الكاتب التشيلي أرييل دورفمان يتحدث عن مسرحيته "مخبأ بيكاسو"

2021-03-21

 

   "الفن ليس سوى رهان على الموت؟"

 "لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي هو موتي".   

  ترجمة وتقديم علي كامل                                  

               بيكاسو

  بابلو بيكاسو

     القسم الأول  

في مقدمته لمسرحية  «مخبأ بيكاسو» يقتبس أرييل دورفمان مقولة لأوغست ستريندبيرغ تقول:"أي شيء يمكن أن يحدث، كل شيء ممكن ومحتمل، ليس ثمة وجود للزمان والمكان إلا وفق أساس ضئيل من الواقع، المخيلة تنسج أنماطاً جديدة عبر مزج الذكريات، الخبرات، الإبتكارات الحرأة، اللا معقول والارتجال".

 

أرييل دورفمان

أرييل دورفمان

أرييل دورفمان كاتب أمريكي من أصل تشيلي، شاعر، روائي، مؤلف مسرحي وسينمائي، فضلاً عن كونه ناشطاً مميزاً في منظمة حقوق الإنسان .

غادر دورفمان بلاده ولجأ إلى المنفى إثر الإنقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه عام 1973 والذي أطاح بحكومة سلفادور أليندي. كان دورفمان ولا يزال صوتاً مدّوياً ضد القمع السياسي وانتهاكات الحريات، ولعل مسرحيته الشهيرة "الموت والعذراء" التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1994، هي بمثابة تجسيد جلي لنبرة ذلك الصوت .

 

                                          مختلى بيكاسو: لا مكان للفنان للاختباء!

 

يُعيد المؤلف في هذه الدراما صياغة الوقائع التأريخية بشكل افتراضي لإجراء نقاش فكري بشأن الفن في مواجهته للحياة . إنه يبتكر شكلاً بيضوياً للأحداث هو بمثابة إشادة بالتكعيبية، الحركة التي نشأت أوائل القرن العشرين والتي أسسها ودافع عنها بيكاسو معاً والرسام الفرنسي جورج براك، حيث يتم فيها تفكيك الأشياء المألوفة بشكل هندسي وإعادة تجميعها بأشكال مجردة .

 

يقول دورفمان :"إن أفضل ما يمكن أن تفعله لفنان عظيم مثل بيكاسو هو أن لا تأخذه على محمل الجد، إنما أن تستكشفه من خلال منظار ملتوي بوصفه أباً للمدرسة التكعيبية ؟ .

يقوم المؤلف بتفكيك التأريخ وإعادة تركيبه عبر التلاعب بعنصر الزمن ومزج الشخصيات الحقيقية بشخصيات خيالية . إنه يخلق تأريخاً افتراضياً، إن لم يكن مبتكراً، بديلاً للتأريخ الحقيقي حيث يتعقب ضابط نازي الفنان بيكاسو عن كثب ويقتله في الآخِر . ( نحن نعلم أن بيكاسو توفي عام 1973 في مدينة موجان جنوب فرنسا عن عمر ناهز الثانية والتسعين عاماً)، إلّا أن دورفمان يطرح في "مخبأ بيكاسو" سؤالاً افتراضياً مثيراً للحيرة والدهشة وهو:

ماذا لو لم يمت بيكاسو عام 1973، ولكن تم قتله من قبل النازيون عام 1944 أثناء احتلالهم لباريس؟

إن بنية كهذه ليس الهدف منها تعتيم الحقائق أو تشويهها بالطبع، إنما لغرض إيضاحها وإضاءتها، والفنان لديه وسائل عدة لقول الحقائق، حسب دورفمان، حيث يقول :

"إن الحقائق مليئة بالأكاذيب غالباً، لكنها أكاذيب ممتعة، ليست تلك التي تسبب أذىً للناس، إنما تلك التي تطرح أسئلة . وقد سبق لجان كوكتو أن قال نفس الشيء بأن الفن هو كذبة تقول الحقيقة" .

 

حين أُرغم الكاتب أرييل دورفمان على مغادرة بلده تشيلي عام 1973 إثر انقلاب بينوشيه وأمضى السنة الأولى من منفاه السياسي في باريس فإن تجربته في المنفى تكاد تتماهى إن لم تكن مستبعدة إلى حد بعيد عن تجربة بيكاسو الذي اختار هو الآخر مغادره بلاده إلى باريس بشكل دائم عام 1936 إثر إنقلاب الجنرال الإسباني فرانكو خشية أن يلاحقه ذات المصير الذي أفضى إلى قتل مواطنه لوركا .

 

مسرحية "مخبأ بيكاسو" تجري أحداثها في محترف الفنان بباريس في أربعينات القرن الماضي عندما احتل النازيون باريس تساندهم حكومة (فيشي) التي كان يرأسها المارشال (فيليب بيتان) الذي تولى الحكم من عام 1940 إلى عام 1944 . كان بيكاسو حينها يعيش في باريس في سلام وحياد واضحين دون أن يصاب بأذى يُذكر في حين تعّرض الكثير من أصدقائه من الفنانين والمفكرين الفرنسيين إلى الملاحقة والموت على يد النازي، ولعل أبرزهم صديقه الأقرب الشاعر ماكس جيكوب .

تتضمن المسرحية ثلاثة فصول هي (الفريسة، الملاحقة، ثم القتل) موزعة على سبعة مشاهد، والمؤلف يستخدم الرقم سبعة لأنه الرقم السحري بالنسبة لبيكاسو، كما يقول .

 

بيكاسو وعشيقته دورا مار

                              بيكاسو وعشيقته دورا مار                              

نص اللقاء 

 ـ يبدو أن من العسير جداً تجسيد نص كهذا على خشبة المسرح ؟

ـ ينبغي القول بدءاً أنه نص تجريبي . دعنا نقول أنني سعيت، بتواضع، أن أتعامل مع عنصر الزمن في المسرح مثلما تعامل بيكاسو مع عنصر المكان، وهو خلقْ العديد من وجهات النظر وإزالة حواجز الهُّوية . من هنا يمكن أن تقف المسرحية على الحد الفاصل بين الشعبية والتجريبية . ـ بما أن شخصيات المسرحية تطرح وجهات نظرها المختلفة الواحدة تلو الأخرى، إلّا إن ثمة مستويات متجاورة من الوقائع تأتي بعضها إلى جانب الأخرى... ـ معظم السِيَرْ الذاتية، على سبيل المثال، تميل إلى أن تكون أفقية المبنى إلى حد ما، أو على الأقل، تتقهقر إلى الخلف ثم تتقدم نحو الأمام بالتناوب، أي أنها في حركة ذهاب وإياب من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ وبالعكس... بمعنى، يمكن التنبؤ بها سلفاً .

لقد قلت لنفسي "كيف بوسعي كتابة مسرحية حول بيكاسو كما لو إن فنه لم يكن موجوداً؟" . كان لا بد أن تتأثر المسرحية ببيكاسو بالطبع، فالثناء الأعظم ليس للشخصية التي تقف على خشبة المسرح، إنما لبيكاسو والفن الذي قام بتجسيده .

أستطيع القول أنها مسرحية (ما بعد ـ بيكاسو)، في حين أن معظم المسرحيات التي شاهدتها حول بيكاسو وعن فنانين آخرين تميل إلى أن تكون كما لو أن الفنان لم يكن له أي تأثير عليها مطلقاً .

 

ـ إنها ليست مسرحية تكعيبية تماماً، أليس كذلك ؟

 

ـ بل هي محاولة للقيام بفعل يتماهى وما فعله هو في لوحته (آنسات أفينيون)، في  أن يجمع كل هذه الشخصيات، وقد تم تشويهها كلها، ولا أحد يعرف مَن…، بعبارة أخرى، الواقع شيء خشن ومسّنن... إنه أشبه بمرآة تم تحطيمها وأُعيد تشكيلها، إلّا إن بعض قطع من هذه المرآة ستكون مفقودة على الدوام .

لتقديم تجربة كهذه للجمهور في زمن مثل زمننا ينبغي أن تكون ممتعة للغاية . أما إذا كان الأمر ليس كذلك فهذا خطأ الجمهور وليس خطأي في طرحها بشكل استفزازي (يضحك) .

 

ـ حسناً دعنا نتحدث عن هذه المرحلة الزمنية من حياة بيكاسو . والمسرحية، نوعاً ما، تكاد تغطي الفترة التي تفصل بين لوحته الشهيرة غورنيكا التي أنجزها عام 1937 ونهاية الإحتلال النازي لباريس عام 1944 . وقد عاش بيكاسو خلال تلك المرحلة في باريس  ‪كما تصفها أنت بأنها مرحلة غير موّثقة من حياته ..

 

ـ نحن لا نعلم الكثير عما فعله بيكاسو . ما نعرفه بالضبط هو أنه كان مختبئاً . ولا أعني بكلمة "مختبأ" بدلالتها المجانية، لأن العديد من الفنانين والأدباء غادروا بلدانهم خوفاً من خطر النازية وتوجهوا إلى الولايات المتحدة، فينيسيا، فرنسا، ومنهم من هرب إلى إنجلترا . كان الناس في جميع ارجاء العالم قد فرّوا من قبضة النازيين .

.

ـ وينبغي القول أن بيكاسو في تلك الفترة كان الرسام الأكثر شهرة في العالم .

 

ـ بالضبط. لقد كان في ذلك الوقت هو الرسام الأكثر شهرة في العالم، وسوف يخرج من الحرب بشهرة أوسع، وهذا شيء استثنائي من وجهة النظر هذه . لهذا ليس لدينا معلومات عما فعله في تلك السنوات الأربع . أعني، مؤكد أن هناك بعض الوثائق، لكن، عموماً كان بيكاسو حينها يمارس عمله بشكل طبيعي وبقي في باريس ولم يغادر وكانت لديه علاقات مبهمة حقاً بأناس في المقاومة ممن يعتنون به . بول إيلوار أحدهم، وهو إحدى شخصيات المسرحية، كذلك الكاتب السوريالي مايكل ليريس، فقد كانا حريصين على لا يحدث أي مكروه لبيكاسو .

 

من جانب آخر، كان بيكاسو في خطر كبير لأنه كان لاجئاً وليست لديه وثائق . بعبارة أخرى، كانت لديه فقط وثائق تؤكد إسبانيته . لقد كان منفياً من إسبانيا ومن الممكن ترحيله في أية لحظة، بل ويمكن أن يُقتل في أية لحظة، وهذا ما تقترحه مسرحيتي كمجاز لنوع آخر من الموت الذي حدث له .

وثمة حقيقة أيضاً أنه كان طوال الوقت عرضة لمخاطر وتهديدات جسيمة لأن زيارات ضباط الجستابو المفاجئة له كانت متواصلة . حتى قيل أنه عندما اقتحموا شقته في باريس سأله أحدهم، بعد مشاهدته للوحته الشهيرة جورنيكا بالأبيض والأسود، إن كان هو من قام برسم تلك اللوحة، أجابه بيكاسو :"كلا، أنتم من فعل ذلك"!.

 

كان هناك مسعى من جانب النازيين للقول : حسناً بيكاسو موجود في باريس، إذن كل شيء على ما يرام . لذا فقد كان مضطراً لاجتياز المياه الهائجة والمضطربة لأن الوضع كان خطيراً للغاية. لكن السؤال الحقيقي بالطبع الذي يمكن أن يُطرح على أي فنان، سواء كان عظيماً أو عادياً، هو، هل سيضحي بحياته، وبالتالي بشيء أكثر من حياته، ألا وهو كل ما يريد رسمه، كل رسوماته المستقبلية…؟

 

ـ «أطفاله" كما كان يطلق عليها هو نفسه .

 

ـ أطفاله، نعم. حسن، إذا كانت الأعمال الفنية هي بمثابة أطفالك، فهل يمكن أن تضحي بكل هذا الجمال الذي تمنحه لعيون العالم، من أجل انقاذ حياتك ؟

ماذا يحدث لو أن أحداً ما جاءك وقال لك : هل يمكن أن تخّبأ شخص مثل هذا  ؟ هل بوسعك أن تّزور مثل هذه الوثيقة؟ هل يمكن توّقع على التماس لإنقاذ صديقك المفّضل الذي سيتم ترحيله إلى معسكر الإعتقال أوشفيتز، ماكس جاكوب، مثالاً ؟ هل بوسعك إنقاذه ؟ هل ستضع نفسك على المحك، أم ستنقذ نفسك من أجل أطفالك ؟

أيهما أفضل أن يكون لديك ثلاثون عاماً أخرى من نتاجات بيكاسو، أم أن يكون لديك بيكاسو كبطل حقيقي ؟

كل تلك الأسئلة كانت تُطرح عليه طوال الوقت من جميع القوى. بعبارة أخرى، المسرحية تتحدث عن كل من كان حوله ممن يسعى لجذبه في هذا الإتجاه أو ذاك .

 

ـ لماذا بقيَ بيكاسو في باريس حين دخلها النازيون، في رأيك ؟

 

ـ السؤال هو: كيف يمكن للنازي أن ينصب فخاً لبيكاسو؟ لا تنسى أن بيكاسو كان محمياً، أقول كيف يمكن أن يعْلَق بيكاسو في شباك ذلك الضابط النازي ؟

 

ـ هو جعله يرتكب خطئاً، حينها يستطيع أن… يعتقله أو يطلق الرصاص عليه .

 

ـ بالضبط. أنت تعلم بأن بيكاسو كان محمياً . ثمة مشهد في المسرحية يقول فيه القائد النازي، أن أرنو بريكر، نحات هتلر الخاص، قال : "لا أريد أحداً أن يلمس شعرة من رأس بيكاسو" . هذا يعني أنه كان يعرف أنه محمّي . وحين يسأل الضابط النازي لوشت قائده : "وماذا لو قام بقتل ضابط ألماني أو أخفى شخصاً من المقاومة؟"، يجيبه القائد : "آه، حينها بالطبع بامكانك فعل ما تريد" . "وهذا بالضبط ما سأفعله" يجيبه لوشت، "سأقوم بقتل بيكاسو في ذات اليوم الذي جرت فيه محاولة قتل هتلر" .

لا تنسى أن ثمة محاولة اغتيال لهتلر حدثت في برلين . لذا حينها حتى هتلر نفسه لا يستطيع حماية بيكاسو . هناك مقطع حذفته من المسرحية وكنت قد استعرته حقاً من حديث لبيكاسو يقول فيه : "في اليوم التالي شاهدت امرأة عجوز وقد ابتسمت لي بفم خال من الأسنان وقدمّت لي قطعة من الخبز، لكنني لا أستطيع أخذ تلك السيدة العجوز معي وتحّمل أعباءها" .

لقد كنت أحدق في هذا المقطع من منظور المغترب أو المنفي . لا شك أنه كان خائفاً من العودة إلى إسبانيا رغم العروض المغرية التي تلقاها من أمريكا والمكسيك وسواها . لقد غادر بيكاسو بلده أسبانيا ولم يعود إلى هناك على الإطلاق . وفكرة تركه هذا المكان ثانية، المكان الذي صنعه هو، وأعني باريس، هي أسوأ عقوبة بالنسبة له . لذا قرر الإنتظار، كما أظن، ليتدبر الأمر الصعب هذا . وقد كنت أنا أيضاً في غضون فترة لجوئي في الولايات المتحدة أفكر بقوانين بوش بشأن الهجرة حيث كنت حينها قلقاً بإمكانية ترحيلي بوصفي مواطناً تشيلياً .

 

أنا أعرف أن هذا الأمر يبدو غريباً جداً في بلد كأميركا، إلّا إن ثمة نوعاً من الإرهاب كان يحوم في الأجواء يشي بأن لا أحد مستثنى من هذه القاعدة، فحتى المواطن الأمريكي من الممكن أن يكون دون حماية . حينها فكرت مع نفسي قائلاً : "سأفعل أي شيء على أن لا أغادر مجدداً . هذا هو وطني الآن"، لذا لعلني حينها كنت أمتلك ذات الإحساس الذي كان يمتلكه بيكاسو في أن لا أصبح لاجئاً مرة أخرى .

 

ـ هل تحاول القول إن المنفى في باريس كان بمثابة قيد فني فرضه بيكاسو ذاتياً على نفسه ؟

 

ـ إطلاقاً، أعتقد أنه قد أدرك ذلك فقط في وقت لاحق . وهذا ما دفعني لطرح السؤال الثاني وهو: "إلى ماذا سينتهى به الحال أخيراً" ؟ . لدي إحساس أن بيكاسو لم يكن يدرك ذلك . إنها دورا مارا (*) هي من تقول له في بدء المسرحية : "يمكنك فقط أن تعمل وتعمل وتعمل . لن يكون هناك المزيد من إقامة المعارض، ولن يكون ثمة أحد يقاطعك أو يزعجك" .

كان بيكاسو في ذلك الوقت هو الفنان الأكثر شهرة في العالم . ولا تنسى أن الشهرة يمكن أن تكون عبئاً رائعاً بالنسبة لك . ويمكن أن لا تشكل عبئاً عليك فحسب بل تكون مرآةً خاطئة بالنسبة لك، وللسبب ذاته يمكن أن ينتهي بك الأمر في القيام بأشياء تؤجج تلك الشهرة بدلاً من أن تأجج لهيب الفن .

 

ـ أو يمكن أن تُخضِع المرء لرغبات الآخرين، ما يجعل صوته يتلاشى...

 

ـ أو ربما يصبح صوته مجرد تكرار لتلك الأصوات. حين تكون في حضرة الخوف الوجودي، الفراغ القابع هناك، الفراغ الذي يحدث كما أظن لنا جميعاً نحن الذين نكرس جهودنا من أجل الفن، يمكنك إما أن تحاكي ما هو سائد أو مشهور وتقوم بتكراره، أو يمكنك المضي قدماً والقيام بأمر آخر مختلف .

هذا الأمر أدركه بيكاسو أخيراً، على الأقل، في المسرحية . هذا الشبح الذي دعا الرجل الأعمى أن يسأله : "ألا تريد أن تكون ما كنته في البدء من دون أن يكون أحداً وسيطاً بينك وبين الخوف" ؟ .

 

الفن ليس سوى رهان على الموت ؟ أنت تضع الفن بينك وبين الموت . ضع ذلك في هذا المنظور، بمعنى آخر، إنها عودة ثانية إلى شبح الخوف . إنه قيد، لكنه يمكن أن يكون دافعاً خلاقاً ومثمراً جداً أيضاً . وبهذا المعنى أعتقد، لسوء الحظ، أن أعمالي الأدبية والفنية كانت تتغذى على المخاوف التي قاسيتها .

دعني أقول أنني لو لم أمر بسنوات المنفى وسنوات بينوشيه وسنوات الحرب لن أكن هذا الشخص الذي أصبحت عليه اليوم ككاتب وفنان . تلك السنوات هي التي جعلت مني شخصاً بوسعه على الأقل أن يدنو من بيكاسو أو يعالجه بشيء من التعاطف مع معضلاته .

 

ـ حينذاك ستصبح متعاوناً مع خوفك .

 

ـ أوه، نعم، تماماً . وكادت المسرحية حينها على وشك أن تسمى "المتعاونون"، إلا إنني فضّلت تسميتها بـ (مخبأ بيكاسو) لأنه أكثر إثارة .

 

ـ لماذا؟

 

ـ لأنه لم يكن هناك وجود لمخابىء على الإطلاق . كنت أريد أن أوحي أن ثمة شيئاً ما يسعى بيكاسو لإخفائه، شيء ما غير بادٍ للعيان هو بحاجة لأن يتم الكشف عنه . الجميع كان متعاوناً أو متواطئاً معه حتى أنا . أنا أيضاً كنت موجود هناك من أجل قتله وبعثه ثانية .

 

ـ هل تشعر بشكل أو بآخر أن خبرات بيكاسو وتجاربه أثناء الحرب العالمية الثانية هي التي قتلته ؟

 

ـ إلى حد ما، نعم . إنني أحذو حذو جون بيرغر (**) حقاً في هذا الشأن . أنا لا عتقد أن بيكاسو قد عمل شيئاً بعد الحرب يستحق الذكر مثلما عمل أثناءها حتى نهايتها، فهو لم يبدع عملاً مثل جورنيكا مثلاً . لو عقدنا مقارنة بين جورنيكا والعمل الذي أنجزه عن الحرب الكورية أو تلك المناهضة للجرائم ضد الانسانية، سنجد أن ما أنجزه بعد الحرب في الحقيقة هو ليس سوى أعمال عادية جداً تفتقر إلى الالهام والإثارة فيما يتعلق بفنه السياسي، قياساً بأشياء أخرى .

 

أعتقد أن بعض أعظم أعماله هي تلك التي أنجزها في باريس، مثل مجموعته التي تحمل عنوان "المرأة الباكية"، عام 1937، وثمة لوحة جميلة بشكل خاص وهي بورتريه لإبنته الصغيرة مايا . يمكن في هذه اللوحة ملاحظة خلوها من أي توتر، ثمة إحساس بالرقص على حافة الهاوية، الإحساس الذي ظل يعتري بيكاسو دائماً حتى النهاية.

 

إنني أحب تنويعاته. هو شخصياً قال: "لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي ينبغي أن يكون موتي".

ألبرت لوشت، الضابط الألماني، خصمه وقاتله‪, في المسرحية، يقول له في النهاية:"كل الأعمال التي لم تنجزها أبداً هي تنويعاتك" لكن ذلك لم يكن ذا أهمية بالنسبة له. بيكاسو قال لهذا الضابط الألماني: "إذا متُّ فسأكون أعظم من فيلازكز وغريكو وغويا".(***)

 

ـ نعم، إن جرأة لوشت على قتله، يقول بيكاسو في المسرحية، "تجعل منه إله".

 

ـ الإله هو الوحيد من يقرر موته. فهو، في هذا السياق، أشبه بالمسيح الذي يختار موته، ولهذا يصبح المسيح أعظم عمل فني وأحد أعظم الأعمال الفنية في الانسانية جمعاء.

إن مسرحيتي برمتها هي بمثابة استكشاف متواصل للعلاقة بين الحياة والفن والحدود الغائمة جداً بينهما .

 

ـ في إحدى لقاءاتك قلتَ بأن المسرحية هي أيضاً بمثابة قصة حب ؟

 

(تتمة اللقاء في القسم الثاني)

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش:

 

(*) دورا مار: هنريت ثيودورا ماركوفيتش (1907‪-1997) واسمها المستعار دورا مار: مصورة فوتوغرافية ورسامة وشاعرة فرنسية من أصل يوغسلافي كانت عشيقة وحبيبة بابلو بيكاسو منذ عام 1963 إلى عام 1944)‪.

 

(**) جون بيرغر (1926‪-2017) ناقد فني انكليزي، روائي ورسام وشاعر. حازت روايته (G) على جائزة بوكر عام 1972.

تتضمن دراساته النقدية للفنانين دراسة فريدة هي بعنوان " نجاح وإخفاق بيكاسو" عام 1965 هي دراسة استقصائية لمسيرة الفنانين المجددين، كذلك دراسته "الفن والثورة: إرنست نيجيستني، القدرة على التحمل، ودور الفنان في روسيا" 1969. عاش بيرغر في باريس أكثر من نصف قرن بعد مغادرنه بريطانيا بسبب نفوره من العيش فيها.

 

(***) دييغو فيلازكز (1599‪-1660) رسام إسباني وهو الفنان الرئيسي في بلاط الملك فيليب الرابع وأحد أهم الرسامين في العصر الذهبي الإسباني. كان فناناً يؤمن بالفردانية من العصر الباروكي المعاصر. رسم العديد من صور العائلة الملكية الإسبانية وشخصيات أوروبية بارزة أخرى، وكذلك العامة، وبلغت أعماله ذروتها في لوحته الشهيرة لاس مينياس 1656).

 

دومينيكوس ثيوتوكوبولوس (1541‪-1614) المعروف على نطاق واسع باسم إل غريكو، نحات ورسام يوناني ومهندس لفترة النهضة الإسبانية.)

 

 

 

 

 

 

   "الفن ليس سوى رهان على الموت؟"

 

 

                                

 

         ترجمة وتقديم علي كامل

 

                                    

                                                  "لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي هو موتي".

                                                 

                                                                                               بابلو بيكاسو

 

 

                                                                 القسم الأول  

 

في مقدمته لمسرحية  «مخبأ بيكاسو» يقتبس أرييل دورفمان مقولة لأوغست ستريندبيرغ تقول:"أي شيء يمكن أن يحدث، كل شيء ممكن ومحتمل، ليس ثمة وجود للزمان والمكان إلا وفق أساس ضئيل من الواقع، المخيلة تنسج أنماطاً جديدة عبر مزج الذكريات، الخبرات، الابتكارات الحرة، اللا معقول والارتجال".

 

أرييل دورفمان كاتب أمريكي من أصل تشيلي، شاعر، روائي، مؤلف مسرحي وسينمائي، فضلاً عن كونه ناشطاً مميزاً في منظمة حقوق الإنسان.

غادر دورفمان بلاده ولجأ إلى المنفى إثر الإنقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه عام 1973 والذي أطاح بحكومة سلفادور أليندي. كان دورفمان ولا يزال صوتاً مدّوياً ضد القمع السياسي وانتهاكات الحريات، ولعل مسرحيته الشهيرة "الموت والعذراء" التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1994، هي بمثابة تجسيد جلي لنبرة ذلك الصوت.

 

                                          مختلى بيكاسو: لا مكان للفنان للاختباء!

 

يُعيد المؤلف في هذه الدراما صياغة الوقائع التأريخية بشكل افتراضي لإجراء نقاش فكري بشأن الفن في مواجهته للحياة. إنه يبتكر شكلاً بيضوياً للأحداث هو بمثابة إشادة بالتكعيبية، الحركة التي نشأت أوائل القرن العشرين والتي أسسها ودافع عنها بيكاسو معاً والرسام الفرنسي جورج براك، حيث يتم فيها تفكيك الأشياء المألوفة بشكل هندسي وإعادة تجميعها بأشكال مجردة.

 

يقول دورفمان:"إن أفضل ما يمكن أن تفعله لفنان عظيم مثل بيكاسو هو أن لا تأخذه على محمل الجد، إنما أن تستكشفه من خلال منظار ملتوي بوصفه أباً للمدرسة التكعيبية؟.

يقوم المؤلف بتفكيك التأريخ وإعادة تركيبه عبر التلاعب بعنصر الزمن ومزج الشخصيات الحقيقية بشخصيات خيالية. إنه يخلق تأريخاً افتراضياً، إن لم يكن مبتكراً، بديلاً للتأريخ الحقيقي حيث يتعقب ضابط نازي الفنان بيكاسو عن كثب ويقتله في الآخِر. (نحن نعلم أن بيكاسو توفي عام 1973 في مدينة موجان جنوب فرنسا عن عمر ناهز الثانية والتسعين عاماً)، إلا إن دورفمان يطرح في "مخبأ بيكاسو" سؤالاً افتراضياً مثيراً للحيرة والدهشة وهو:

ماذا لو لم يمت بيكاسو عام 1973، ولكن تم قتله من قبل النازيون عام 1944 أثناء احتلالهم لباريس؟

إن بنية كهذه ليس الهدف منها تعتيم الحقائق أو تشويهها بالطبع، إنما لغرض إيضاحها وإضاءتها، والفنان لديه وسائل عدة لقول الحقائق، حسب دورفمان، حيث يقول:

"إن الحقائق مليئة بالأكاذيب غالباً، لكنها أكاذيب ممتعة، ليست تلك التي تسبب أذىً للناس، إنما تلك التي تطرح أسئلة. وقد سبق لجان كوكتو أن قال نفس الشيء بأن الفن هو كذبة تقول الحقيقة".

 

حين أُرغم الكاتب أرييل دورفمان على مغادرة بلده تشيلي عام 1973 إثر انقلاب بينوشيه وأمضى السنة الأولى من منفاه السياسي في باريس فإن تجربته في المنفى تكاد تتماهى إن لم تكن مستبعدة إلى حد بعيد عن تجربة بيكاسو الذي اختار هو الآخر مغادره بلاده إلى باريس بشكل دائم عام 1936 إثر إنقلاب الجنرال الإسباني فرانكو خشية أن يلاحقه ذات المصير الذي أفضى إلى قتل مواطنه لوركا.

 

مسرحية "مخبأ بيكاسو" تجري أحداثها في محترف الفنان بباريس في أربعينات القرن الماضي عندما احتل النازيون باريس تساندهم حكومة (فيشي) التي كان يرأسها المارشال (فيليب بيتان) الذي تولى الحكم من عام 1940 إلى عام 1944. كان بيكاسو حينها يعيش في باريس في سلام وحياد واضحين دون أن يصاب بأذى يُذكر في حين تعّرض الكثير من أصدقائه من الفنانين والمفكرين الفرنسيين إلى

الملاحقة والموت على يد النازي، ولعل أبرزهم صديقه الأقرب الشاعر ماكس جيكوب.

تتضمن المسرحية ثلاثة فصول هي (الفريسة، الملاحقة، ثم القتل) موزعة على سبعة مشاهد، والمؤلف يستخدم الرقم سبعة لأنه الرقم السحري بالنسبة لبيكاسو، كما يقول.

 

 

                                                               نص اللقاء 

 

 

ـ يبدو أن من العسير جداً تجسيد هذا نص كهذا على خشبة المسرح؟

 

ـ ينبغي القول بدءاً أنه نص تجريبي. دعنا نقول أنني سعيت، بتواضع، أن أتعامل مع عنصر الزمن في المسرح مثلما تعامل بيكاسو مع عنصر المكان، وهو خلقْ العديد من وجهات النظر وإزالة حواجز الهُّوية. من هنا يمكن أن تقف المسرحية على الحد الفاصل بين الشعبية والتجريبية .ـ بما أن شخصيات المسرحية تطرح وجهات نظرها المختلفة الواحدة تلو الأخرى، إلا إن ثمة مستويات متجاورة من الوقائع تأتي بعضها إلى جانب الأخرى... ـ معظم السِيَرْ الذاتية، على سبيل المثال، تميل إلى أن تكون أفقية المبنى إلى حد ما، أو على الأقل، تتقهقر إلى الخلف ثم تتقدم نحو الأمام بالتناوب، أي أنها في حركة ذهاب وإياب من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ وبالعكس... بمعنى، يمكن التنبؤ بها سلفاً.

لقد قلت لنفسي "كيف بوسعي كتابة مسرحية حول بيكاسو كما لو إن فنه لم يكن موجوداً؟". كان لا بد أن تتأثر المسرحية ببيكاسو بالطبع، فالثناء الأعظم ليس للشخصية التي تقف على خشبة المسرح، إنما لبيكاسو والفن الذي قام بتجسيده.

أستطيع القول أنها مسرحية (ما بعد ـ بيكاسو)، في حين أن معظم المسرحيات التي شاهدتها حول بيكاسو وعن فنانين آخرين تميل إلى أن تكون كما لو أن الفنان لم يكن له أي تأثير عليها مطلقاً.

 

ـ إنها ليست مسرحية تكعيبية تماماً، أليس كذلك؟

 

ـ بل هي محاولة للقيام بفعل يتماهى وما فعله هو في لوحته (آنسات أفينيون): أن يجمع كل هذه الشخصيات، وقد تم تشويهها كلها، ولا أحد يعرف مَن…، بعبارة أخرى، الواقع شيء خشن ومسّنن... إنه أشبه بمرآة تم تحطيمها وأُعيد تشكيلها، إلا إن بعض قطع من هذه المرآة ستكون مفقودة على الدوام.

لتقديم تجربة كهذه للجمهور في زمن مثل زمننا ينبغي أن تكون ممتعة للغاية. أما إذا كان الأمر ليس كذلك فهذا خطأ الجمهور وليس خطأي في طرحها بشكل استفزازي (يضحك).

 

ـ حسناً دعنا نتحدث عن هذه المرحلة الزمنية من حياة بيكاسو. والمسرحية، نوعاً ما، تكاد تغطي الفترة التي تفصل بين لوحته الشهيرة غورنيكا التي أنجزها عام 1937 ونهاية الاحتلال النازي لباريس عام 1944. وقد عاش بيكاسو خلال تلك المرحلة في باريس ‪كما تصفها أنت بأنها مرحلة غير موّثقة من حياته.

 

ـ نحن لا نعلم الكثير عما فعله بيكاسو. ما نعرفه بالضبط هو أنه كان مختبئاً. ولا أعني بكلمة "مختبأ" بدلالتها المجانية، لأن العديد من الفنانين والأدباء غادروا بلدانهم خوفاً من خطر النازية وتوجهوا إلى الولايات المتحدة، فينيسيا، فرنسا، ومنهم من هرب إلى إنجلترا. كان الناس في جميع ارجاء العالم قد فرّوا من قبضة النازيين

.

ـ وينبغي القول أن بيكاسو في تلك الفترة كان الرسام الأكثر شهرة في العالم.

 

ـ بالضبط. لقد كان في ذلك الوقت هو الرسام الأكثر شهرة في العالم، وسوف يخرج من الحرب بشهرة أوسع، وهذا شيء استثنائي من وجهة النظر هذه. لهذا ليس لدينا معلومات عما فعله في تلك السنوات الأربع. أعني، مؤكد أن هناك بعض الوثائق، لكن، عموماً كان بيكاسو حينها يمارس عمله بشكل طبيعي وبقي في باريس ولم يغادر وكانت لديه علاقات مبهمة حقاً بأناس في المقاومة ممن يعتنون به. بول إيلوار أحدهم، وهو إحدى شخصيات المسرحية، كذلك الكاتب السوريالي مايكل ليريس، فقد كانا حريصين على لا يحدث أي مكروه لبيكاسو.

 

من جانب آخر، كان بيكاسو في خطر كبير لأنه كان لاجئاً وليست لديه وثائق. بعبارة أخرى، كانت لديه فقط وثائق تؤكد إسبانيته. لقد كان منفياً من إسبانيا ومن الممكن ترحيله في أية لحظة، بل ويمكن أن يُقتل في أية لحظة، وهذا ما تقترحه مسرحيتي كمجاز لنوع آخر من الموت الذي حدث له.

وثمة حقيقة أيضاً أنه كان طوال الوقت عرضة لمخاطر وتهديدات جسيمة لأن زيارات ضباط الجستابو  المفاجئة له كانت متواصلة. حتى قيل أنه عندما اقتحموا شقته في باريس سأله أحدهم، بعد مشاهدته للوحته الشهيرة جورنيكا بالأبيض والأسود، إن كان هو من قام برسم تلك اللوحة، أجابه بيكاسو:"كلا، أنتم من فعل ذلك"!.

 

كان هناك مسعى من جانب النازيين القول: حسناً بيكاسو موجود في باريس، إذن كل شيء على ما يرام. لذا فقد كان مضطراً لاجتياز المياه الهائجة والمضطربة لأن الوضع كان خطيراً للغاية. لكن السؤال الحقيقي بالطبع الذي يمكن أن يُطرح على أي فنان، سواء كان عظيماً أو عادياً، هو، هل سيضحي بحياته، وبالتالي بشيء أكثر من حياته، ألا وهو كل ما يريد رسمه، كل رسوماته المستقبلية…؟

 

ـ «أطفاله" كما كان يطلق عليها هو نفسه.

 

ـ أطفاله، نعم. حسنٌ، إذا كانت الأعمال الفنية هي بمثابة أطفالك، فهل يمكن أن تضحي بكل هذا الجمال الذي تمنحه لعيون العالم، من أجل انقاذ حياتك؟

ماذا يحدث لو أن أحداً ما جاءك وقال لك: هل يمكن أن تخّبأ شخص مثل هذا؟ هل بوسعك أن تّزور مثل هذه الوثيقة؟ هل يمكن توّقع على التماس لإنقاذ صديقك المفّضل الذي سيتم ترحيله إلى معسكر الاعتقال أوشفيتز، ماكس جاكوب، مثالاً؟ هل بوسعك إنقاذه؟ هل ستضع نفسك على المحك، أم ستنقذ نفسك من أجل أطفالك؟

أيهما أفضل أن يكون لديك ثلاثون عاماً أخرى من نتاجات بيكاسو، أم أن يكون لديك بيكاسو كبطل حقيقي؟

كل تلك الأسئلة كانت تُطرح عليه طوال الوقت من جميع القوى. بعبارة أخرى، المسرحية تتحدث عن كل من كان حوله ممن يسعى لجذبه في هذا الاتجاه أو ذاك.

 

ـ لماذا بقيَ بيكاسو في باريس حين دخلها النازيون، في رأيك؟

 

ـ السؤال هو: كيف يمكن للنازي أن ينصب فخاً لبيكاسو؟ لا تنسى أن بيكاسو كان محمياً، أقول كيف يمكن أن يعْلَق بيكاسو في شباك ذلك الضابط النازي؟

 

ـ هو جعله يرتكب خطئاً، حينها يستطيع أن… يعتقله أو يطلق الرصاص عليه.

 

ـ بالضبط. أنت تعلم بأن بيكاسو كان محمياً. ثمة مشهد في المسرحية يقول فيه القائد النازي، أن أرنو بريكر، نحات هتلر الخاص، قال: "لا أريد أحداً أن يلمس شعرة من رأس بيكاسو". هذا يعني أنه كان يعرف أنه محمّي. وحين يسأل الضابط النازي لوشت قائده: "وماذا لو قام بقتل ضابط ألماني أو أخفى شخصاً من المقاومة؟"، يجيبه القائد: "آه، حينها بالطبع بامكانك فعل ما تريد". "وهذا بالضبط ما سأفعله" يجيبه لوشت، "سأقوم بقتل بيكاسو في ذات اليوم الذي جرت فيه محاولة قتل هتلر".

لا تنسى أن ثمة محاولة اغتيال لهتلر حدثت في برلين. لذا حينها حتى هتلر نفسه لا يستطيع حماية بيكاسو. هناك مقطع حذفته من المسرحية وكنت قد استعرته حقاً من حديث لبيكاسو يقول فيه: "في اليوم التالي شاهدت امرأة عجوز وقد ابتسمت لي بفم خال من الأسنان وقدمّت لي قطعة من الخبز، لكنني لا أستطيع أخذ تلك السيدة العجوز معي وتحّمل أعباءها".

لقد كنت أحدق في هذا المقطع من منظور المغترب أو المنفي. لا شك أنه كان خائفاً من العودة إلى إسبانيا رغم العروض المغرية التي تلقاها من أمريكا والمكسيك وسواها. لقد غادر بيكاسو بلده أسبانيا ولم يعود إلى هناك على الاطلاق. وفكرة تركه هذا المكان ثانية، المكان الذي

صنعه هو، وأعني باريس، هي أسوأ عقوبة بالنسبة له. لذا قرر الانتظار، كما أظن، ليتدبر الأمر الصعب هذا. وقد كنت أنا أيضاً في غضون فترة لجوئي في الولايات المتحدة أفكر بقوانين بوش بشأن الهجرة حيث كنت حينها قلقاً بإمكانية ترحيلي بوصفي مواطناً تشيلياً.

 

أنا أعرف أن هذا الأمر يبدو غريباً جداً في بلد كأميركا، إلا إن ثمة نوعاً من الارهاب كان يحوم في الأجواء يشي بأن لا أحد مستثنى من هذه القاعدة، فحتى المواطن الأمريكي من الممكن أن يكون دون حماية. حينها فكرت مع نفسي قائلاً: "سأفعل أي شيء على أن لا أغادر مجدداً. هذا هو وطني الآن"، لذا لعلني حينها كنت أمتلك ذات الإحساس الذي كان يمتلكه بيكاسو في أن لا أصبح لاجئاً مرة أخرى.

 

ـ هل تحاول القول إن المنفى في باريس كان بمثابة قيد فني فرضه بيكاسو ذاتياً على نفسه؟

 

ـ إطلاقاً. أعتقد أنه قد أدرك ذلك فقط في وقت لاحق. وهذا ما دفعني لطرح السؤال الثاني وهو: "إلى ماذا سينتهى به الحال أخيراً"؟. لدي إحساس أن بيكاسو لم يكن يدرك ذلك. إنها دورا مارا (*) هي من تقول له في بدء المسرحية: "يمكنك فقط أن تعمل وتعمل وتعمل. لن يكون هناك المزيد من إقامة المعارض، ولن يكون ثمة أحد يقاطعك أو يزعجك".

كان بيكاسو في ذلك الوقت هو الفنان الأكثر شهرة في العالم. ولا تنسى أن الشهرة يمكن أن تكون عبئاً رائعاً بالنسبة لك. ويمكن أن لا تشكل عبئاً عليك فحسب بل تكون مرآةً خاطئة بالنسبة لك، وللسبب ذاته يمكن أن ينتهي بك الأمر في القيام بأشياء تؤجج تلك الشهرة بدلاً من أن تأجج لهيب الفن.

 

ـ أو يمكن أن تُخضِع المرء لرغبات الآخرين، ما يجعل صوته يتلاشى...

 

ـ أو ربما يصبح صوته مجرد تكرار لتلك الأصوات. حين تكون في حضرة الخوف الوجودي، الفراغ القابع هناك، الفراغ الذي يحدث كما أظن لنا جميعاً نحن الذين نكرس جهودنا من أجل الفن، يمكنك إما أن تحاكي ما هو سائد أو مشهور وتقوم بتكراره، أو يمكنك المضي قدماً والقيام بأمر آخر مختلف.

هذا الأمر أدركه بيكاسو أخيراً، على الأقل، في المسرحية. هذا الشبح الذي دعا الرجل الأعمى أن يسأله: "ألا تريد أن تكون ما كنته في البدء من دون أن يكون أحداً وسيطاً بينك وبين الخوف"؟.

 

الفن ليس سوى رهان على الموت؟ أنت تضع الفن بينك وبين الموت. ضع ذلك في هذا المنظور، بمعنى آخر، إنها عودة ثانية إلى شبح الخوف. إنه قيد، لكنه يمكن أن يكون دافعاً خلاقاً ومثمراً جداً أيضاً. وبهذا المعنى أعتقد، لسوء الحظ، أن أعمالي الأدبية والفنية كانت تتغذى على المخاوف التي قاسيتها.

دعني أقول أنني لو لم أمر بسنوات المنفى وسنوات بينوشيه وسنوات الحرب لن أكن هذا الشخص الذي أصبحت عليه اليوم ككاتب وفنان. تلك السنوات هي التي جعلت مني شخصاً بوسعه على الأقل أن يدنو من بيكاسو أو يعالجه بشيء من التعاطف مع معضلاته.

 

ـ حينذاك ستصبح متعاوناً مع خوفك.

 

ـ أوه، نعم، تماماً. وكادت المسرحية حينها على وشك أن تسمى "المتعاونون"، إلا إنني فضّلت تسميتها بـ (مخبأ بيكاسو) لأنه أكثر إثارة.

 

ـ لماذا؟

 

ـ لأنه لم يكن هناك وجود لمخابىء على الاطلاق. كنت أريد أن أوحي أن ثمة شيئاً ما يسعى بيكاسو لإخفائه، شيء ما غير بادٍ للعيان هو بحاجة لأن يتم الكشف عنه. الجميع كان متعاوناً أو متواطئاً معه حتى أنا. أنا أيضاً كنت موجود هناك من أجل قتله وبعثه ثانية.

 

ـ هل تشعر بشكل أو بآخر أن خبرات بيكاسو وتجاربه أثناء الحرب العالمية الثانية هي التي قتلته؟

 

ـ إلى حد ما، نعم. إنني أحذو حذو جون بيرغر (**) حقاً في هذا الشأن. أنا لا عتقد أن بيكاسو قد عمل شيئاً بعد الحرب يستحق الذكر مثلما عمل أثناءها حتى نهايتها، فهو لم يبدع عملاً مثل جورنيكا مثلاً. لو عقدنا مقارنة بين جورنيكا والعمل الذي أنجزه عن الحرب الكورية أو تلك المناهضة للجرائم ضد الانسانية، سنجد أن ما أنجزه بعد الحرب في الحقيقة هو ليس سوى أعمال عادية جداً تفتقر إلى الالهام والإثارة فيما يتعلق بفنه السياسي، قياساً بأشياء أخرى.

 

أعتقد أن بعض أعظم أعماله هي تلك التي أنجزها في باريس، مثل مجموعته التي تحمل عنوان "المرأة الباكية"، عام 1937، وثمة لوحة جميلة بشكل خاص وهي بورتريه لإبنته الصغيرة مايا. يمكن في هذه اللوحة ملاحظة خلوها من أي توتر، ثمة إحساس بالرقص على حافة الهاوية، الإحساس الذي ظل يعتري بيكاسو دائماً حتى النهاية.

 

إنني أحب تنويعاته. هو شخصياً قال: "لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي ينبغي أن يكون موتي".

ألبرت لوشت، الضابط الألماني، خصمه وقاتله‪, في المسرحية، يقول له في النهاية:"كل الأعمال التي لم تنجزها أبداً هي تنويعاتك" لكن ذلك لم يكن ذا أهمية بالنسبة له. بيكاسو قال لهذا الضابط الألماني: "إذا متُّ فسأكون أعظم من فيلازكز وغريكو وغويا".(***)

 

ـ نعم، إن جرأة لوشت على قتله، يقول بيكاسو في المسرحية، "تجعل منه إله".

 

ـ الإله هو الوحيد من يقرر موته. فهو، في هذا السياق، أشبه بالمسيح الذي يختار موته، ولهذا يصبح المسيح أعظم عمل فني وأحد أعظم الأعمال الفنية في الانسانية جمعاء.

إن مسرحيتي برمتها هي بمثابة استكشاف متواصل للعلاقة بين الحياة والفن والحدود الغائمة جداً بينهما.

 

ـ في إحدى لقاءاتك قلتَ بأن المسرحية هي أيضاً بمثابة قصة حب ؟

 

(تتمة اللقاء في القسم الثاني)

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

 

هوامش:

 

(*) دورا مار: هنريت ثيودورا ماركوفيتش (1907‪-1997) واسمها المستعار دورا مار: مصورة فوتوغرافية ورسامة وشاعرة فرنسية من أصل يوغسلافي كانت عشيقة وحبيبة بابلو بيكاسو منذ عام 1963 إلى عام 1944)‪.

 

(**) جون بيرغر (1926‪-2017) ناقد فني انكليزي، روائي ورسام وشاعر. حازت روايته (G) على جائزة بوكر عام 1972.

تتضمن دراساته النقدية للفنانين دراسة فريدة هي بعنوان " نجاح وإخفاق بيكاسو" عام 1965 هي دراسة استقصائية لمسيرة الفنانين المجددين، كذلك دراسته "الفن والثورة: إرنست نيجيستني، القدرة على التحمل، ودور الفنان في روسيا" 1969. عاش بيرغر في باريس أكثر من نصف قرن بعد مغادرنه بريطانيا بسبب نفوره من العيش فيها.

 

(***) دييغو فيلازكز (1599‪-1660) رسام إسباني وهو الفنان الرئيسي في بلاط الملك فيليب الرابع وأحد أهم الرسامين في العصر الذهبي الإسباني. كان فناناً يؤمن بالفردانية من العصر الباروكي المعاصر. رسم العديد من صور العائلة الملكية الإسبانية وشخصيات أوروبية بارزة أخرى، وكذلك العامة، وبلغت أعماله ذروتها في لوحته الشهيرة لاس مينياس 1656).

 

دومينيكوس ثيوتوكوبولوس (1541‪-1614) المعروف على نطاق واسع باسم إل غريكو، نحات ورسام يوناني ومهندس لفترة النهضة الإسبانية.)

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved