من يوميات الصيف

2021-08-13

الأربعاء 04 من غشت 2021م

 

 اقتربت من "حومة سيدي الطيب" فأحسست في نفسي انقباضا وفي رجلي ثقلا . فكرت في الانعطاف نحو حي آخر، لكني عَدَلتُ عن ذلك . سأمُرُّ بالحي لأتلوَ الفاتحة ترحماً على سيدي الطيب البقالي الأصيلي ومن يجاوره في الضريح . لا يهم إن صار الدرب مُحاصَراً ببابٍ من حديد !! سأقف خلف الباب وأقرأ . أجْرُ القراءة يتجاوز الأسوار والأبواب ويَطوي المسافات إذاً خلصت النيات وصَدَقَ الأحياءُ في إهداء الثواب إلى الأموات .

كان صديقي الأستاذ محمد البقالي أول من لفت انتباهي إلى وجود هذا الضريح . ولكم آلمني أن أهم بالاقتراب منه، منذ أسبوع، فأجد بابا حديداً حائلاً بيني وبينه . من أَذِنَ بوضع هذا الباب هنا ؟ ليس في الدرب غيرُ منزل واحد يُجاور الضريح. هل ضاق صاحب المنزل بالعابرين وهم يدخلون الدرب لالتقاط صور أو لاكتشاف أحد أضرحة المدينة والترحم على المدفونين به ؟ هل باح بضيقه لأحد المسؤولين بالمدينة ؟ هل وافق المسؤول على تحقيق هذه البُغيَة الغارقة في الأنا الفردية ؟

أسئلة كثيرة صاحبتني يومَ رأيت الضريح محاصراً، فلم أسترح من وخزها إلّا بعدما حررني النوم من سجن الأرق والسهاد .

اقتربت من الدرب وأنا مُحاصَر بالأسئلة . موقنٌ أني سأُحرَم من رغبتي . غير أني سررت كثيراً إذ رأيت الدرب وقد زالت عنه قيود الحديد . تقدمت نحو المنزل الوحيد الملاصق للضريح والمشرف عليه من إحدى واجهاته . نظرت من ثقب بباب الضريح إلى داخله كأنما اطمئناناً على أن لا شيء تغير بداخله . أخرجت هاتفي، وقررت أن أصور الدرب وباب الضريح .

لي صورٌ قديمة لهذا المكان، لكنَّ لصورة اليوم طعماً لذيذاً . هي صورة بطعم التحرير، تحرير الضريح من سجون الأنانيات الفردية، وهي أيضاً صورة بطعم تصحيح الخطأ الذي ارتُكب في حق الضريح و"سكانه" وزائريه .

انتشيتُ بطعم التحرير والتصحيح، وواصلت التجوال في دروب المدينة مستمتعاً بها وبسحرها في زمن الأخطاء والأدواء والأهواء .

 

الاثنين 09 من غشت

 

استيقظت من نومي متأخراً . اتصلت بصديقي خالد المهدي وتواعدنا على الجلوس بالمقهى . التقينا عند تقاطع شارع الحسن الثاني وشارع أبي فراس الحمداني . ما إن مشينا أمتاراً حتى كان اللقاء بالسيد محمد . رجل في شباب الجسم والروح مع تقدمه في العمر قليلاً . تبادلنا التحية . سألته عن الأحوال فقال : "الحمد لله. حْنا كَنْهَنّيوْ راسْنا بْراسْنا".  ابتسمت وقلت له : "كلنا ذاك الرجل . وهذه طريق الحكماء إلى الهناء". تطلع إليّ مستفهماً فقلت موضحاً : "هذا الذي قلته الآن هو نفسه ما يردده سكان منطقة جْبالة إذ يقولون : اللي بْغى السّخانة يخرجها من جْنابو" . ابتسم إعجاباً بما سمع، فأضفتُ : "وهذا أيضاً ما يقوله شيكسبير فيما يُروى عنه وهو Happiness comes from inside ومعناه : السعادة تنبع من الداخل، فلا تنتظر من أحد أن يُسعدك . الزمن مثبطات ومعيقات ومحبطات" . ضحكنا جميعا، ونظر الرجل إلى صديقي خالد وقال له مشيراً إليّ : "الأستاذ يبقى أستاذاً" .

توادعنا وواصلنا المسير أنا وخالد . اقترحت عليه مقهى في حينا القديم (حي للا رحمة) . مقهى يشرف على البحر أوثر الجلوس به كلما رغبت في النظر إلى "بحر الطفولة" والسباحة في ذكرياته .

راقنا الجلوس بالمقهى، وطال مكوثنا فيه . تجاذبنا أطراف الحديث في قضايا عديدة . الحديث مع خالد ممتع مفيد لما ينطوي عليه من صدق ووضوح في الرؤية ولما يتخلله من طرائف ونكت .

بعد أكثر من ساعتين مالت الشمس جهة طاولتنا . استمتعنا بأشعتها قليلا وهي تدفئ أرجلنا، ثم غادرنا المقهى .

مررنا بشارع ابن بطوطة حتى باب الحومر، ثم بشارع الحسن الثاني نزولاً بجوار المقاهي والمطاعم التي أخذت تعرف بعض الرواج والانتعاش بعد عام ونصف العام من الكساد . سررت بالسلام على عدد من زملائي من عمال المطاعم الذين جمعتني بهم ذكريات العمل هناك عندما كنت طالبا في سنوات الإجازة .

عرجنا على شارع محمد الخامس في اتجاه ساحته . نظرت إلى موضع المحل التجاري لمحمد اكْرْمْ رحمه الله تعالى . أشهر مشجع لفريق "ريال مدريد" بالمدينة . أستحضر صداقته لوالدي، كما أستحضر لذة مبيعاته من عباد الشمس والحمص..

قريبا من حديقتَيْ محمد عابد الجابري وأحمد عبد السلام البقالي سألت نفسي : هل يمكن للفكر أن يستغني عما في الأدب من جمال اللغة وسلامتها وللأدب أن يخلو من الفكر؟ سؤال من وحي الجوار بين حديقتي المفكر والأديب . كان صديقي يحدثني عن أهمية ملاعب القرب ودورها في التنمية البشرية . أسفنا معا لعدم وجود أي ملعب منها بمدينتنا الرائعة .

في ساحة محمد الخامس عبرنا زقاقاً به مقهى ومطعمان . سررت بانتعاش الحركة هنا أيضا، قلت لصديقي : ليس من مصلحة أرباب المقاهي والمطاعم وغيرهم هذا الإغلاق الباكر الجديد (التاسعة مساء) . ثم تساءلت في أعماقي : كيف التوفيق بين ضرورة الاحتراز الصحي وضرورة ضمان قوت الناس ؟

وواصلنا المسير تحت شمس الله المنعشة نستمتع بأحاديث عديدة عن حاضر المدينة وماضيها...

 

 

الثلاثاء 10 من غشت

 

بلغ التعب بي كل مبلغ وأنا أشرف على مدخل أصيلا من جهة العرائش . كنت مشيت أكثر من ساعة بمحاذاة الشاطئ ذهاباً إلى الرميلات، ومشيت ثم عدوت مثلها وأنا أعود إلى المدينة من طريق مغايرة .

قرب مبنى المركز الفلاحي شعرت بتعب كبير . توقفت قليلا لأسترد أنفاسي قبل أن أواصل السير .

فوجئت عند توقفي بعربة مجرورة بحصان تمر بجواري . "هل أركب أم أستريح قليلا وأواصل السير؟" لم أفكر كثيراً . في سرعة ناديت السائق :

- صاحبي! ماشي لأزيلا ؟

أوقف العربة وقال لي : "اطلع" .

شعرت براحة عند استوائي فوق العربة، وابتسمت دون أن أدري تفسيراً لذلك . بعد لحظات قِصارٍ زال عني التعب كله، وتحول الابتسام إلى ضحك ونحن في الطريق الرئيسة . مددت يدي إلى محفظة الظهر . فتحت جيبها، وأخرجت هاتفي وشرعت أصور نفسي (سيلفي) . كان اهتزاز العربة يضطرني لأعيد التصوير كيما أحصل على صور واضحة . سيارات كثيرة تتجاوز العربة. بعض السائقين والركاب ينظرون إلي ويضحكون . بعضهم يلوحون بالسلام . بعضهم يحيونني بعلامة إعجاب ( j aime). فيهم من أعرف، وأغلبهم لا أعرفه . أبادل الجميع السلام والإعجاب والضحك وأنا مُنتَش بركوب العربة أستحضر ذكريات الطفولة الجميلة بأصيلا . انثالت على ذهني صورة الغماري رحمه الله بحصانه الجميل . رأيتني أركب عربته في الفاتح من ماي من كل عام مع أسرتي ونتجه إلى متنزه "سيدي أحمد بوقجة" حيث تجتمع كثير من الأسر "الزيلاشية" في عيد العمال للترفيه والارتماء في أحضان الطبيعة الخلابة .

رأيتني طفلا أفرح بركوب العربات كلما طلب إليَّ والدي - رحمه الله - إحضار واحدة منها لغرض من الاغراض . كانت العربات حينئذ وسيلة ضرورية لنقل مواد البناء ونحوها قبل أن يظهر في المدينة نوع من الدراجات التي صارت تقوم بأدوار العربات .

على امتداد الطريق من معمل الألومينيوم حتى شارع الرباط غمرني فرح عجيب لم أستشعر مثله منذ زمن . نسيت ما كان يشملني من تعب .

لعل الارتحال إلى الطفولة أفعالاً وأحاسيسَ تُرياقٌ لداء العياء !

لعل الخروجَ عن المألوف من ركوب السيارات يُشفي النفس ويرتقي بها قليلاً في مقام الفرح !

لم أفكر في سبب الفرح وأنا فوق العربة . الآن فقط أبحث في أعماقي لأجد تفسيراً للمتعة التي حلت سريعاً في نفسي محل التعب. الآن فقط أحاول أن أفهم نفسي وأنا أكتب - في المقهى - هذا النص وأضعه بين أيدي أصدقائي وصديقاتي في هذا "البيت الأزرق" لعل بعضا من فرحتي ينفلت من بين الكلمات والجمل ويتسلل إلى قلوبهم .

 

الأربعاء 11 غشت

مقهى مراكش فارغ هذا الزوال . لا أحد في ساحته غير شابين وشابة يشغلون طاولة مجاورة للسور البرتغالي العتيق. أختار طاولة وسط الساحة محاذية لساحة مقهى علي . بين الساحتين حدودٌ فاصلة من حديد وحجَر .

كأني الآن بين دولتين متخلفتين عجزتا عن الوئام فبنتا جداراً عالياً لضمان الأمان !! كل المقاهي والمطاعم في شارع الحسن الثاني بينها حدود وقيود !!

أنظر إلى ساحة المقهى المجاور . أغلب الطاولات فارغة . أفراد من عائلةٍ محاطون بحقائب كبيرة في طاولة قريبة من السور . لا رجل بينهم . الرجال يجولون دروبَ المدينة مع سمسار بحثا عن منزل للكراء، والنساء والأطفال في انتظار الخبر السار المُوطّئ للتجوال والسباحة والاستجمام .

الشبان الثلاثة الذين عن يساري من مدينة طنجة . يذكر أحدُهم "حومة بني مكادة" ويُسَمّي أفراداً منها . تُعَقّب الشابة على كلامه فتُقبّح فرداً ممن ذكرهم.  يرن هاتف أحد الثلاثة فينتقل إلى سمعي جزء من المكالمة :

- أهلا خاي محمد .

-...........................

-- كاينة الدار ؟

-..................................

-شحال الثمن ؟

- ....................................

-واش خْواتْ أو باقي ؟

- "................................."

إنه بحث عن منزل دون التنقل بين الأزقة والدروب .

لا صوت يعلو صوت الكراء هنا . لمثل هذا كتب الصحافي "الزيلاشي" عبد الله الشبرعال يوماً على صفحات جريدة العلم مقالا سماه "موسم الهجرة إلى السطوح" . كان تحويراً لذيذا مناسبا لعنوان رائعة الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال".

حدث ذلك في زمن مضى شكلت المدينة فيه قِبلة أثيرة للمغاربة وغير المغاربة .

تبدلت المدينة اليوم . لا أحد يرحل إلى السطح . منازلُ كثيرة نَبتَتْ في أحياء عديدة : "السقاية"، "للا رحمة"، "البارادا"، "مرج أبي الطيب"، "سيدي والو".....فاقَ العرضُ الطلبَ، وبَزّتْ وجهاتٌ شماليةٌ أخرى مدينة أصيلا، فتخلى الكثيرون عن اتخاذها وجهة لهم كل صيف .

يضعُ صديقي النادل كأس الشاي على طاولتي . أبتسم له. أنظر إلى الشاي وهو يداعب عيني ويبعث برسائله اللذيذة إلى نفسي. أمدّ يدي إلى الكأس وأتوقف عن النظر فيما حولي وأكف عن التفكير في موسم الكراء كيما أستلذ رشفاتٍ بطعم النعناع واللويزة .

 

 

أبو الخير الناصري

- كاتب مغربي من مدينة أصيلا (شمال المملكة المغربية)  حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة عبد المالك السعدي بتطوان شارك في تأليف معجم الدوحة التاريخي للغة العربية .

 من أعماله المنشورة :

1/ تصويبات لغوية في الفصحى والعامية، مطبعة الهداية، تطوان، ط01، 2008م.

2/ في صحبة سيدي محمد الناصري رحمه الله تعالى، مطبعة الخليج العربي، ط01، 2008م.

3/ لا أعبد ما تعبدون (مقالات نقدية)، مطبعة الأمنية، ط01، 2011م.

4/ وردة في جدار (مقالات)، منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، ط01، 2015م.

5/  خارج القفص (مقالات)، منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، ط01، 2016م.

6/ في صحبة أستاذي محمد الحافظ الروسي، مطبعة تطوان، تطوان، 2017م.

7/ غيمات الندى، منشورات مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، 2019م.

ب- أعمال بالاشتراك مع آخرين :

1/ أحمد عبد السلام البقالي: الإبداع وإشراقاته (بالاشتراك مع آخرين)، سليكي أخوين، طنجة، ط01، 2011م.

2/ المرحوم عبد الله المرابط الترغي: أيقونة قيم ونبراس علم (بالاشتراك مع آخرين)، منشورات سليكي أخوين بطنجة، 2017م.

3/ حازم القرطاجني وقضايا تجديد الرؤية والمنهج في البلاغة العربية (بالاشتراك مع آخرين)، منشورات جامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، 2018م.

4/ لمع من ذاكرة القصر الكبير، الجزء 02 (بالاشتراك مع آخرين)، منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، 2018م .

abouelkhair.naceri18@gmail.com

 

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved