بركات الأم

2014-12-06
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f0a42ded-4a4f-4e17-a4cd-2dc6574cce2a.jpeg
 من منا ما زال يذكر الحضن الأول والقبلة الدافئة على الجبين وتلك العينان المفعمتان بالود والأمل ودعوات النجاح والبركة والأمان  ؟ من ينسى اللبن الفياض والخبز الدافئ والحساء الساخن وسهر الليالي ونكران الذات والحب الخالد وقمة التفاني ؟

الذاكرة عاجزة عن استحضار كل الصور، الكلمات لا تكفي لوصف هذا المخلوق الاستثنائي، بحار الدنيا مداد و أشجارها أقلام و الكتابة عنك مراودة للمستحيل، و عشق، و انصهار مع الجمال و توحد دائم بمعاني الوفاء. 

الأم... 

لا... أعلم أني لا أبالغ، أفكاري صافية، القمر في السماء منير بهي رائع الاستدارة، و تعتريني رغبة مجنونة في الكتابة... فالكتابة تجرد و اعتراف و خلاص و أكبر و أعظم انتصار على الذات.

أين أنا ؟ إلى أين أذهب ؟

عندما أكملت الثامنة عشرة من عمري و نلت شهادة البكالوريا، حزمت حقائبي، و ودعت أصدقائي، و جهزت نفسي لبعثة دراسية إلى الولايات المتحدة. كنت فرحا بهذه الحياة الجديدة التي تنتظرني هناك، و كانت معي في المطار تشيعني بعينين دامعتين و وجه كسيف غارق في ظلال من الحزن و التفكر. 

و كنت ليفاعة سني لا أحس بحبها العميق نحوي، بل كنت أفكر فقط في سعادتي الشخصية و بناء مستقبلي الدراسي و المهني.  و كان ذلك أمرا لا أعاتب نفسي عليه كثيرا، فقد تبين لي مع أبنائي، بعد أن نيفت على الخمسين، أن الحياة أطوار و مراحل: طفولة و مراهقة و شباب و نضج فكهولة و شيخوخة و فناء. فكيف للمراهق الذي كنته آنذاك أن يحس بدموعك، لحظة الوداع، في المطار، و أنا في طريقي إلى أمريكا ؟

 و مرت السنوات بسرعة البرق، و عدت إلى المنبت مسلحا بالعلم و التجربة و الشهادات العليا، و كافحت و ناضلت للحصول على عمل محترم، و كانت دعواتك و بركاتك ترافقني ليل نهار و صباح مساء، و كنت أؤمن رغم السنين المديدة التي قضيتها في بلد شعاره المادية الطاحنة والاعتماد على النفس... كنت أؤمن برضا الوالدين و بركة الأم على وجه الخصوص. 

و لم يمر وقت قصير حتى نلت مبتغاي، و تم تعييني مديرا لإحدى شركات الاتصالات الضخمة، و مرت شهور قليلة أخرى و وجدتني أكمل نصف ديني بالزواج من جميلة الجميلات، و كانت هذه الجميلة من اقتراحك أيتها الأم الغالية. 

و توالى تعاقب المسرات، الواحدة تلو الأخرى، و كنت كل مرة أتلقى من صلواتك و بركاتك فيضا لا ينضب، حتى أني حرصت على زيارتك مرات كثيرة كل أسبوع، و وضعت فوق مكتبي ذاك المصحف الذهبي الجميل الذي أهديتني إياه لدى رجوعك من الديار المقدسة، و أصررت على تقبيل يدك في سائر الأيام و المناسبات و هذا رغم اعتراضك الشديد، و دربت أبنائي على إغراقك بالهدايا ليس فقط في عيد الأم بل في سائر الأعياد. 

لا أستطيع أن أكمل الكتابة، فأنت أروع و أبهى من سحر كل الكلمات. سأظل صامتا متدثرا برداء الصمت، فصمت اللحظة أبلغ و أفصح من كل كلام. 

سأبقى صامتا و لن أفكر في مخلوق غيرك أيتها الأم. 

د .مهدي عامري
* أديب و أستاذ جامعي 

amrimahdi@yahoo.fr


 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved