ايها اللبنانيون، سنبقى نحب بيروت

2020-08-10

لفتتني رسالة بعث بها أحد الأصدقاء محتجا عن أسباب البحث عن مبررات حب بيروت . رغم وجاهة هذا الإحتجاج وصحته، بأن محبة بيروت لا تحتاج الى أي مبررات، لأن كلمة الحب تكفي كي تعبر عن عشق الملايين لهذه المدينة.. لكن هناك بعض التفاصيل الصغيرة، التي قد لا تكون ملموسة لدى الكثيرين، تجعل من التعبير الدائم عن محبة بيروت ولبنان ضرورة، خاصة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان الذين تربطهم ببيروت علاقة من نوع خاص..

فكلما توغلنا في دواخل بعض اللبنانيين نكتشف جديدا يضيف الى قاموسنا وفهمنا الكثير مما كنا نجهله . فحين نعتبر ان التمييز السلبي ضد الشعب الفلسطيني في لبنان، والذي يقترب من درجة العنصرية هو آفة يجب مواجهة أصحابها، نظرا للخطر الذي تشكله على نفسها وعلى المجتمع، فان هذا الإستنتاج نابع من مسار طويل من التعاطي غير الإنساني من قبل فئات معينة داخل المجتمع اللبناني التي تصر على النظر إلى هذا الفلسطيني نظرة مختلفة، وهي لا تعدم وسيلة، قانونية وغير قانونية، لتأكيد صوابية منطقها، حتى لو كان ذلك على حساب مشاعر ووطنية الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، الذين لا يجدون اي عذر او مبرر لأصحاب تلك الممارسات، حتى لو غلِّفت بغشاء الحرب الإهلية في لبنان التي أعلن عن انتهائها منذ ثلاثين عاما..

مناسبة هذا الكلام هو إصرار بعض وسائل الإعلام اللبنانية على التعاطي بسلبية مع الوجود الفلسطيني في لبنان، وهو تعاطي يعكس نمطا معينا في نظرة بعض اللبنانيين تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام.. وآخرها تجاهل التفاعل الإيجابي للمخيمات الفلسطينية مع مأساة مدينة بيروت . فقد وقعت الكارثة بحدود الساعة السادسة مساءً . ولم يمض سوى وقت قليل جدا، حتى انهالت الدعوات في المخيمات من جميع الفصائل والمؤسسات إلى التبرع بالدم وفتح أبواب المؤسسات الصحية داخل المخيمات للجرحى. ولم تكن غريبة هذه الإستجابة السريعة من قبل شباب المخيمات الذين هبوا جميعا إلى تلبية النداء، انطلاقا مما تمثله بيروت ولبنان بشكل عام بالنسبة للشعب الفلسطيني .

في اليوم التالي، توقفت جميع الفعاليات في المخيمات الفلسطينية في لبنان، سواء الصحية المتعلقة بمواجهة تداعيات كورونا أو الوطنية ذات العلاقة بصفقة القرن ومفاعيلها، وكانت الأولوية هي في كيفية حشد الدعم والمساعدة، رغم الإمكانات البسيطة والمتواضعة لدى أبناء المخيمات . فنظمت فرق الدفاع المدني نفسها، وواصلت المراكز الصحية استقبال الجرحى وأعلن عدد واسع من رجال الأعمال الفلسطينيين في بيروت وصيدا والشمال الإستعداد لاستقبال عائلات فقدت منازلها أو تضررت بفعل الإنفجار..

وجه الإستغراب هنا هو ليس في إبراز التفاعل الإيجابي السريع للمخيمات الفلسطينية مع ما أحدثته الكارثة، ولا في الحديث عما قدمه الشعب الفلسطيني من مساهمات ميدانية إلى جانب الفرق اللبنانية والأجنبية، سواء فرق الإسعاف والهيئات الصحية أو الدفاع المدني، بل انطلاقا من تجاهل بعض وسائل الإعلام اللبنانية، وعن قصد، لهذا الجانب الإيجابي والمضيء في علاقة الشعبين الشقيقين اللبناني والفلسطيني، والتي يبدو أن تطورها يزعج الكثيرين من أُولئك الذين يصرون على تقديم الفلسطيني في لبنان بغير صورته الحقيقية..

وجه الغرابة أيضا ليس في عدم تفاعل الإعلام اللبناني مع بعض الظواهر الإيجابية، فهذا شأن هذه الوسائل، لكن حين يفتح الهواء على مدار الساعة ويجوب المراسلون كل الأراضي اللبنانية في تغطيتهم لردود الفعل المحلية وإبراز المبادرات الإيجابية في تفاعل المجتمع اللبناني مع تداعيات ما حصل، بينما المخيمات التي لا تبعد عن منطقة الحادث وعن المقرات المركزية لهذه الوسائل سوى أمتار قليلة يتم تجاهل مبادراتها وتفاعلها الحي مع ما حدث.. هنا يصبح للسؤال أهمية عن اسباب هذا التجاهل ولخدمة من يتم التعتيم على كل الظواهر الإيجابية داخل المخيمات التي دائما ما يتم تصويرها على غير حقيقتها.. وهنا نعود بالذاكرة إلى تلك المقولة الصهيونية "ان الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت" .

نظرة بعض الإعلام اللبناني إلى فلسطينيي لبنان هي امتداد لمسار طويل من التعاطي السلبي مع المخيمات وما بداخلها.. فحين تخرج المخيمات عن بكرة أبيها في تحركات احتجاجية ضد إجراءات وزارة العمل، وبشكل يومي، على امتداد ثلاثة أشهر، فان هذا الإعلام لا يرى ولا يسمع ما يحصل داخل المخيمات، بل أن بعض القنوات ادعت، على سبيل المثال أن تظاهرة مدينة صيدا، 16 تموز 2019، التي قدرت بنحو خمسين الفا بلغت بضع مئات من المتظاهرين.. وحين تنظم في المخيمات عشرات التحركات الشعبية رفضا لصفقة القرن وتداعياتها، فلا تجد لها أي أصداء على شاشات بعض الفضائيات، بينما يفتح الهواء والبث المباشر لتحرك نظمه بضعة أفراد أمام السفارة الأمريكية زعموا كذبا انهم يمثلون المخيمات، مطالبين بالهجرة.. بل أن مشكلة فردية بسيطة داخل إحدى المخيمات كفيلة باستحضار جميع الفضائيات التي سرعان ما تبدأ سمفونية التحريض..

نختم لنقول : رغم هول المشهد الكارثي، إلّا أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في لبنان من ممارسات وإجراءآت تمييزية، لا يمكن أن نضعها إلّا في خانة التماهي مع المشروع الأمريكي، سواء لجهة المساهمة باتجاه تهجير اللاجئين في اقاصي الارض بعيدا عن فلسطين، او جعل لبنان واحة أمريكية وإسرائيلية لا مكان فيها لمفردات ثقافة المقاومة تحت ذات الشعارات التي حفلت بها الحرب الأهلية في لبنان، لكن هذه المرة بلباس جديد يساير العصر الأمريكي..

قد لا يكون الوقت مناسبا لمثل هذا النقاش، لكن إن كانت الحروب والصراعات تفرق، فهول الكارثة وفظاعتها يجب أن يجمع ويوحد، وبالنسبة لنا كفلسطينيين، ورغم أننا لسنا جزءاً من الصراع الداخلي اللبناني أو حتى الإقليمي، إلّا أن من حقنا على الإعلام اللبناني أن ينقل محبتنا لبيروت وأهلها.. فبيروت بالنسبة لفلسطين تحديدا، ليست مجرد مدينة كبقية المدن العربية، إنها العاصمة الوحيدة بعد القدس التي دنسها الصهاينة، وهي العاصمة الوحيدة أيضا التي قاومت وصمدت لأكثر من (76) يوما، صنع خلالها الشعبان اللبناني والفلسطيني ملاحم أُسطورية في موجهة العدوان ما زالت خالدة في وجدان الوطنيين الأحرار..

بيروت أكبر من مدينة وعاصمة نعم، هي العروبة الهاربة من مهدها وبلسم المظلومين وحضنهم، هي التي أبت أن تحيا وعلى أرضها صهيوني محتل . لهذا وذاك، اسمحوا لنا أيها اللبنانيون أن نعبر عن حبنا لهذه المدينة التي أحبتنا، كما أحبت الجميع، أحببناها وعشقناها منذ ما قبل النكبة، فكانت توأمة لكل مدينة فلسطينية في علاقة تاريخية، إنسانية ووطنية وقومية، لم تشبهها أي علاقة بين شعبين عربيين يترجمها وجود ثلاث قنصليات لبنانية في كل من القدس، حيفا ويافا .

لكل ذلك وغيره، وبدون أي مبررات سنبقى نحب بيروت وأهلها، وسيبقى لمحبة هذه المدينة طعم مختلف لدى فلسطين والفلسطينيين، لن يغيرها حقد جاهل وحسابات ضيقة الأُفق من هذا أو ذاك.. فبيروت لا تختصر بممارسات وإجراءآت غير إنسانية خارجة عن نسق التاريخ، بيروت العاصمة تختصر بتاريخها الإنساني العريق المتجذر في نفوس جميع أحرار العالم . فتحية لبيروت العربية، وتحية لبيروت المقاومة..

فتحي كليب

10 آب 2020

فتحي كليب

عضو المكتب السياسي للجبهـة الديمقراطيـة لتحريـر فلسطين

fathi.alkulaib1966@gmail.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved