في مضيفِ السادةِ الجوابر .. من أدب المذكرات

2018-06-29
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/12f13fc5-a203-486c-bf5b-a5e94dd00424.jpeg
في يوم ما وأنا لم أزل بعد في أعوام الدراسة الابتدائية، طلب مني والدي مرافقته الى مضيف السادة الجوابر، الذين يقطنون في قرية من قرى مدينتنا ناحية الفهود على ضفاف نهر الغراف الجميل، الذي ينحدر من قريتهم الواقعة الى الشمال من مركز الناحية الينا  .. رحَّبتُ بطلب أبي، وأعلنتُ على الفور استعدادي للذهاب معه . كانت المناسبة زواج أحد أبناء العائلة، وهو السيد أبو الهيل الجابري، الذي كنت أعرفه كمعلم من معلمي المنطقة، وان لم يعلِّمني مباشرة .. ذهبنا قاطعين الطريق مشياً على الأقدام، واجتزنا بساتين نخيل منطقة الروف،  ثم عبرنا النهر الكبير، نهر الغراف المتفرع من دجلة، ونحن نقصد محلة ( المچري )، والشط في هذا الموقع  واسع وعميق وتّروى حول عمقه  الأساطير .  وصلنا الى المضیف،  مضیف السادة الجوابر، حيث تُقام حفلة العرس، فاستقبلَنا أهلُ المضيف بالحفاوة والترحاب، ثم بالشاي والقهوة، ونحن نجلس في البيت القصبي الكبير، الذي تتوسطه عدّة القهوة العربية، رفقة أصدقاء وزوّار من المنطقة، يحرص أهل المضيف أيّما حرص على مداراتهم واسعادهم .. عائلة السادة الجوابر عائلة عريقة جداً من عوائل المنطقة، وهم موسويون يرجع نسبهم الى الامام موسى الكاظمن المعاصر لزمن هارون الرشيد والمدفون في بغداد في منطقة الكاظمية التي أخذت اسمه الكريم تيمناً واعتزازاً .. والى هذا فأبناء اسرة السادة الجوابر أما شعراء أو محبو شعر ومنهم من يرتبط بعائلتنا وبأبي بعلاقة حميمة مثل الشاعر السيد  محمد الجابري  وهو والد الصديق الشاعر السيد عبّاس محمد الجابري، ومنهم السيد مولى الجابري، والسيد مولى هو شقيق السيد أبو الهيل، على ان الشاعر السيد محمد وأبنه عباس يكتبان بالعربية الفصيحة، وهما من طلبة العلم في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، بينما يكتب السيد مولى  ـالمعلم في منطقتنا ـ باللهجة العراقية، كلَّ فنون الشعر الشعبي العراقي .. بعد الجلسة وشرب القهوة والشاي بحضور السيد أبو الهيل وأقاربه والأصدقاء، أخرج والدي ورقة من جيبه واستأذن الجمهور طالباً الأصغاء، اذ انه يود قراءة قصيدة مهداة الى أبو الهيل وأهله بمناسبة الزواج .. فاجأني الأمر فوالدي رحمه الله لم يخبرني بهذا، ولكنني كنت فضولياً وراغباً في السماع ولاسيما انني في بداية طريقي الشعري، وكل تجربة تنفع .. بدأ والدي القراءة وقد تحّول الجميع الى آذان صاغية .. بعد ان انتهت القصيدة، هلّل الجمهور الحاضر معجباً وممجداً الشعرَ والشاعر .. أما السيد أبو الهيل، فقد أطلَّ بوقاره وهدوئه ووسامته، وأخرج من جيبه قلم حبر فاخر الطراز قائلاً :
تسلم ملّا على هالقصيدة هذا القلم هدية الك  .

أجاب  والدي :
شكراً  سيد أبو الهيل، ولكن القلم ما آخذه، هذا قلمك .  
فأردف أبو الهيل :
والله  أبو جادر صار من حصتك على هذي القصيدة .

عرفت من أبي ان هذا القلم من أروع أنواع أقلام الحبر في العراق حينذاك، انه قلم شيفر 81، كان مطلياً بماء الذهب، وانه لا يقدر الآن بثمن لأنه هدية من أبو الهيل الكريم أبن الكرماء، ولم أزل أتذكر حديث أبي طول طريق الرجوع عن احراجه واعجابه في نفس الآن ازاء موقف سيد أبو الهيل في إصراره على اهداء هذا القلم الذهبي الفاخر وعدم تراجعه عن موقفه حتى بعد ان رفض والدي .

كان أبو الهيل متديناً، ورعاً، نبيلاً، كريماً، رائع الطبع والمعشر، ويتمتع بوسامة عالية جداً تشبه وسامة الأمراء، معتدل الطول، أبيض البشرة، أزرق العينين، له لحية سوداء خفيفة لم يحلقها حتى في زواجه لشدة وصدق تدينه، حيث ان أبي أخبرني فيما بعد ان أهله طلبوا منه حلاقة لحيته لمناسبة الزواج فقط، الّا انه رفض بتهذيب طلبهم  .
 
أبو الهيل أُعدم فيما بعد ـ أعتقد في بداية العقد الثمانيني ـ من القرن الماضي بسبب اتهامه بالأتتماء الى تيار إسلامي ممنوع 
وبهذا ترملت زوجته وتيتم أطفاله وخسره أهله وأقرباؤه وأصدقاؤه  وطلابه .
 
هذا يحدث في العراق، هذا البلد العجيب الغريب، بلد الكرم والنبل والأصالة والحب والخير والجمال، وبلد الوشايات والممنوعات والاحتراب  والمؤامرات .
 
 فهل تستأهل الأحزاب التي ذهب في دروبها خيرة شباب العراق مضحين بحياتهم هذه التضحيات ؟! وماذا قدمت لنا بعد استلامها لحكمٍ كان هدية مسمومة من محتل ملتبس النوايا ومعروف السيرة والتاريخ، بدأ معه العراق عصر المذابح والاعدامات الجماعية العلنية في الشوارع والساحات العامة والمطاعم والمكتبات والجامعات بعد ان كانت في السجون والأقبية والمقابر الجماعية، أما كان بالإمكان  لمن ضحى بهؤلاء الشباب الدرر، ان يزيح طاغيته ودكتاتوره بنفسه في هبّةٍ يشترك فيها كل أبناء الشعب من جميع الطوائف والمذاهب والمعتقدات لأجل مستقبل أعرق أوطان الدنيا ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة ـ مكان وزمان كتابة هذا النص : برلين ـ في يوم 31 من آيار 2018، والنص يعود الى أدب المذكرات حيث يشتمل على مجموعة من نصوص أدب المكان والبيوغرافيا في مشروع سأصدره في كتاب فيما بعد اِنْ حالفني التوفيق .

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved