كانت عطلة طويلة بكل المقاييس، وكان الملل يجثم على أنفاسي، وضاعف من حدة الأمر مكوثي في البيت لمرض ألم بي و تركني طريح الفراش. أبريل شهر التقلبات، والأمطار الكاذبة، والأخبار الملفقة، و...
النافذة مفتوحة على مصراعيها، والسماء زرقاء بدون سحابة واحدة. أريد أن أخرج من هذه السجن وأركض في البراري. أريد أن أتسلق الجبال وأقف ولو لبرهة على قممها الشماء، ولو لهنيهة. أريد أن أصير قمة من هذه القمم، وأن تداعبني الشمس ربيعا، وتلهبني صيفا، وترطبني خريفا، وتثلجني شتاء.
عزائي أني أزجي الوقت بالذكريات وهي تجري مني مجرى الدم في العروق...
الكون فقي،ر فقير بدون ذكرى لماض قريب أو بعيد. من حسن حظنا كبشر أننا نحتمي بذكريات عهد جميل ولى وكاد ينطوي بقوة الزمن في تضاعيف النسيان.
النسيان ؟
بت اليوم أدمن التذكر حتى لا أذوب في بحر النسيان...
علي. اسمي علي، وأنا في الثامنة و العشرين...
قبل أيام قليلة، ناقشت رسالة الدكتوراة بنجاح، وانهيت دراستي في الجامعة. والآن في انتظار الهجرة إلى كندا مع مطلع سبتمبر المقبل، وجب العمل بكثافة وتوفير بعض المال لهذا المشروع القريب.
كانت رحلة الحصول على عمل معيشي شاقة جدا وتزامن ذلك مع الأزمة الاقتصادية التي تعصف بفرنسا بدون رحمة. نحن في عام 2010. وفرنسا، بل أوربا كلها تعيش على إيقاع الأزمة.
شغل قليل، وتصاعد خطير لموجات العنصرية والكراهية ضد الأجانب، خصوصا العرب. حتى الطلاب المساكين لم يسلموا من ويلات الأزمة، وبات المال قليلا، والانفاق ضيقا، وحطمت الكثير من الهمم، وصار العديد من الأجانب يحلمون بالعودة إلى أوطانهم الاصلية. وهي في جلها للأسف أوطان فقيرة.
هل هذا هو البديل؟ هل العودة هي الحل ؟
وعلى فكرة، فان القدر السعيد هداني إلى تجريب طريقة فريدة في البحث عن عمل، بل حتى عن عمل غير مألوف في بلاد الفرنجة.
أسرعت الى الانترنت وقمت بتنزيل إعلان خدمة أقدمها بالمقابل. مدرس خصوصي للغة والحضارة العربية. الساعة بعشرة يوروهات والمساومة ممكنة طبعا.
تركت في الاعلان بياناتي الشخصية : الاسم الكامل، المؤهلات العلمية، الكفاءات التقنية، وملخص مفصل للدرس المقترح، مع التركيز على أهدافه وشكله، وتنظيمه وحجمه الزمني (القابل طبعا للتمديد حسب الحاجة و القدرة المالية).
ومر أسبوع، واثنان، وثلاثة...
وجاء الفرج من صاحب الفرج... وشعرت بالفرح.
كارول، اسمي كارول وأنا أعمل ممرضة، لا أشتغل في القطاع العام، بل أعمل لحسابي الخاص. مرحبا بك.أحب أن أتعلم العربية. منذ أكثر من 10 سنوات وأنا أفكر في هذا الموضوع، وأعتقد أنه حان الوقت لأخرج بفكرتي من السلبية الى الفعل الفورى و المباشر. ألا توافقني الرأي؟
بلى، وحان الوقت بالنسبة لي (قلت في أعماقي) كي أعمل أكثر وأكسب بعض المال.
أحب من العالم العربي، الحروف والخط، والأرابيسك، والرقص الشرقي، دون أن ننسى طبعا الحلويات...امممم... كعب الغزال و البقلاوة والمقروض... وزد على ذلك أطباقا يسيل لها لعابي : الكسكس، والطاجين، والبسطيلة و الشكشوكة والمروزية والرفيسة...
مهلا مهلا... (قلت في داخلي)... لقد تحدثت كثيرا عن الأكل... العالم العربي، والمغرب كنموذج له، ذو تاريخ عريق وثقافة قديمة ومتنوعة تمتد لآلاف السنين، فلماذا بالله عليك تختزلينه في الأكل ؟؟
أنا لا أريد أن أقلل من قيمتك ورصيدك الثقافي. فالأيام، وحصص الدروس التي أقبلت عليها بنهم شديد يفوق نهمك للأكل، أثبتت لي جليا أنك انسانة طيبة وخلوقة.
كثر الله من أمثالك في بلد سكانه مسالمون في الأغلب، لكنهم محتاطون بشكل مبالغ فيه تجاه الأجانب.
يا ابن الفرنجة، إذا اختلفت عنك في لون البشرة، أو العينين أو العقيدة، أو الاديولوجية، أو الأفكار، فهل معنى ذلك احتياط في التعامل، وحذر، وتوجس، وقلة تواصل، وإقصاء أحيانا ؟؟
الله يهديك...
ليس كل الأجانب "كيف كيف"، والصالح والطالح في كل مكان...الاختلاف غنى وفضيلة، أنت تعلم أنه حتى أصابع اليد تختلف في الطول والأهمية والوظيفة. أريدك أن تنفتح أكثر، وتغادر قوقعتك خارجا إلى النور، مستمتعا بألوان الكون اللانهائية.
ألا تحب قوس قزح ؟
ومر عام واثنان وثلاثة...
ونشرت بالفرنسية 3 كتب عن تعايش الغرب مع العرب والمسلمين. وتصادف أني ألغيت مشروع الهجرة الى كندا. إلى متى ؟، أنا هنا منذ أزيد من 7 سنوات، وبت أمقت الغربة الى حد لا يمكنكم تصوره.
إلى متى ؟ غربة، في غربة، في غربة ؟
وما النتيجة ؟ هل يضيع الوطن ؟
ومر عامان، سريعا، سريعا جدا، بل أسرع مما تخيلت، وعدت إلى المغرب الأقصى كي استدفئ بشمسه الذهبية وناسه الطيبين، واشتغلت أستاذا في إحدى المدارس العليا الخاصة بكازابلانكا.
وكان التدريس، لسعادتي البالغة... كان حلما بدأ في المهجر، وتحقق بإرادة المولى في أرض الوطن.
مهدي عامري
اديب وأستاذ جامعي بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال
الرباط، المغرب
amrimahdi@yahoo.fr