أنا ولغتي

2020-08-03


أنا ولغتي (1)
في زمن الحرب وعندما نزحنا من المحمرة، سكنا أماكن مختلفة ابتداء من قرى الجراحي ووصولا إلى الأهواز، والتي انتقلنا فيها أكثر من مرة من حي إلى حي .
كنت ومنذ الإبتدائية أحب اللغة العربية، بل مغرم بها؛ فتراني أذهب مع أبي أو وحدي أبحث في المكتبات عن كتاب قصة أو رسم أو أي موضوع آخر خطت كلماته باللغة العربية ... وأرجع خائبا !
جميع الكتب والجرائد والمجلات كانت فارسية .
هل هناك عداء ضد هذه اللغة ؟!
أو مؤامرة تحاك فتحيل بيننا وبينها فتحرمنا من أن نستنشق عبقها الطيب ؟!
وكنت أجيب رغم صغر سني :
لا شك أنه عداء، وأنها مؤامرة .
وجلست أفكر بالحل للخروج من هذا الحرمان، ومواجهة هذه المؤامرة .
وسرعان ما خطرت ببالي فكرة وجدتها آنذاك إنها سديدة :

اشتريت ورقة خاصة كنا نسميها ورقة امتحان، وبدأت أكتب رسالة لا أتذكر كم من الأخطاء النحوية والإملائية فيها، ولكنني وبكل تأكيد ملأتها بالأغلاط الإملائية والأخطاء النحوية :
أيها الأخوة الكرام،
النجدة، النجدة، النجدة؛
ارسلوا لنا كتبا عربية ... وإلا ضعنا .
ولتكن الكتب قصصا للأطفال، وتاريخية ودينية للكبار.
وشرحت في الرسالة أوضاعنا المأساوية وحرماننا من الكتب والجرائد والمجلات العربية .

ثم رحت أفكر ثانية وآمالي الطفولية :
لمن أبعث هذه الرسالة ؟!
إلى أي دولة عربية (شقيقة) ؟!
إلى العراق ؟!
ولكن الرسالة كيف تصل إلى العراق وفي الحدود نار الحرب مشتعلة !
وبسرعة فائقة اخترت مصر!
لا أدري كيف خطرت مصر على بالي رغم بعدها الجغرافيائي عنا ؟
ربما لأني كنت أسمع الكبار يتحدثون عن جمال عبدالناصر، ويذكرون خلال أحاديثهم دولة مصر .

وذهبت أشتري ظرفا لرسالتي التي كنت أظن أنها ستحل المشكلة، وأن الكتب العربية سترسل إلينا بالمقطورات فور وصول الرسالة !
ولكن الرجل طلب مني سعرا باهظا مقابل الطابع وقال :
طوابع الرسائل التي ترسل إلى الخارج باهظة الثمن .
ورجعت أدخر ريالا ريالا لأجمع سعر الطابع، وقد استغرق الأمر عشرة أيام .
واشتريت الطابع وألصقته خلف الظرف، وكتبت العنوان :
مصر - المكتبة الكبرى .
وكتبت عنواني على واجهة الظرف :
الأهواز - الكواخة - محل كريم المياحي .
وأدخلتها بلطف في صندوق البريد .

أما بالنسبة إلى محل كريم المياحي، فإن طريق الكواخة لم يكن معبدا، ولا توجد أرقام على البيوت؛ فالكواخة حي يشبه القرية تماما، ولهذا فإن ساعي البريد يودع الرسائل عند كريم المياحي الذي ينتهي الطريق المعبد إلى محله .
ويأتي الناس الذين ينتظرون رسائل من أبنائهم الجنود، أو ذويهم أو أصدقائهم إلى المحل، فيبعثرون الرسائل ليجدوا رسالتهم .
ومعظم الرسائل لا تصل إلى أصحابها، وبعضها يمزقها الأطفال أو المشاغبون حيث كانت في متناول يد الجميع .
انتظرت جواب رسالتي كثيرا ... حتى يئست .
20-2-2018

 

أنا ولغتي (2)
عندما كنا نسكن في الأهواز، اخترت في الصف التاسع فرع التجربي ودخلت مدرسة تسمى شهداء .
في السنة الثانية وتحديدا في عام 1988 تغير رأيي وعزمت أن أتابع دراستي في فرع الرياضيات، ولهذا انتقلت من مدرسة الشهداء إلى مدرسة أخرى تسمى مصطفى خميني .
كانت المدرسة تبعد عن بيتنا في الكواخة أكثر من ساعة مشيا، ولهذا كنت وزميلي سعيد العبادي نستقل الحافلة للوصول إليها .
وما أكثر ما أجبرنا أن نمشي تلك المسافة البعيدة ذهابا إلى المدرسة، أو رجوعا إلى البيت في حرارة الشمس التي تبلغ الخمسين؛ ولم نستطع أن نستقل التاكسي لشحة ما في جيوبنا من نقود !

كنت في المدرسة الجديدة أنتظر مدرس اللغة العربية لأرى هل هو عربي أم لا ؟
مدرسنا في السنة الماضية كان فارسيا لا يفقه من العربية شيئا؛ كان الطلاب يعرفون العربية أكثر منه .
والجدير بالذكر أن في مدارسنا وجود حصة العربية وعدم وجودها سواء، حيث لا يتعلم الطلاب من هذه الحصة الواحدة شيئا .

دخل مدرسنا وعرّف نفسه :
عباس الطائي .
وبدأ بإنشاد الشعر بإحساس شاعري، وكتب الحِكم بخطه الجميل على السبورة وتكلم معنا بلغتنا .
أحببت حصة الأستاذ الطائي كثيرا، كنت في حصته أحضر معي كراستين، واحدة للدرس والثانية للأشعار والحكم التي ينشدها أو يكتبها .

أخبرته ذات يوم عن شغفي بقراءة الكتب العربية التي لم أحصل عليها سوى على كتاب واحد هو حياة أم كلثوم، والذي نقلته بيدي في دفتر وفي ليلة واحدة من كتاب أستعرته من أحد زملائي .
أخبرني الدكتور الطائي وقد حصل على الدكتوراه فيما بعد، وأغتنم الفرصة لأدعو له بطول العمر والعافية، وأعبر عن اشتياقي إليه؛ أخبرني أن هناك مكتبة صغيرة تبيع الكتب العربية؛ فكتب لي عنوانها .
ولا أتذكر الآن من العنوان إلاّ شارع كيان .
طلبت من أمي مبلغا من المال واستقرضت مبلغا آخر من أصدقائي، وتهيأت للذهاب إلى المكتبة .
كان شارع كيان يبعد عن الكواخة كثيرا كما وصفه لي أصدقائي، أي لا أستطيع أن أقصده مشيا، وإن ذهبت بسيارات الأجرة نقصت نقودي، والتي خصصتها لشراء الكتب .
إذن عليّ أن أذهب بدراجة أخي النارية .

كانت الحرب قد وضعت أوزارها للتو، وأخي محمد حضر للخدمة العسكرية الإجبارية بعد أن غاب عنها ثماني سنوات، أي فترة الحرب كلها .
والحقيقة أنه كان يتخبأ هنا وهناك، وكأنه مطلوب .
ذات مرة اعتقلوه عند الباب لحظة خروجه من البيت، وكادوا أن يرسلوه إلى الجبهة لولا جنسيتي المدنية .
خرج أبي رحمه الله بعد أن سمع إطلاق النار، وجد محمدا مكبلا في سيارتهم !
فقال لهم إنه صغير ولم يحن تجنيده بعد، واسمه سعيد وهذه جنسيته... ونجحت الفكرة .

كان أخي المسكين لا يذهب إلى السوق كثيرا خشية الإعتقال والتجنيد؛ وإن ذهب رافقته زوجته خوفا عليه .
وقد ازداد التوجس والحذر بعد أن اعتقلوا ابن خالتي وأرسلوه إلى الجبهة حيث قضى نحبه هناك .

وأرجع إلى شارع كيان والمكتبة، أخذت دراجة أخي محمد المجند قسرا ورافقني صديقي كريم الدلفي واتجهنا نحو العنوان في نفس اليوم .
استغرق المسير والبحث عن المكتبة أكثر من ساعتين حتى وجدناها، لكن الباب كان مغلقا ! يا لسوء الحظ !
سألنا المحلات المجاورة فأخبرونا أن الرجل سافر إلى طهران وسيرجع غداً، فرجعنا خائبين حزينين .
21-2-2018

 

أنا ولغتي (3)
تلك الليلة لم أنم مرتاحا، كنت مستعجلا، أو بالأحرى مشتاقا لشراء الكتب العربية، وعند الغد رافقني زميلي سعيد العبادي واتجهنا بالدراجة النارية نحو كيان، الشارع الذي توجد فيه مكتبة عربية .
كنت أسوق وأتكلم مع زميلي سعيد، وفجأة ...

فتحت عينيّ لأجد نفسي في المستشفى سابحا بالدماء، الممرض يخيط جرح رأسي، والممرضة تنظم قطرات محالیل المصل التي كنت أحسها تجري في عروق يدي اليمنى .
وعند انتهاء عملهما دخل عليّ زميلي سعيد ملتاعا، لكنه والحمد لله كان سالما .
سألته بصوت مرتعش من شدة الألم الذي أحسه في رأسي :
ماذا جرى يا سعيد ؟
وأجاب سعيد بجزع وحزن :
لقد تعرضنا لحادث !
ثم دخل رجل قال إنه سائق الحافلة التي صدمتنا، فأعرب عن فرحته لسلامتي .
سألت عن الدراجة، قالوا إنها بقيت في مكان الحادث وقد نقلتها الشرطة إلى المخفر، وكذلك فعلت بالحافلة .
خرجنا من المستشفى بعد ساعتين، وأبلغتنا الشرطة أن نحضر غدا إلى المحكمة .

كنا قريبين جدا من شارع كيان، نتمشى ببطء، والأنظار تتوجه إلينا باستغراب !
قميص أبيض مضرج بالدماء! ورأس معصب بالضماد الذي تغير لونه إلى الأحمر من شدة النزيف والبيتادين، ونتمشى في الشارع، مشهد غريب حقا !

سألت رجلا عن المكتبة رغم الدوار الذي أصابني بعد خروجي من المستشفى،
ورغم الألم الذي بدأ يشتد بعد زوال تأثير البنج؛ فاندهش سعيد وقال:
وأنت في هذا الحال ؟!
قلت : ولماذا جئنا وتعرضنا لحادث وجُرحتُ وسالت دمائي إذن ؟
أليس كل هذا لأجل أن نصل إلى المكتبة ؟!
ودخلنا المكتبة .

كانت أبعادها إن تسعفني الذاكرة 2 في 3 أمتار لا أكثر، وأظنها كانت المكتبة العربية الوحيدة في الأهواز، والتي يبلغ عدد سكانها الملايين !
وعلى القارئ أن يتصور عمق الكارثة .

عند دخولنا وأنا في تلك الهيئة المخيفة، وثب الرجل الذي كان جالسا من مكانه وسأل في توجس :
ماذا تريدان ؟!
أجبت بهدوء وإرهاق : نريد كتبا .
وقصصت عليه القصص بأكملها .
وقف الرجل البائع لبرهة ينظر إليّ بغرابة، ثم قال :
لا أصدق ما قصصت لولا انك مضرج بدمائك أمامي !
ثم أردف وهو يوجهني صوب رفوف الكتب :
ما أشد اشتياقك إلى القراءة !
خذ ما شئت من الكتب ودون أي مقابل .
اشتريت أربعة كتب، وأهداني الرجل الكريم كتابا أو كتابين، ثم رجعنا .

عند الصباح أخذت من أمي مبلغا آخر بعد أن أخبرتها إني متوجه إلى المحكمة، وذهبت على مضض.
أغرمني القاضي 3000 ريال لعدم امتلاكي رخصة القيادة، ثم توجهت إلى المخفر آخذ الدراجة .
وجدت عجلتها الأمامية معوجة تماما، وأن الدراجة مدمرة، كلفني تصليحها 5000 ريال، لا أتذكر كيف دبرتها .

 

سعيد مقدّم أبو شروق

 مدرس فرع رياضيات

يسكن  الأهواز

نشر قصصه في العديد من المواقع

نُشرت له مجموعة من القصص القصيرة جدا

saeed135057@gmail.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved