كلّما ذكرّني أحدهم بالحرب تضايقتُ وتراءت أمامي تلك السّنين الشّاقة .
تحزنني تلك الخسائر الّتي تكبّدناها في أموالنا وثقافتنا وهويّتنا .
فما أكثر البيوت الّتي هدّمتها المدافع، وكأيّن من ثقافة نـُسيت فأهملت، وكم من هويّة عربيّة اضمحلّت بعد أن نزح العرب الأهوازيون من ديارهم ! لا شكّ أنّ هذا الضّياع و الذّوبان حقّق أمنية الكثيرين من أعداء أبناء هذه الأرض النّاطقة بالضّاد .
قصّ لي عن تلك الأيّام المرحوم (چولان) عن جاره البصير:
كان يسكن في الصّرائف1 يتصدّق عليه الفقراء، وكلّنا كان فقيراً .
ولكنّ فاقة البصير ذاك كانت مدقعة، يتغدّى ولا يكاد يتعشّى .
فاقترح عليه جار آخر أن يجلس جنب الجسر يسترزّق من صدقة المارّة .
فأخذ البصير بالاقتراح وأصبح يقوده أبوه الشّيخ نحو الجسر، وعند المساء يرجعه وفي جيوبه الرّزق الوفير .
تحسّنت معيشته، أمسى يأكل حتّى الشّبع، وأضحت زوجته تلبس الجديد .
عندما تركنا الصّرائف وانتقلنا إلى حيّ العبّارة، انتقل معنا واشترى بيتاً وسيعاً وأثاثاً .
ولم تدم النّعمة، فدقّت أجراس الحرب ونزل العذاب من فوق رؤوسنا، وفاجأتنا القذائف تقصف المنازل من غير دقّة ولا رحمة.. فحان وقت النّزوح .
وتأوّه المرحوم (چولان) وتابع حكايته فقال :
كانت لحظات حمراء، والموت أضحى يلوّح للجميع .
وجاءني جاري البصير حائراً يطلب استشارتي :
ماذا أفعل ؟
فقلت : نحن جمعنا أثاثناً وعلى وشك النّزوح.. فانزح .
قال وهو يحاول أن يخفض صوته :
المشكلة مشكلة نقودي!
فقلت متعاطفا معه : هل تريد أن أقرضك أجرة السّيّارة ؟
قال وهو يشيح بوجهه : لا، فلوسي كثيرة، أين أخبئها ؟!
جيوب دشداشتي2 لا تسعها ! إن تحزّمت عليها أبدو كالحبلى !
إن صررتها في صرّة خفت أن تسرق منّي ! فاهدني إلى رأي .
اقترحتُ عليه أن يتقاسمها بينه وبين أبيه العجوز وامرأته في صرر يعلقونها في رقابهم ويخبئونها تحت ملابسهم .
ويضيف (چولان) في عجب :
كانت كثيرة، وفي فئات مختلفة ! عرفت أنّ ما يكسبه في اليوم، كان يفوق أجرتي أنا العامل الّذي يكدح في الشّمس من الصّباح وحتّى المساء .
1- الصّرائف: مفردها صريفة، كوخ من قصب .
2- الدّشداشة : ثوب يشتمل على الجسد كلّه، جلباب .