العمل والأمل

2015-01-27
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f0a42ded-4a4f-4e17-a4cd-2dc6574cce2a.jpeg
 يقول الراوي : 
" هل أرحل من هذا البلد ؟ هل أغادره دون رجوع ؟  متى بالضبط وكيف ؟
من أين ابدأ ؟ وما جدوى الحديث عن واقع يكاد يكون مستحيل التغيير ؟
لا يهم... فلأبدأ، فلأبح، فلأكتب...    
منذ زمن طويل وأنا أواجه صعوبات في البوح والتعبير والحديث بصوت جهير أمام من لا أعرف من الملأ، ولكني اليوم قررت أن أكتب هذه الاعترافات من ألفها إلى يائها حتى أستريح. والحقيقة أن الكتابة وحدها لا تكفي بل إن هناك ما هو أهم. متى ؟ و لم ؟ ومن أخاطب ؟ ولأي هدف ؟

هل يهمكم أن تعرفوا اسمي وهويتي وسني، وأن تعلموا أيضا لماذا أخاطبكم اليوم بالذات، ولم أكتب، وما جدوى أن أخط بالقلم على سطح الورق أحداثا وآهات وصرخات وإخفاقات ونجاحات ؟ 

لست أنا المهم في هذه القصة، بل هو...

رفيق الفيلالي...
ذكرى الأمس كأنها اليوم. حاضرة بشتى تفاصيلها وأدق أحداثها. بين الماضي القريب أو الزمن البعيد شبر أو أقل... من قال أن الماضي ولى بلا رجعة ؟ من زعم أن الأهم في خط الزمن لحظة راهنة ؟
 من قال هذا ؟ من ؟
 التقينا لمرة واحدة ربيع 2007. مرة واحدة فقط ولكنها حاسمة، وتقاسمنا الكثير من الأفكار والرؤى والتأملات. كان الجو رائقا في مراكش، وكنا نشارك معا في أشغال مؤتمر دولي حول حوار الحضارات والأديان. 
كانت المشاركة مداخلة في شكل محاضرة أمام ثلة من الباحثين والمفكرين، كل حسب تخصصه. و لأني أمقت التباهي الثقافي و المكوث طويلا في نقاشات متفلسفة مع الزملاء الأساتذة حول مفاهيم مغرقة في النظرية، فقد اقتنصت أول فرصة، بعد 3 أيام مضنية، وتسللت رفقته إلى أبعد مقهى نرَوح فيه عن النفس، وننسى فيه بعضا من أجواء المؤتمر.
 كان المقهى بعيدا عن جامع الفنا، فأنا خلافا لكثير من أبناء جلدتي لا أحب كثيرا هذه الساحة. صخب، وشعوذة، وهرج ومرج وضحك على ذقون السائحين بل وحتى أبناء البلد أحيانا. وأجواء صحيح أنها تغري الأجانب، ولكنها ترسخ واقع المغرب السطحي والفلكلوري. وبالمقابل، كم أعشق احتساء عصير البرتقال في جامع الفنا. يا إلهي! طعمه رائع، لم أتذوق مثله في أي مدينة أخرى بالمغرب.
جلسنا في المقهى الذي بدا في حمرة المغيب بين صفوف من الشجر ساكنا جامدا قليل الحركة والمرح. وكان ذلك أدعى و أنسب لحديث كله ود وأنس. و سمحنا لعضلاتنا بالاسترخاء ولألسنتنا بالانطلاق في حديث حميمي استمد دفئه لا شك من جو مراكش. 
وكان رفيق السباق بالحديث.
- أنا سعيد دوما بالتواجد في المؤتمرات لأن أهم ما فيها هو العلاقات الإنسانية التي تنسج والتي هي - في نظري - أهم بكثير من الأوراق العلمية المقدمة. 
- أشاطرك نفس الرأي أيها الزميل العزيز...
-غير أن ما يحزنني ويحز في نفسي  هو قلة الإمكانات المادية الضرورية لنشر أعمال المؤتمرات في كثير من الأحيان .
- ليست دائما المسألة قلة مال. أحيانا هي قلة اهتمام وتثمين للمحاضرات الملقاة.
-هذا أيضا موجود. موجود لأننا موجودون في بلد اسمه المغرب.
- مع الأسف، لا نزاول مهامنا بمتعة الأساتذة الباحثين في دول مثل أمريكا أو اليابان أو السويد.
 -تصور يا عزيزي أن دولة مكروسكوبية مثل إسرائيل هي رابع بلد عالميا على مستوى البحث العلمي...
-لا أستغرب الأمر بتاتا. إن الارتقاء بالتعليم مفتاح التنمية... والتعليم الجيد يساوي وطنا قويا. اسمعني جيدا، إن تنمية الوطن لن تأتي من الفراغ فهي تحتاج منا الكثير من العطاء والحب والعمل والتضحية والالتزام والبذل والأناة.
وكان الحديث ممتعا  ذا شجون، وتشعب وسار بنا ذات اليمين وذات الشمال، ونحن لا نكل أو نمل حتى من الببغاوية الفكرية أحيانا...
قال أحد المتصوفين (لا أذكر اسمه) أن محبة الخلق دليل ساطع وبرهان قوي على وجود الخالق. هل فكّرنا يوما في معنى الحياة ؟  أكيد، لا معنى لها إلا التعاطف والحب.  
أحببت إنسانيتك العالية يا رفيق والتي كان يزكيها ميلك الطبيعي إلى السخرية البناءة والتعليق على الأحداث بحكمة وبصيرة نافذة. وأحببت أيضا قسمات وجهك المعبر: لقد كان مرآة صافية لما يختلج في أعماقك. عيناك بعمق المحيط، وثمة بريق من الأمل والذكاء والعاطفة والحنان ينبعث منهما.
وكم كان صوتك يجيش بالانفعال وأنت تسرد لي الظلم الذي تراه يوميا في هذا المجتمع، وكان لسان حالك يقول "لا بد للظلم من نهاية، ولنرين يوما في عالمنا مصرع الجبروت ومشرق الأمل و البشائر". 
كنت تحس بالقهر في مجتمع أقل ما يمكن وصفه به أنه غابة نفاق وانتهازية وسطحية ومظاهر لا تسمن ولا تغني من جوع. لم تكن قاسيا في أوصافك. كنت صادقا بليغا حد الصدمة. ولم لا ؟ ذاك ما نحتاجه كي نستفيق. العلاج بالصدمة...
مماذا نستفيق؟
من الجهل المطبق؟ من سياسة التجهيل ؟ من أمية المثقفين ؟ من ذل الجاهلين ؟ من التجارة بالدين؟  من الانحلال الأخلاقي؟ من سلطان المال القذر الذي بات يشتري الضمائر والذمم ؟ من مخزن يهمش المواطن، ومواطن يهمش مواطنا، ووطن يهمش أبناءه ومواطنين دون إحساس بالوطن ؟
دوامة التهميش...
 من كل ذلك أيها الغالي، وقطعا أكثر.
اللائحة طويلة لا تنتهي. هل أتوقف أو أكمل ؟
اليأس يستعمرني ويعصف بي من الرأس إلى القدم، وأجزم أنه لن يستقيم شيء في هذا البلد، بعقليات ديناصوراته، وتعليمه الفاشل، ومنظومة قيمه المشلولة المتحللة بل المنهارة... 
لست متحاملا على أحد، ولكن إلى متى نظل غارقين في غياهب الظلمات والجهل ؟ مكتبات فقيرة حد الإفلاس من الكتب و المراجع، وطاقم يشتغل بطرق وأساليب تعود إلى عصر الديناصورات في زمن الإنترنت والتواصل الإلكتروني، وعشوائية في كل شيء، وتقرير لأشياء مهمة بمنتهى التهور وفي آخر لحظة، وغياب للتجديد، وقلة مسؤولية، وسياسة تسويف، وتماطل أصبح أداة وأسلوب حكم، ومشروع تجهيل...

 لماذا أصبح المثل يضرب بنا في التخلف وقتل الإبداع ووأد المواهب واحتقار الأفراد واغتيال إنسانية الإنسان ؟
 
أعلم أن التشاؤم منهي عنه في الدين، ولكن هل يكون التفاؤل الجامح المجنح بالخيال بديلا عن واقعية التشاؤم ؟
  
صحيح يا رفيق أن فارق السن بيننا كبير، فأنت تدنو من الستين و أنا في نهاية العشرين. غير أن ذلك لا يهم.
كان تواصلنا فعالا ديناميكيا بكل المقاييس. وكان البحر الذي كنته يرفد ويغذي النهر الذي لا أزاله. منذ طفولتي احترمت من هم أكبر مني سنا، وعندما يتعلق الأمر بكبير مثقف مثلك فإن التوقير يكون مضاعفا لا محالة. 
 دعني أحكي عنك بلغة التعاطف. اتركني أبعث لك رسالة من القلب إلى القلب. 
هل تسمعني؟ أين أنت ؟
" أنت تراني أمامك كهلا يحث الخطى نحو الستين، وترى بوضوح الشيب قد وخط رأسي. اعلم أيها العزيز أني رغم عامل السن فإني أحسني بروح وقلب شاب في مقتبل العشرين. أحب الحياة أيها الغالي. أعشق الأدب والمسرح والسينما والسفر والتجوال، و لعل ذلك ما صان شبابي من الضياع. 
كرست أزيد من 6 سنوات من العمل والبحث الشاق لمشروع بحثي في الدكتوراه. ولم أنه البحث حتى كادت روحي أن تصعد إلى خالقها.
خلال تلك السنوات الست سافرت إلى فرنسا على نفقتي الخاصة مرات ومرات، إذ لم أكن أتوفر على منحة جامعية. كان همي الوصول إلى أقصى وأجود عدد من المراجع العلمية، وفعلا كان ذلك. بمشقة بالغة، ولكن كان. أ وليست العبرة بالخاتمة ؟ 
تعلم أني أدرس بالجامعة الأدب الفرنسي. تخيل أنه لحد الآن أسافر دون أدنى تمويل جامعي  مرارا وتكرارا إلى الرباط  أو الدار البيضاء أو حتى طنجة للحصول على مراجع بحوثي في النقد السينمائي ؟؟ تعب ومشقة شديدة وتدريس بلا وسائل ومعدات في أغلب الأوقات. ما الحل ؟ لست أدري ما الحل..." 
ومر ربيع 2007 ، وتلاه خريف لن أنساه ما حييت  لكثرة سوداويته وأيامه الغامقة الغارقة بين ظلال من الكآبة والفتور، ووجدتني متأثرا وواعيا حتى النخاع بكلام وتجربة رفيق، وبدأت بضعة شهور بعد ذاك أطرح على نفسي ألف سؤال...
 
هل أرحل من هذا البلد ؟ هل أغادره دون رجوع ؟  متى بالضبط وكيف ؟ فأنا لا أملك من الجرأة إلا القليل، وأبواي كبرا وهما في مسيس الحاجة إلى أن أظل بجانبهما، وأن لا أهاجر لمجرد أن أهاجر كما فعل أخي الأصغر سعيد منذ عامين...

يا إلهي ماذا أفعل ؟ "
مهدي عامري
amrimahdi@yahoo.fr

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved