آراء وأفكار في الآداب واللغات

2016-05-26
اور في اللغة الألمانية 


لاتوجد  كلمة أور في اللغة العربية ولغات الشرق القديم فقط بل ان لها وجود في اللغة الألمانية أيضاً!!  ووجود الكلمة ، أور،  أسم عَلم أو أسم مدينة في لغات أخرى أو في كل لغات العالم  مسألة طبيعية يفرضها العِلم وعلى الأخص علم الآثار وعلم التاريخ وعلم اللغات وعلم الأدب وتاريخه، فما من عجب ان يكون اسم المدينة الأولى في العالم أو اسم حاضرة تُعتبر من أقدم حواضر البشرية المعروفة في التاريخ معروفاً في كل لغات العالم . لكن العجب ان يكون أسم أومقطع ـ أور ـ في اللغة الألمانية يقترن بمعنىً ثانٍ الى جنب المعنى الدال على أسم المدينة ويصبح هذا المعنى من تركيبة اللغة الألمانية نفسها حتى لو كان طارئاً عليها وليس هناك مايدل على وجوده في أصل هذه اللغة !!

 المعنى الثاني لكلمة اور في اللغة الألمانية ، والتي تُكتب في الحالتين ككلمة مكونة من حرفين (  Ur ) ، يعني الأصل أو المرجع!!
   
الأكثر غرابة ان الأسم ثنائي الحرف تحول الى مقطع لغوي يُضاف الى كلمات أخرى فيكسبها معنى العراقة والأصالة والغور في القدم فمثلاً هناك كلمة (  uralt ) والكلمة مكونة من المقطع الأول  ( ur )  مضافاً اليه كلمة (  alt ) حيث ان هذه  الكلمة  صفة في اللغة الألمانية تقابل تماماً وتشبه كلمة ( old )  في الأنجليزية وتعني قديم ، أما الكلمة مع المقطع سوية أي، uralt، فتعني : العريق أو الموغل في القِدم!!
وهكذا مع كلمات  في اللغة الألمانية يدخل عليها هذا المقطع الساحر فيمنحها معنى السببية مثلاً ( Ursache ) وتعني المسبب أو السبب أو أصل الشيء حيث كلمة ـ   Sache ـ تعني شيء فتكوِّن مع المقطع ( Ur ) سوية مايعني أصل الشئ  أو المسبب أو الجذر أو المنشأ!!
كما ان هناك تعبير  ـ   Urquelle  ـ وهو مكون من المقطع  (  Ur  ) بالأضافة الى كلمة  ( Quelle ) وتعني مفردةً  : الينبوع أو النبع أو المنبع أو المصدر أو المرجع، أما حين تأتي مندمجة مع مقطعنا فتتخذ معنى: المنبع الأول أو المرجع الأصل !!
الغريب في الأمر أيضاً بل الأشد غرابة ان هذه الكلمة  (  Ur )  في اللغة الألمانية لاتمتلك فعلاً أو مصدراً أو مايسمى في اللغة الألمانية  ب   (    Infinitiv  )  .

فكرتُ في الحقيقة في هذا الأمر : لماذا توجد هذه الكلمة في اللغة الألمانية كأسم مدينة وايضاً ككلمة داخل اللغة تعني المعاني التي تطرقنا اليها دون ان يكون لها أصل فعل أو مصدر ؟!. وتوقعتُ ان تكون الكلمة قد انتقلت مع المعاني التي تفيد القِدم السحيق والعراقة والمصدر والنبع والأساس والمَنشأ من كلمة أور التي  تُطلق على أور السومرية.
ولكن هذا مجرد توقع وعليَّ ان أسأل وأتأكد !!..
والتأكد يكون من علماء وخبراء اللغة ممن هم أدرى وأكثر معرفة في اختاصهم .
في يوم ما وفي المرحلة الأخيرة من دراستي لنيل شهادة الماجستير في فرع الأدب العام والأدب المقارن  مع فرع الأدب العربي كان لدي موعد مع استاذي رئيس قسم الأدب العام والأدب المقارن في جامعة برلين الحرَّة  البروفسور الدكتور جيرت ماتنكلوت  Gert Mattenklott وهو من علماء اللغة الألمانية والأدب الألماني والأدب المقارن البارزين والمعروفين في المانيا وأوربا بل وحتى في أميركا سبق وان درَّس في دول عديدة منها المانيا وفرنسا وايطاليا واميركا واليابان، وكنتُ أزور بعض الفصول الدراسية التي يقدمها لطلاب الماجستير والدكتوراه .
موعدي معه كان بشأن الحصول على شهادة خبير أو توصية مختص أو مايسمى في اللغة الأكاديمية الألمانية ب  (   Gutachten ) ، وهذا عرفٌ متبع في الجامعات الألمانية حيث يقوم أحد الأساتذة من ذوي المعرفة والخبرة في اختصاصه بكتابة تقييم لأحد طلبته أو الباحثين العلميين معه يستند عليه الطالب أو الباحث العلمي في الحصول على زمالة أو بعثة دراسية أو منحة تفرغ لأنجاز عمل ما .
 كنتُ أنوي آنذاك الحصول على منحة تفرغ لأنجاز عمل أدبي وقد أخذتُ معي نسخاً من قصائد ومواضيع كنتُ نشرتُها في الصحف والمجلات الناطقة في الألمانية وعلى الأخص في جريدة زيوريخ الجديدة  (  Neue Zürcher Zeitung   ) الصادرة في سويسرا والتي تحظى المواضيع المنشورة في قسمها الأدبي والثقافي باهتمام اساتذة الأدب الألمان ويعتبرها بعضهم أفضل الجرائد الناطقة بالألمانية في هذا الخصوص .
استقبلني الأستاذ البروفسور في مكتبه في القسم  بالترحاب وأثناء الحديث ودَّ ان يعرف بعض الشيء مني عن وطني ومدينتي وعن الأدب والتاريخ هناك رغم انه يعرف مسبقاً انني أتحدر أصلاً من العراق .
حين أخبرته انني من أحدى مدن العراق اسمها الناصرية استوضح أكثر، فقلت له انني أنحدر من مدينة صغيرة في جنوب الناصرية  اسمها الفهود ضمن منطقة الجبايش ومن مناطق الأهوار في جنوب العراق .
أردف ان هذه المناطق تعتبر أصل الحضارات في العالم لأنها مناطق السومريين، وسومر أصل الحضارات!! 
قلتُ له ان مدينة أور التي كانت مملكة قبل خمسة آلاف عام ومركزاً لهذه المنطقة تقع على بعد عشرة كيلومترات فقط من مركز مدينة الناصرية الحديثة .
قال : ياللدهشة.
آنذاك أتت الفرصة كي أسأله السؤال الذي كنتُ افكر في طرحه يوماً على أستاذ مختص. قلتُ له :
أستاذ هناك تعابير في اللغة الألمانية يدخل ضمن تركيبها اللغوي مقطع  ـ أور ـ وكلها تفيد التعبير عن العراقة والأصالة والقِدم والمنشأ والسبب ! ثم أوردتُ الكلمات الألمانية التي تحتوي على هذا المقطع والتي ذكرتُها قبل قليل في مقالي هذا. كما أبديتُ استغرابي ان مامن فعل أو مصدر لكلمة Ur  في اللغة الألمانية . بعد ذلك حاولتُ أن أسمع رأيه في توقعي أو استنتاجي الذي مفاده ان هذه الأشتقاقات في اللغة الألمانية  مشتقة أو قادمة من أسم مدينة أور في العراق أو مابين النهرين !!.
وياللمفاجأة حين أخبرني بعد أطراقة قصيرة انه يرجح هذا الرأي حيث ليس من مصدر أو أصل لكلمة  Ur في اللغة الألمانية !! ، ثمَّ أبدى أعجابه الشديد بالسؤال والفكرة .
تركتُ القصائد والمواضيع الأدبية عنده مثلما طلب لنتقابل في موعد آخر وليكتب شهادته عني على ضوء ما قرأ لي .
حينما تقابلنا بعد ذلك أخبرني الأستاذ  انه أطلع على القصائد والمواضيع بروية وان القصائد المنشورة في جريدة زيوريخ الجديدة كانت معروفة لديه قبل ان يستلمها مني وحينما سألته كيف أطلع عليها، أجابني ان زوجته قرأتْ تلك القصائد في الجريدة واحتفظتْ بنسخة الجريدة لتقدمها له في البيت . وزوجته بروفسورة جامعية أيضا في حقل علم الجمال والمواهب التربوي أو علم المواهب الجمالي التربوي، وتدرِّس في جامعة الفنون في برلين .
طلب مني بعد ذلك برجاء وتهذيب ان اقدم له المزيد من قصائدي ومواضيعي الأدبية، كما طلب مني وهو رئيس قسم الأدب العام والأدب المقارن ان أقدم له الأعمال الأكاديمية الأدبية التي كتبتُها عند زملائه الأساتذة الآخرين في القسم ضمن المنهاج الدراسي والتي حصلتُ مقابل انجازها على درجات ستؤهلني للتقدم الى امتحانات الماجستير. 
عرفتُ حينها ان فضوله للأطلاع على أعمالي كبير وان الأمر طيب وليس فيه تجاوز على أحد فهو رئيس قسم وعلّامة  وحجَّة في الأدب وأنا طالب لديه !!
جلبتُ له بعض قصائدي وبعض الأعمال ألأكاديمية التي كتبتُ بعضها كمقالات أدبية دون الأستعانة بمصادر خارجية بل اعتمدتُ فيها على محاولات فهمي وتحليلي للنص الأدبي روايةً أو قصةً أو قصيدةً، ومن الذين كتبتُ عنهم كتّاب المان مثل فرانزكافكا وبرتولد بريشت وهولدرلين وباول سيلان .
بعد فترة استلمتُ الشهادة على شكل تقرير مكتوب بلغة المانية أدبية عالية جداً مع ملاحظة في اللغة الأنجليزية  تقول : لمن يهمه الأمر!
قال لي الأستاذ هذا التقرير الذي تستحقه موجه الى كل فرد، وكل مؤسسة وكل جهة، بأمكانك تقديمه دون تردد في أي زمن ولأي مكان!!
قرأتُ شهادة استاذي ففكرتُ حينها انه لم يمنح من قبل طالباً أو باحثاً علمياً شهادةً بمثل هذا الحماس، هذاالمديح، هذا ألأطراء ، وهذه الثقة بما يكتب وبالذي يكتب عنه، صفحة كاملة تقريباً عبارة ثناء تردف عبارة اعجاب وتوقع لمستقبل كبير لشاعر وكاتب وناقد يعقب تعريف بشاعر وكاتب وناقد.
وربما يسأل القاريء الكريم ومن حقه ان يسأل : ماالنتيجة؟!
النتيجة انني لم أحصل على هذا الدعم من المؤسسات  (  الثقافية   ) التي تقدمتُ اليها بأعمالي مرفقة بهذاالتقرير من استاذ الأساتذة وهو استاذ بعض اعضاء لجان التحكيم !!
والغريب الغريب في الأمر انني في أحدى المحاولات تقدمتُ بأعمالي مرفقة بشهادة هذا البروفسور الى مؤسسة دعم ثقافي وكان هذا البروفسور نفسه عضواً في لجنة التحكيم في ذاك الموسم فأرفقتُ شهادته بأعمالي، لكن هذه المؤسسة التي اعتادت رفض أعمالي فيما سبق دون تبرير وتفسير رفضت طلبي هنا أيضاً في برلين المفارقات والعجائب والغرائب، ولا أعرف الآن هل وصل ملف طلبي وأعمالي الى استاذي عضو لجنة التحكيم أم ابتلعته الأفاعي والعقارب !!
لم أسأل الأستاذ الذي ساءت حالته الصحية وتدهورت بسرعة حينما بدأ السرطان يتقدم ويفتك بجسده ولم يكن بالمتقدم بالعمر أو الشيخ الكبير الى ان اسلم الروح قبل بضع سنوات!
بقي لدي منه هذا التقرير بالمديح النادر والثناء الفاخر والتوقع العالي لمستقبل لا نعلم متى سيأتي، وبقي معي  ـ وهذا هو الأهم  ـ أعجابه بفكرتي ان كلمة اور في اللغة الألمانية مأخوذة من اسم مدينة اور السومرية، من بلاد النهرين !!
نعم من المدينة التي تروي عنها الأديان والآداب انها مسقط رأس ابي الأنبياء والديانات السماوية أبراهيم الخليل، ومن العراق حيث يرقد الأمام علي بن أبي طالب وأبنه الأمام الحسين بن علي عليهم جميعاً وعلى العراق السلام !!!!
وابراهيم يسمى في الألمانية أيضاً ( Der Urvater ) وهذا يعني الأب الأول أوالأب الأصل .
قبل بضعة أيام وأنا أتهيأ لكتابة هذا المقال  أردت ان أعرف من الحس الشعبي العام ماذا يقول ويفكر عامة الناس عن كلمة اور في اللغة الألمانية .كنتُ حينها أجلس في مقهى قرب بيتي وقرب طاولتي جلس شابٌ الماني رفقة شابتين من ألمانيا أيضاً. سألتهم فيم اذا كانت اللغة الألمانية لغتهم الأم وفيما أذا كان بأمكانهم الأجابة عن سؤال فأجابوا بالأيجاب، حينها سألتهم ماذا يعتقدون من اين اتت كلمة أور في اللغة الألمانية ؟!
أجاب الشاب انه يعتقد ان الكلمة لها علاقة بالمدينة التي ولد ونشأ فيها مؤسس الأديان، ثم أردف: نسيتُ اسمه !
قلتُ له : تعني ابراهام؟!
قال : نعم ، نعم . تماماً ابراهام .
ووافقت زميلاته على قوله . كان الثلاثة طلبة في كلية الحقوق .
أمس سألتُ زميلة المانية تدرس الأدب الأنجليزي وأبديتُ لها رأيي في أصل الكلمة،  فعقبت بالقول: هذه نظرية ممتعة.
واليوم وفي كافتيريا المكتبة سألتُ زميلة تدرس على الدكتوراه في الأدب الألماني ومن أصل الماني أيضاً ونحن نشرب القهوة، ابدتْ سرورها البالغ في الألتفات الى هذا الموضوع وأيدتْ رأيي في انتقال الكلمة واشتقاقاتها من أصل وأسم المدينة السومرية  ثم غاْدرتْ كافتيريا المكتبة لتعود شتيفاني ( Stefanie ) الي بعد نصف ساعة تقريباً ممسكة في يمينها ورقة في أسماء مصادر ممكن ان تعزز بحثي هذا .
ولكنني لاأميل الآن الى استخدام المصادر فالأمر يتعلق في أجتهاد فكري وتنظير، سأعمل مستقبلاً على برهنته وتعزيزه وأثباته،  قد يتطلب الأمر بعض الوقت وقد يكون مشروع اصدار كتاب !

*  هذاالمقال هوالمقال الأول من سلسة من المقالات سانشرها تحت العنوان العام: آراء وأفكارفي الآداب واللغات .

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved