عبد الرحمن الجرس، جاري الفلاح، طفولة شقية وشباب بائس وكهولة ليست بأحسن حال مما سبق، لكن هذا لا يعني إنّ(أبا العوف) لم يعش فترات جميلة تخللت هذا البؤس المستديم.
في بستان النخيل ـ والذي أكل ثلاثة أرباع عمره ـ العائد إلى ورثة أحد أقاربه البعيدين، كان يدعونا إلى جلسات مسائية، يسقينا شاي ( الكصمول)* اللذيذ ويتحفنا بأحاديث الماضي الجميل، أحاديث عن السوق القديم والنهر الذي لم يعد كما كان والناس اللذين لم يعودوا مثلما كانوا كذلك .
كان السوق القديم في منطقة باب سليمان والتي تقع في جنوب القضاء، لا بلادة ولاتزوير ولا أيام حزينة لمن يحدق في أيامنا هذه، إنه الماضي البعيد، زوارق راسية لتحميل البضائع وحركة القائمين عليها مستمرة وبنشاط دائب، قيلولة في ظل شجرة البرهام العظيمة، مصنع للثلج وماكنة للطحين حكايات (نمنم ) و(عبدالله الجرس)، عاصمة الزنج وسادة المدينة، شباب لا يجيدون الرقص مع أمثالهم من القادمين على ظهور( الأبوام) و(اللنجات)، حفاة الأقدام وخفاف الأرواح يستمعون إلى الليل ويتلقون ما يهمس لهم به القمر
العاشق وما يقدم لهم المضَيفون**لا يتجرأ على طردهم إلا الفجر.
تعودو أن يأخذهم النهر إلى العشار مساء كل خميس، شباب إستهوتهم أفلام أيام زمان، إنه الزمان الهادئ حيث الزورق الكبير(المهيلة) والغناء الجماعي والعيون التي تخترق غابات النخيل، بسعادة خاصة يلتهمون السمبوسة المتبلة ويتوزعون على مقاعد (أبو أربعين) في سينما الرشيد فهي الأقرب إلى نهاية رحلتهم .
ومع الماء الذي لا ينام تكون رحلة العودة مروراً بالبساتين ثانية حيث العزاب في البساتين يشنف أسماعهم صوت (إسماعيل درويش) مؤدياً مقام الصبا من دون كسر طبلة أخوته النائمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ـ الجزء المقوس من السعفة، يثبّت في مقدمة الموقد ويعلق به قوري الشاي المعدني وعلى النار الهادئة يعد الشاي.
** ـ غالباً ما تم تقديم القرابيج وهي من المعجنات الملفوفة على هيئة أصابع تحوي على السكر المطحون والهيل والدارسين.