أنتَ موهوبٌ جداً .. أِذهبْ الى أميركا !!

2020-02-03
أَنْ تكونَ انساناً، فحسب !!
الآن وهنا 
في هذا الزمان وفي هذا العالَم،
عجيبٌ كم يُكلِّفك هذا الأمر!!
ربما تغادرُ من بلدٍ الى بلد
ربما يكونُ البلدُ الأولُ الذي غادرتُهُ وطنَك
ربما رمقتْكَ أمُّكَ في لحظةِ الوداعِ الأخيرِ وأنت لمْ تفصحْ عن قصدِك بالسفرِ البعيد 
الّا انها أحسّتْ وعرفتْ بحدسِ الأُمِّ انها لن تراك بعد هذا 
ربما تكونُ ودَّعتَ أهلَك وصحبَك والبهاءَ العميمَ في القلوبِ والأرواح ِفي ذاك الزمان
هذا البهاءَ الإنساني الذي سوف لا تجدُ مثله أينما ذهبتَ،
ربما مررتَ في الليلة الأخيرة على الممشى النهري قرب بيتكم لتقول وداعاً دجلة، وداعاً فرات !!
ربما نظرتَ في الطريق ومن نافذة السيّارة إلى بساتين النخيل التي كنتَ تطالعُ فيها قربَ النهرِ دروسَك رفقَة زملاء مدرسة رائعين .
ربما بقي في كل متر تركته وراءك شيئاً من قلبك ومن روحك .
لكنَّكَ فعلتَ هذا كلَّهُ لأنك كنتً مُخيَّراً بين أمرين : الموتِ الجسدي أو موتِ الإنسانِ فيك .
أتيتَ هنا ووصلتَ بمغامرةٍ وأِعجوبةٍ الى أوربا، إلى الغربِ الديمقراطي، وحضارةِ حقوقِ الإنسانِ التي كنتَ تسمعُ وتقرأُ عنها .
كدتَ انْ تفقدَ حياتَك في الطريق ... ،
لكنَّك أتيتَ ووصلت !!
أتيتً مليئاً بالأمل 
شبابُك جميل
طموحُك  وثّاب 
حسُّك مرهف 
ذكاؤك وقّاد
خُلقك نبيل
هذا ما يشهدُ لك به الآخرون الغرباءُ الذين منحوك لقب : الأمير البابلي .
تعلمتَ اللغةَ الصعبةَ الغريبةَ عنك تماماً في بضعة أشهر إلى حدِّ الاتقان، وسط ذهول كل مَن عرفك،
تمكنتَ ان تعملَ مدرساً خصوصيا فدرَّستَ الفيزياء والرياضيات والعربية والإنجليزية  لأهل البلاد الغريبة التي أتيت اليها،
كان من ضمن طلبتك وأنت الشاب العشريني طالبات شابات جميلات دون العشرين
يتركوهنَّ أهلُهنَّ معك في البيت ويذهبون للعمل أو للتسوق .
دخلتَ الجامعةَ وتفوقتَ بشكلٍ أذهلَ أساتذتَك وزملاءَك الذين يدرسون معك في لغتهم الأم،
كنتَ تكتبُ في بضع ساعات العملَ الجامعي الفصلي الذين يحتاجون هم لكتابته فترة شهرين من الجهد والبحث والتقصي وشراء المصادر واستعارة الكتب،
وأنت المشغولُ من قمّة الرأس الى أخمص القدم بهمومِ وطنك وشعبك وأهلك، والمستغربُ من ظلم العالَمِ لوطنك، تأتي قبل يوم من موعد تسليم العمل الجامعي إلى الأستاذ فتكتبه بدون الإستعانة بالكتب والمصادر في بضع ساعات !!
وتسلِّمُهُ إلى الأستاذ في اليوم الثاني في الموعد المحدَّد دون ان تبوحَ إنك كتبتُهُ في بضع ساعات فتنالُ بعد ذلك درجةَ النجاحِ التي لا ينالُها بعضُ الطلبةِ الذين أمضوا شهرين وهم يبحثون ويكتبون .
تمكنتَ من الكتابة الأدبية في اللغة الجديدة نثراً و شعرا .
بدأتَ تقيم الأماسي الأدبية بالّلغتين، لغتِك الأم واللغة الجديدة،
تقرأُ نصوصَك ساعةً كاملةً عن الغيب وبدون الإستعانة بورقة أو كتاب أَمامَ جمهور منذهل يقول لك إن ما رآهُ وسمعَهُ ظاهرةٌ ومفاجأة .
ترجمتَ عن أفضل أدباء وشعراء أدب اللغة الجديدة إلى لغتِكَ الأم إلى درجة أن أستاذك المختص في الترجمة اعتذر منك وهو يمنحك عن هذه التراجم أعلى درجة ممكنة في الجامعة،
كان يقول لك : أمنحُكَ أعلى درجة ممكنة في هذه الجامعة وأعتذر، لأن الجامعة يجب ان تستحدثَ لك درجةً خاصةً أعلى، فأنا لم أر في حياتي أجملَ وأكثرَ اتقاناً من هذه التراجمِ ، لا داخل الجامعة ولا خارجها .
درّستَ في الجامعة وأبدعتَ في تدريسك باعترافِ طالباتِك وطلّابك الذين كنتَ تسألهم في محاضرة آخر الفصل عن ملاحظتاهم النقدية بشأن أسلوبِك في التدريس أو طريقتِك في إيصال المعلومة، فيأتي جوابهم الذي يذهلك في ايجابيته، إلى درجة أن إحدى الطالبات وأمام مرأى ومسمعِ زميلاتِها وزملائِها في قاعة المحاضرات قالت لك بالحرف الواحد : ( أنت أفضل أستاذ درَّسني في حياتي على الأِطلاق ) !
ومع هذا ورغم هذا الإنجاز لم تتمكن من الإحتفاظ بمهنتك التي تعشقها وتُبدع فيها  
بعد هذا كلّه تنهالُ عليك المشاكلُ والمصاعبُ من كل حدبٍ وصوب 
وتهطلُ في دربك الصخورُ
وتُنصبُ في طرقك العوائقُ
وتَخسرُ علاقاتك الحميمة دون سبب معقول
وتتركك النساءُ اللواتي عشقنك حدَّ الوله وحدَّ القسم بك
ويبتعدُ عنك الأصدقاءُ
ويحذرُ من دعمِ مشاريعِك الأساتذةُ
وترفض أبسطَ طلباتِك الحكومةُ
وحين تراجعُ مراراً أهلَ الخبرةِ من أهلِ البلدِ الذي أتيتَ اليه وعشتَ وأبدعتَ فيه،
يقولون لك : ( أنت موهوب جداً، لماذا لا تذهب الى أميركا بلد الأإمكانات اللامحدودة .. أن مكانك في أميركا، أنت موهوب .. اذهب إلى أميركا ) !!
وأنتَ تعرفُ مجازرَ الحروبِ التي اقترفتْها أميركا ضدّ وطنك 
ومجزرة َالحصارِ الذي قادتْهُ أميركا ضدَّ أطفالِ بلدك، وضحاياه المليون طفل في عقدٍ واحد .
بلْ أنك تعرفُ فصولَ هذا التاريخ الدامي كلَّه،
وأنتَ تريدُ ان تكونَ انساناً وتبقى إنساناً .
فكم يكلِّفُك وكلَّفََكَ هذا الأمر بالفعل : ان يكونَ الإنسانُ إنساناً فحسب !!
هل كنتَ تدركَ أن يحدث هذا ؟!
الآن، وهنا في قلبِ أوربا ؟!!
 
 
********
 
ملاحظة ـ زمان ومكان كتابة هذا النص : في اليوم الثامن والعشرين من كانون الأول 2019 ، في برلين. 
 
 

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved