چولان البصير

2021-10-02

كلّما ذكرّني أحدهم بالحرب تضايقتُ وتراءت أمامي تلك السّنين الشّاقة .
تحزنني تلك الخسائر الّتي تكبّدناها في أموالنا وثقافتنا وهويّتنا .
فما أكثر البيوت الّتي هدّمتها المدافع، وكأيّن من ثقافة نـُسيت فأهملت، وكم من هويّة عربيّة اضمحلّت بعد أن نزح العرب الأهوازيون من ديارهم ! لا شكّ أنّ هذا الضّياع و الذّوبان حقّق أمنية الكثيرين من أعداء أبناء هذه الأرض النّاطقة بالضّاد .

قصّ لي عن تلك الأيّام المرحوم (چولان) عن جاره البصير:
كان يسكن في الصّرائف1 يتصدّق عليه الفقراء، وكلّنا كان فقيراً .
ولكنّ فاقة البصير ذاك كانت مدقعة، يتغدّى ولا يكاد يتعشّى .
 فاقترح عليه جار آخر أن يجلس جنب الجسر يسترزّق من صدقة المارّة .
فأخذ البصير بالاقتراح وأصبح يقوده أبوه الشّيخ نحو الجسر، وعند المساء يرجعه وفي جيوبه الرّزق الوفير .
تحسّنت معيشته، أمسى يأكل حتّى الشّبع، وأضحت زوجته تلبس الجديد .
عندما تركنا الصّرائف وانتقلنا إلى حيّ العبّارة، انتقل معنا واشترى بيتاً وسيعاً وأثاثاً .
ولم تدم النّعمة، فدقّت أجراس الحرب ونزل العذاب من فوق رؤوسنا، وفاجأتنا القذائف تقصف المنازل من غير دقّة ولا رحمة.. فحان وقت النّزوح .

وتأوّه المرحوم (چولان) وتابع حكايته فقال :
كانت لحظات حمراء، والموت أضحى يلوّح للجميع .
وجاءني جاري البصير حائراً يطلب استشارتي :
ماذا أفعل ؟
فقلت : نحن جمعنا أثاثناً وعلى وشك النّزوح.. فانزح .
قال وهو يحاول أن يخفض صوته :
المشكلة مشكلة نقودي!
فقلت متعاطفا معه : هل تريد أن أقرضك أجرة السّيّارة ؟
قال وهو يشيح بوجهه : لا، فلوسي كثيرة، أين أخبئها ؟!
جيوب دشداشتي2 لا تسعها ! إن تحزّمت عليها أبدو كالحبلى !
إن صررتها في صرّة خفت أن تسرق منّي ! فاهدني إلى رأي .
اقترحتُ عليه أن يتقاسمها بينه وبين أبيه العجوز وامرأته في صرر يعلقونها في رقابهم ويخبئونها تحت ملابسهم .
ويضيف (چولان) في عجب :
كانت كثيرة، وفي فئات مختلفة ! عرفت أنّ ما يكسبه في اليوم، كان يفوق أجرتي أنا العامل الّذي يكدح في الشّمس من الصّباح وحتّى المساء .

 

1-   الصّرائف: مفردها صريفة، كوخ من قصب .

2-   الدّشداشة : ثوب يشتمل على الجسد كلّه، جلباب .

سعيد مقدّم أبو شروق

 مدرس فرع رياضيات

يسكن  الأهواز

نشر قصصه في العديد من المواقع

نُشرت له مجموعة من القصص القصيرة جدا

saeed135057@gmail.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved