- "أيُّكم يستطيع أن يشرحَ هذه الكلمة ؟"
- "أستاذ..أستاذ..أستاذ".
وسُمع طرقٌ بالباب !
كنا وصلنا مرحلةَ الشروح اللغوية في دراسة نص لأحمد أمين عنوانُه "فَلْنَرْحَمِ العاملَ المسكين". بَدَتْ لي الفاءُ في أول العنوان مُقحَمة يَحسُنُ الاستغناء عنها . لم يؤخذ العنوان من داخل النص المُدرَج في الكتاب، فأيُّ كلام تربط الفاء بينه وبين ما ذُكر بعدها ؟ من الأنسب أن يقال : "لِنَرْحَم العاملَ المسكين" .
لم أذكر شيئا من هذا أمام التلاميذ . تجاوزتُ العنوان وباقي خطوات "تأطير النص" سريعا، لأصل إلى قراءته وفهمه ابتداء من الكلمات التي يصعب على أغلب التلاميذ فهمُ معانيها .
من يطرق الباب هذه اللحظة فيوقف الدرسَ إيقافا غير مرغوب ؟
مشيت سريعا نحو الباب وفتحت .
- "لماذا تأخرت يا أحمد ؟"
- "اعذرني يا أستاذي. عندي ظروف" .
- "هذا ثالث يوم تأتي فيه متأخرا وتقول (ظروف) !؟"
ثم أضفتُ وأنا أحدق فيه مُستطلعا صِدقَه :
- "أظنك تكذب عليّ !؟".
نظر إليّ في قليل من صرامة يَشوبُها استرحام، فرأيت عينيه تفيضان دمعاً . اقتربت منه وهمست له :
- "ماذا هناك. أخبرني يا ولدي"
- "أصيب أبي بالشَّلل، ولم يعد يقدر على تحريك نصف جسده، ولم يعد يتكلم" . وسالت مع الكلمات دموع من عينيه .
أشرت إليه أنِ ادْخُل، وخرجتُ قريبا من باب القسم .
"أصيبَ أبي بالشلل، ولم يعد يحرك نصف جسده، ولم يعد يتكلم"!!
انثالت على ذهني صورة أبي رحمه الله وأنا أستحضر كلمات الصبي .
رأيته في المنزل ثم في المستشفى ونحن محيطون به لا نملك سوى أن ندعوَ له بعدما عجزت محاولات الأطباء عن تحريك اليد والرّجل وإطلاق اللسان .
رأيتنا ونحن نُطعمُه سوائلَ بوساطة أنبوبٍ يمتد من أنفه حتى معدته، ونرى عينيه تنطقان حزنا لم نره من قبل .
رأيتُنا نُبَلل قطعة قماش بماء دافئ وصابون، ونغسل أجزاء من جسده الذي لم يعد يقوى على الحراك .
رأيتنا نغالب دموعنا ونحن نحار في تفسير نظراته إلينا .
شريطٌ من معاناة مرّ أمام ناظري وأنا أستذكر كلمات الصبي ودموعه .
حاولت أن أُوقفَ شريطَ الألم، وأدخلَ الفصل لأتمَّ الدرس مع التلاميذ، لكنَّ عينيَّ كان لهما رأيٌ آخر !!
أخرجت من جيب القميص منديلا من ورق. جففت عيني. لكن الدمع لم يتوقف . قصدت الدرج هابطا نحو الأسفل لأغسل وجهي قبل العودة لإتمام تحليل نص أحمد أمين .
أصيلا في16 من غشت 2021م.