اذا ما اعتمدنا على تعريف منظمة الصحة العالمية، للصحة كونها "حالة من اكتمال سلامة الفرد على المستويات الجسدية والعقلية والإجتماعية، وليس فقط أن يكون الإنسان سليما من الأمراض"، فهذا يعني أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يقعون في أدنى مراتب السلامة الصحية، نظرا لافتقارهم إلى الحد الأدنى مما يتضمنه التعريف السابق، لأن المنظمة تنظر إلى الصحة باعتبارها بيئة متكاملة من العناصر التي تضمن سلامة المجتمع بشكل عام، وبالتالي فان غياب أي من هذه العناصر تجعل الصحة المجتمعية في خطر أو بالحد الأدنى موضع شك .
إذا ما اعتمدنا على تعريف منظمة الصحة العالمية بشكل خاص، والأُمم المتحدة بشكل عام، اللتين تسعيان إلى تحقيق استراتيجيتهما الصحية من خلال ضبط الأوبئة والوقاية منها، وتعزيز العمل على تحسين ظروف التغذية، والسكن، والصرف الصحي، والظروف الإقتصادية، وظروف العمل، ونواح أخرى متعلقة بالصحة البيئية، وتحسين معايير التعليم والتدريب في مجال الصحة والطب والمهن، ودعم النشاطات المرتبطة بالصحة العقلية خاصة تلك التي تؤثر على توازن العلاقات الإنسانية وانسجامها، فاننا سنصل إلى استنتاج بأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يحتاجون إلى ما هو أكثر من خطة طوارئ اغاثية وصحية شاملة، نظراً للانهيار الإقتصادي الشامل الذي تعيشه المخيمات ومن المتوقع أن تزداد تداعياته خلال الأيام والأسابيع القادمة، نظراً لعدم وجود استراتيجيات اقتصادية إقادرة على النهوض بالواقع الراهن إلى مستويات مقبولة..
في مواجهة جائحة كورونا، لجأت دول العالم وشعوبه إلى خيار الإغلاق الذي اختلفت تطبيقاته بين دولة وأُخرى تبعا لمستوى الثقة بالسلطات السياسية وقدرتها على المواجهة، ولدرجة الوعي المجتمعي والإلتزام بشروط الوقاية، لكن العامل الأهم كان الإغلاق والحجر المنزلي . ومن يحدد نجاح الإغلاق أو فشله هو درجة التزام المواطنين به، وهذا كان يعتمد على معادلة طرفيها هما الحكومة ومؤسساتها المختلفة والمواطنون : فالمواطن يجب ان يبقى في المنزل ويتفهم اجراءآت الدول بوقف الحياة الإقتصادية وما ترتب عليها من توقف العمال عن الذهاب إلى أعمالهم، والدولة التي تتحمل مسؤولية دعم المواطنين اقتصاديا، سواء عبر مبالغ مالية تقدم بشكل مباشر، أو من خلال سلة غذائية يومية أو اسبوعية، وبين هذا وذاك اعفاءآت عدة على الخدمات التي تقدمها الدول، وعلى هذه القاعدة سارت أغلبية الدول، فبعضها فضل دعم القطاعات الإقتصادية الكبرى التي تضم مئات الآلاف من العمال كالشركات الكبرى والمصارف، فيما فضلت أُخرى الإتجاه مباشرة إلى الفئات الأكثر تضرراً من الجائحة بمنحها مساعدات نقدية، وأُخرى ارتأت زيادة موازنات الوزارات المعنية خاصة الخدماتية والاقتصادية، فيما طالب البعض بخطط اقتصادية ومالية اشبة بمشروع مارشال كي تتجاوز هذه الدول ازماتها خاصة في اوروبا. وحتى في الدول الفقيرة، اقرت حكوماتها حزم اقتصادية بملايين الدولارات، بعضها مساعدات ومنح من المؤسسات المالية الدولية وبعصها الآخر على شكل قروض . أي لا يوجد دولة وحكومة في العالم إلّا وأقرت مساعدات لمواطنيها. كما أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين خصصت حزمة دعم اقتصادي للاجئين في مختلف مناطق عملياتها.. وحدهم اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وفي مناطق أُخرى، ظلوا بعيدين عن كل أشكال الدعم الإقتصادي والإغاثي، باستثناء ما قدمته بعض المؤسسات من عناوين دعم هنا وهناك، لا يمكن القول أن هناك جهة رسمية تعاطت مع الملايين من اللاجئين الفلسطينيين باعتبارهم بشر كما بقية البشر، ويحتاجون إلى الدعم الإغاثي الإقتصادي والصحي . ولا يمكن إلّا أن نفسر هذا الغياب باعتباره أمراً سياسيا مقصودا، بل عقابا للاجئين الفلسطينيين . وهنا يجب أن لا يغيب عن بالنا ما طالبت به الولايات المتحدة الأمريكية في الأيام الأُولى لقطع مساهماتها المالية عن موازنة وكالة الغوث حين قامت بدفع (60) مليون دولار من حصتها البالغة اكثر من (360) مليون دولار مشترطة استثاء اللاجئين الفلسطينيين، في سوريا ولبنان، من الإستفادة من هذا المبلغ
في استعراض الواقع الإقتصادي والإجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، يبدو أننا أمام انهيار شامل للمجتمع الفلسطيني، لكن ما لا نجد له تفسير واضح، هو قدرة هذا المجتمع على الصمود، خاصة أنه وخلال فترة نحو عام من الزمن، مر بثلاث أزمات كبرى، وكل واحدة من هذه الأزمات كانت كفيلة بشل قدرة الشعب عن التحرك . لكن قبل أن نستعرض هذه الأزمات وتداعياتها، فمن المفيد التعرف على الواقع الإقتصادي للاجئين منذ العام العام 2010..
كانت الدراسة الشاملة التي أصدرتها وكالة الغوث عام 2010 بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت الأكثر شمولية لجهة المعطيات الرقمية والإحصائية عن الواقع الإجتماعي والإقتصادي لفلسطينيي لبنان . وجاء فيها أ نحو ثلثي اللاجئين الفلسطينيين هم من الفقراء، فيما بلغت نسبة الفقراء في بعض المخيمات (81) بالمائة (مخيمات صيدا وصور)، وبلغت نسبة الذين يعانون من الفقر الشديد، أي أنهم عاجزون عن تلبية حاجاتهم اليومية الأساسية من الغذاء (6.6) بالمائة . كما بلغت نسبة العاطلين عن العمل (56) بالمائة، (15) بالمائة يعانون فقدانا حادا للأمن الغذائي ويحتاجون إلى مساعدة غذائية ملحة و(63) بالمائة يعانون من فقدان الأمن الغذائي، ولا يحصل ثلث الفلسطينيين على متطلبات الغذاء الأساسية . أما على المستوى الصحي، فيعاني حوالى ثلث السكان من أمراض مزمنة و(21) بالمائة يعانون من الإنهيار العصبي أو القلق أو الكآبة و (95) بالمائة من الفلسطينيين ليس لديهم تأمين صحي ويعتمدون على وكالة الغوث بشكل كامل . ومن المؤكد أن هذه المعطيات لا تعكس الدقة، والواقع راهنا يشير أن الامور أسوأ بكثير، والمعطيات الرقمية تشير إلى أن جميع مكونات المجتمع الفلسطيني في لبنان ذاهبة إلى انهيار حقيقي، نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنية وعدم وجود مرجعية خدماتية تسعى إلى التخفيف من حدة الأزمة .
فيما كانت المطالب الشعبية تتركز على دعوة المرجعيات المعنية للتصدي لهذا الواقع والعمل على تحسينه، سواء من قبل وكالة الغوث او الدولة اللبنانية او مؤسسات منظمة التحرير والمؤسسات الإجتماعية المختلفة، تعرض اللاجئون الفلسطينيون في لبنان منذ منتصف العام 2019 لثلاث ازمات كبرى نستعرض أبرزها :
1) منذ تموز 2019، أعلن وزير العمل اللبناني عن حملة ملاحقات قانونية تحت عنوان "تسوية أوضاع العمال الأجانب غير الشرعيين" . ولجأ موظفو وزارة العمل اللبنانية إلى ملاحقة العمال الفلسطينيين الذين يعملون على الأراضي اللبنانية، وكانت نتيجة الحملة إغلاق العديد من المحال والمؤسسات التجارية في أكثر من منطقة، وتوقيف عدد من العمال الفلسطينيين الذين يعملون في مؤسسات لبنانية عن العمل بتهمة العمل بدون إجازة عمل..
2) بالتزامن مع التحركات الشعبية الإحتجاجية التي شهدتها الساحة الفلسطينية ضد اجراءات وزارة العمل، والتي اعتبرت الأوسع والاضخم منذ النكبة، انفجر الشارع اللبناني في تحركات شعبية طالت جميع المناطق اللبنانية، بكل ما رافقها من قطع لجميع الطرق الرئيسية، وهو ما أدى إلى شل الحياة الإقتصادية واتخاذ الحالة الفلسطينية لسياسة وطنية مسؤولة قضت باعتبارها ليست جزءاً من هذه التحركات، في ظل دعوات لعدم مشاركة الفلسطينيين في تلك التحركات، ما أدى إلى مفاقمة الواقع الإقتصادي والإجتماعي الذي كان يشكو أصلا من مشكلات، وارتفعت الدعوات مطالبة وكالة الغوث باعتبار المخيمات مناطق منكوبة وتتطلب خطة طوارئ إغاثية وعاجلة .
3) منذ بداية آذار 2020، اتخذت الدولة اللبنانية سلسلة من التدابير في إطار مواجهة كوفيد 19، فأغلقت الجامعات والمدارس بداية، تلاها إعلان التعبئة العامة التي تضمنت إغلاق جميع المعابر ما أدى إلى توقف الحياة العامة، وشلل الحياة الإقتصادية. ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الإجراءآت على العمال الفلسطينيين وعائلاتهم التي يعمل الجزء الأكبر منهم بشكل يومي، ما وضع آلاف العمال أمام مشكلة حقيقية نتيجة التزامهم باجراءآت التعبئة العامة والإغلاق..
إن ما جعل الصورة العامة للاجئين الفلسطينيين في لبنان أكثر سوداوية ومأساوية، هو أن المرجعيات المعنية بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين (وكالة الغوث، الدولة اللبنانية ومؤسسات منظمة التحرير) لا تتعاطى مع اللاجئين كونهم عرضة لمشكلات أشبه بـ "نكبة اقتصادية واجتماعية". فإذا كان المواطنون اللبنانيون يعانون من أوضاع اقتصادية أقل ما يقال فيها أنها صعبة، وقادت إلى تحركات شعبية واسعة، فكيف هو الأمر بالنسبة للاجئين الفلسطينيين ؟ لسنا هنا في معرض نقاش أسباب تدهور هذه الأوضاع، التي وأن كان اللاجئون الفلسطينيون يتقاسمون مع أُخوتهم اللبنانيين تفاصيلها اليومية، إلّا أن الأوضاع تنعكس على اللاجئين بأضعاف مضاعفة :
اولا، لأن منشأ معاناة اللاجئين يعود بجذره الى صراع سياسي والى ضغوط دولية، امريكية، تمارس على الشعب الفلسطيني وعلى المنظمات الدولية الداعمة له لتحقيق اهداف سياسية باتت واضحة لدفعه للقبول بحلول سياسية لا تنسجم والحد الادنى من تطلعاته الوطنية، وبالتالي فان المعاناة الاقتصادية تصبح بهذا المعنى جزءا لا يتجزأ من صراع مع المشروع الصهيوني.
ثانيا، لأن وضعية اللاجئين الفلسطينيين، السياسية والقانونية والاقتصادية، تختلف عن وضعية المواطنين اللبنانيين الذين يعيشون بحماية دولة لها مؤسساتها السياسية والقانونية وفي ظل نظام اقتصادي متكامل ومتبلور اقتصاديا ويتمتعون بجميع الضمانات، بينما اللاجئون الفلسطينيون يعيشون في مخيمات تفتقر الى ابسط شروط الحياة ويعانون من الحرمان من حق العمل في ظل غياب جميع اشكال الضمانات.. وهم حكما خارج اطار الدورة الاقتصادية وخارج اطار المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي يستفيد منها المواطنون مثل حزمة الدعم الاقتصادي التي اقرتها الحكومة مثلا في اطار مواجهة الجائحة وتم استثناء الفلسطينيين من الاستفادة منها.
ثالثا، لأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ينظرون الى وكالة الغوث باعتبارها "قطاعهم العام" الذي يوفر لهم خدمات التعليم والرعاية الصحية والاغاثة الاجتماعية التي لا يمكن ان تستمر الا عبر تمويل، اريد له ان يكون طوعيا، تقدمه الدول المانحة، واي اخلال دولي بالتزام الدول المانحة، كما هو حاصل اليوم، فمن شأنه ان ينعكس على طبيعة الخدمات المقدمة، كما ونوعا.
انطلاقا من كل ذلك، يصبح واضحاً لماذا يطالب اللاجئون بدعم اقتصادي، كما يصبح مفهوما أيضاً حاجة اللاجئين الدائمة لخطط طوارئ اقتصادية وصحية وتربوية وإغاثية لا يوجد من هو مؤهل أكثر من وكالة الغوث التي درجت في مناسبات عدة على اعتماد هذا النوع من الدعم، نظراً للأوضاع المتغيرة للاجئين وعدم ثباتها على واقع معين بفعل تشعب الصراع وتعقيداته..
لقد وصلت اوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، الإقتصادية والإجتماعية إلى حافة الإنهيار التي من شأنها أن تنعكس على المجتمع الفلسطيني بشكل عام وعلاقته بالجوار وبمكوناته المختلفة، بسبب حالة البؤس والحرمان الواسعة نتيجة اعتماد جميع العائلات على وكالة الغوث بنسبة 100%. فرغم أن أرقام الوكالة تقول أن نسبة الفقراء من فلسطينيي لبنان بلغت نحو ثلثي اللاجئين، إلّا أن العدد الفعلي من الفقراء يكاد يصل نسبة مائة في المائة، وذلك نظراً لمعايير الأُونروا وطريقتها في احتساب نسب الفقر، حيث تلتزم بالنسبة المحدد عالميا وهي عتبة (1.9 دولار للفرد يوميا). ونماذج الصور اليومية التي تتكرر في جميع المخيمات، تكاد توصلنا إلى نتيجة مفادها : إن المجتمع الفلسطيني يسير نحو انهيار فعلي في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والصحية وغير ذلك من امور.. بل هو انهيار مجتمعي كامل، بكل ما للكلمة من معنى .
إن هناك الكثير من الأطراف تعمل بشكل يومي على توفير الحد الأدنى من الدعم الإقتصادي، لكن رغم ذلك، فهناك عشرات بل مئات العائلات لم تستفد، حتى الآن، من المساعدات، سواء بسبب الفوضى والعشوائية في عمليات التوزيع أو نتيجة عدم الإشراف الجيد، ما يدعو الجميع إلى مراجعة طريقة وأشكال التوزيع بهدف تحديد مكامن الخلل والعمل على معالجته بشكل سريع وقبل استفحال المشكلة، والتعاطي بمسؤولية مع هذه القضايا التي تتطلب وعيا وطنيا جماعيا بما يضمن تجاوز هذه المرحلة بأقل الأثمان..
لقد تعاطت جميع دول العالم مع جائحة كورونا باعتبارها أزمة صحية لها تداعيات اقتصادية واجتماعية وتنعكس على كل المجتمع خاصة الفئات الفقيرة، باستثناء وكالة الغوث، التي لم تتمكن من جمع سوى مبلغ بسيط مخصص للاجئين في لبنان، وهو مبلغ لا علاقة له بأزمة كورونا بل يعود إلى مرحلة سابقة، حين شهد لبنان تحركات شعبية انعكست سلبا على معيشة اللاجئين الذين يحتاجون اليومإالى ما هو أكثر من خطة طوارئ إغاثية وصحية..