن تشكل رسالة إيجابية للشارع بأن هذه الجريمة لن تمر دون عقاب، وفي هذه الحالة بدلا من الهتافات ضد السلطة ورموزها كان يمكن للمتظاهرين أن يهتفوا للأجهزة الأمنية وللقضاء ولسرعة تحركهم... لكن ما حصل كان مناقضاً ومختلفاً لما نقول، وكأن هناك من يسعى إلى محاولة تلميع صورته وسط الرأي العام الفلسطيني الناقم على سياسات وممارسات لا تمت للقانون بصلة..

لا ينبغي النظر إلى أن التحركات الشعبية كأن سببها كان اغتيال بنات فقط، فقد حدثت ممارسات مماثلة في الضفة وفي غزه، ولم تكن له تداعياتها كبرى كالذي حصل مؤخراً، وهذا ما يجب أن يكون محل دراسة من قبل القيادة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة . فما حصل من تحركات شعبية عفوية ومنظمة، داخل فلسطين وخارجها، كان عبارة عن ردة فعل شعبية وطبيعية على تراكم في الخطايا المرتكبة بحق الشعب والقضية منذ سنوات، وعلى تجاهل الدعوات الصادقة إلى التغيير. 

انتقدنا جريمة اغتيال بنات، كما انتقدنا الجرائم المماثلة التي حدثت في قطاع غزه، بل إننا لا زلنا حتى اللحظة نعتبر بأن ما حدث في القطاع عام 2005 كان انقلاباً دموياً مرفوضا نظراً للفظائع التي أُرتكبت، بغض النظر عن التبريرات التي قُدمت من حركة حماس، لأن العبرة هي في تحريم إراقة الدماء الفلسطينية لأسباب سياسية.. وحتى لو حصلت أخطاء وجرائم في غزه، فان الإغتيال السياسي أمر يجب أن يكون محل إدانة ورفض في الضفة الغربية وفي غزة أيضاً، ووجب محاسبة ومعاقبة كل من ارتكبه ومن وفر له الغطاء السياسي، بل معاقبة كل من يبرر الجرائم السياسية التي تعني في واقعنا قتل وطن ! وكان يمكن للسلطة الفلسطينية، رئاسة وحكومة وأجهزة أمنية، أن يكون تصرفها أكثر حكمة في امتصاص واستيعاب الحدث باجراءآت سريعة مثل وضع بعض المسؤوليين في تصرف الحكومة وتشكيل لجنة تحقيق سريعة والدعوة لاجتماع طارئ لقادة الحركة الوطنية وللفعاليات والشخصيات الوطنية لإنهاء ذيول الجريمة وترك الأمر للقضاء ليقول كلمته خلال فترة زمنية محددة.. لكن شيئا من هذا لم يحصل، إذاً لما العجب حين تأخذ التحركات المنحى الذي اتخذته..

الرسالة الأساس التي يبدو أنها لم تصل بعد إلى المستوى السياسي الفلسطيني وإلى الأجهزة الأمنية، هي أن الجريمة السياسية ممنوعة، بل أن ما ميز ساحة العمل السياسي الفلسطيني خلال أكثر من خمسين عاما من نضالها، أنها كانت واحة للتعدية، في محيط عربي استبدادي لا يحترم حرية ولا ديمقراطية لمواطنين، بغض النظر عن مستوى هذه التعددية والنتيجة التي وصلتها.. وهذا التحريم يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من عقيدة الأجهزة الأمنية التي هي أداة لحماية الشعب ومصالحة في مواجهة العدو الإسرائيلي فقط وليست إطار مقدس خارج عن المحاسبة والعقاب..

يجب تكريس مفهوم الحوار في كل تفصيل من تفاصيل عملنا الوطني، فهو الحل وبه نضع قدما في المسار السليم. لكن لا نريد حواراً على شاكلة الحوارات التي أتعبت وأرهقت شعبنا طيلة أكثر من عشرين عاماً . فقد تحاورت الفصائل الفلسطينية مرات ومرات، ولم يعد لنا طاقة على تذكرها، من كثرتها، وفي كل مرة كنا نخرج بنتائج ونتائج وبيانات ختامية ومخرجات، لكن النتيجة أن كل ما توافقنا عليه بقي حتى اللحظة حبراً على ورق : من قرارات المجلس الوطني في دورته 20 الذي انعقد في الجزائر في الفترة من 23 إلى 28 أيلول 1991 محددا شروط المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد، إلى عشرات وثائق الحوار الفلسطيني من إعلان القاهرة 2002، إلى لقاء الأُمناء العامين ومخرجاته في 3 أيلول 202، مروراً باللقاءآت العربية في الدوحة ومكة إلى قرارات المجلس الوطني بتاريخ 30 نيسان 2018، وقرارات المجلس المركزي في دورتي (2015 و2018) إلى قرار اللجنة التنفيذية بوقف العمل بالإتفاقات مع إسرائيل بتاريخ 19 ايار 2019، وكلها قرارات ووثائق ما زالت حتى اللحظة حبراً على ورق .

 يبدو واضحا أن هناك من لا يريد للشعب الفلسطيني وقضيته أن يتقدموا إلى الأمام في ميدان مواجهة الإحتلال وممارساته.. لدرجة وصول فئات واسعة من الشعب إلى درجة عدم الثقة بالهيئات الوطنية الجامعة التي لا تحترم ولا تلتزم بما تقره.. وليس سراً القول أن شعبنا الفلسطيني في قطاع غزه وفي الضفة الغربية، بما فيها القدس العاصمة، يصارع على خطين متلازمين: خط المواجهة الميدانية مع المشروع الإسرائيلي وترجماته المباشرة المتمثلة بالإستيطان والتهويد والقتل والإعتقال والضم، وخط الصراع الديمقراطي والإجتماعي المتمثل بتثبت دعائم وركائز المجتمع الفلسطيني ليكون أكثر قوة ومنعة لتحقيق الهدف الأول المتمثل بطرد الإحتلال من فوق الإرض الفلسطينية، وهنا ترجمة للحكمة والمثل الشعبي الفلسطيني : أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، وهي نفس المقولة المعروفة سياسياً على المستوى الفلسطيني بأن الصراع والتناقض الأساسي هو مع الإحتلال، وإن الخلافات الداخلية الفلسطينية هي مجرد تباينات وجب تجاوزها لصالح تغليب التناقض الرئيسي على أي شيء آخر.

06 تموز 2021

فتحي كليب

عضو المكتب السياسي للجبهـة الديمقراطيـة لتحريـر فلسطين

fathi.alkulaib1966@gmail.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved