حكاية عن التعذيب والمغفرة (القسم الأول)

2018-08-06
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/29a95e67-aff4-4cee-8fe5-85db27d2569f.jpeg
كيف أصبح عدوّي صديقاً لي؟

 
تاكاشي ناﮔاسي: هل يمكنني أن ألمس يدك ؟

إيريك لوماكس : أوه، نعم .

تاكاشي ناﮔاسي : ( يمسك بيده ويتطلع فيها )... هل تتذّكر حين عُذِّبتْ... وقمتُ أنا بقياس نبضك .

إيريك لوماكس : نعم أتذكر . أتذكر حين قمتم بسحق ذراعي بالجزمات وتكسير أضلاعي بمقبض معول .

تاكاشي ناﮔاسي : نعم . أنا آسف، آسف جداً . ( يبدأ بالبكاء )

إيريك لوماكس : على كل حال، لقد نجونا أخيراً نحن الاثنين .

تاكاشي ناﮔاسي : بصفتي أحد أفراد الجيش الياباني أذكر أننا تعاملنا معك حينها بشكل بشع للغاية وبطريقة لا إنسانية . 

( صمت )

حين غادرتُ سجن المعسكر إلى العاصمة طوكيو بدأت أحس بمعاناة شديدة في قلبي وعقلي...  وكلما فكرت بك، أقول لماذا ولدنا في هذا 

العالم ؟ ...

إيريك لوماكس : أوه، إنه سؤال تصعب الإجابة عليه .

تاكاشي ناﮔاسي : أنا آسف آسف جداً . 

إيريك لوماكس : وأنا أشكرك جزيل الشكر .

تاكاشي ناﮔاسي : أعتقد أن بوسعي الآن أن أموت وأنا مطمئن .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/904be0c8-cd59-4d0d-b424-19ae89edb311.jpeg
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا مقطع مجتزىء من الفيلم الوثائقي البريطاني «كيف أصبح عدّوي صديقاً لي ؟» (*) تضّمَّن حواراً غريباً ومقتضب جرى عام ١٩٩٥ بين رجلين كان يعرف أحدهما الآخر منذ أكثر من نصف قرن تقابلا في أحد معسكرات الأسر في سنغافورة، أحدهما اسكوتلاندي اسمه إريك لوماكس، والآخر ياباني يدعى تاكاشي ناﮔاسي . الأول، أسير حرب سابق، والثاني، المحّقق الذي أشرف على تعذيبه .

الحكاية بدأت في عام ١٩٤٢ في سجن معسكر كانتشانابوري في تايلاند . ضابط الإشارات الإسكوتلاندي إريك لوماكس (١٩١٩ ـ ٢٠١٢) كان واحداً من بين الآلاف الذين تم أسرهم في سنغافورة من قبل الجيش الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية . سجنَ لوماكس في سجن تشانجي أولاً ثم نُقل بعدها إلى سجن معسكر كانتشانابوري في تايلاند هو وستة من الجنود البريطانيين بعد إدانتهم بأنشطة مناهضة لليابان إثرشروعهم في تركيب جهاز استقبال إذاعي لاسلكي من الأنقاض كانوا يجتمعون حوله سّراً في المساء لسماع أخبار سيرالحرب وتقدم الحلفاء في الجبهات . وثمة سبب آخر لأسرهم هو العثور على خريطة للمنطقة مرسومة باليد تحسّباً منهم لحصول فرصة للهرب .

أُرغم الكثير من الأسرى للعمل في بناء سكة حديد بورما السيئة الصيت المعروفة أيضاً باسم «سكة حديد الموت»، والتي يبلغ طولها ٤٨١ ميلاً، ومن ثم مواصلة العمل في إقامة جسر على نهر كواي .

تعرّض لوماكس هو وزملائه إلى تعذيب قاس ووحشي أعقبه سجن قذر وصفه لوماكس في مذكراته ( رجل السكة الحديدية ) (**) بـ «وادي الأشباح المُهلكة»، فقد كان الأسير يُكبّل في المساء ويوضع في قفص بحجم النعش وهو مغطى ببرازه حتى ذقنه، أما في النهار فكان يُرغم على الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة لساعات طويلة . 
 
بعد سحق ذراعه وتكسير أضلاعه بمقبض معول، خضع لوماكس لأسلوب تعذيب قَرَوسطي يعرف بـ «الإيهام بالغرق» (waterboarding) حيث يتم وضع الأسير على طاولة وربط قدميه ويديه بحلقات حديدية مثبتة بتلك الطاولة ثم إمالة رأسه إلى الخلف وتغطية وجهه بقطعة قماش سوداء وسكب المياه عليها بشكل متقطع لتنفذ إلى فمه وأنفه لخنق أنفاسه وإحساسة بحالة مشابهة للغرق . وحين لم يفلحوا في انتزاع اعتراف منه استقدموا أخيراً مترجماً عسكري ياباني من سايغون يدعى تاكاشي ناﮔاسي ليقوم باستجوابه والاشراف على تعذيبه .

كان المحقق تاكاشي ناﮔاسي يطالب لوماكس خلال تعذيبه بإلإجابة عن الهدف من قيامه بتركيب جهاز الاستقبال ورسم خريطة المكان ومن ثم الاعتراف بأنه كان جاسوساً للحلفاء وينبغي عليه البوح بأسماء المشاركين معه من بقية نزلاء السجن . 

كان لوماكس يُدرك جيداً أن اعترافه سيضع حّداً لحياته، لذا بقي صامداً حتى النهاية . الطبيب الهولندي الذي قام بفحصه وعلاجه فيما بعد قال إنه قد أحصى ما يقارب تسعمائة ضربة تلقاها لوماكس خلال ست ساعات ولم يكن هناك مكاناً في جسده يخلو من كدمات .
 
وفي الآخِر، وبعد معرفته بحاجتهم الماسة لخبراته في بناء سكة حديد بورما بوصفه مهندساً عسكرياً، أصبح واضحاً لديه أنه لن يُعدم . تماثل للشفاء بعد أسبوعين من آثار الضرب وتم أخذه إلى مقر شرطة كيمبيتاي أو الشرطة العسكرية، هناك قيل له في محاكاة ساخرة من الأخلاق الانكليزية، «أَبقِ رأسك مرفوعاً» .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/0ec01c87-dd1c-457b-ab2a-b54ead991129.jpeg
وحين أُستنفدت حاجتهم له بعد اكتمال بناء سكة الحديد حُكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة بتهمة التجسس، وقيل له أن اسمه قد أُلغي وأصبح السجين رقم ٦١٥، وهكذا أمضى الفترة المتبقية من الحرب العالمية الثانية في سجن أوترام رود في سنغافورة وهو يعاني المرض والخوف والضياع .

أُطلق سراح لوماكس بعد انتهاء الحرب وعاد إلى بلاده ففوجىء بموت والدته التي كانت معتقدة أنه مات . وحين رست السفينة التي أقلته إلى المرفأ لم يكن هناك أحد في انتظاره، ولا أحد معنيّ أو مكترث بـما حدث له ولبقية الأسرى في الشرق الأقصى، عندئذ فقط أدرك أن من الصعب عليه أن يتعافى أو تتبدد أوجاعه العصبية والنفسية بيسر، فظل يعيش مُعَّذباً طوال الوقت تنتابه الكوابيس والأحلام المفزعة وذكريات سنوات الأسر وصورة جلاده الياباني شاخصة أمامه بشكل جلي في الصحو واليقظة . في سيرة حياته ( رجل السكك الحديدية ) كتب لوماكس يقول :
«عدّتُ من الأسر إلى أدنبرة عام ١٩٤٥ بعد ثلاث سنوات ونصف من الخوف والاستجواب والتعذيب كأحد أسرى الحرب في الشرق الأقصى لأعيش في ظل حياة مفعمة بالريبة وانعدام اليقين . لقد فقدت ثقتي بالناس وعشت منعزلاً متوحداً في عالمي الخاص . ظن البعض أنني تأقلمت مع الأمر، لكنني في الواقع كنت محّطماً من الداخل . لقد بات من المستحيل التعايش مع ما أنا عليه، وبدا الأمر كما لو أن خطايا أولئك الذين أسروني وعذبوني تم نثر بذروها في داخلي ليحصدها أفراد عائلتي . لقد كنت أضمر حقداً وكراهية شديدين لليابانيين، وكنت دائم البحث عن سبل ووسائل لتَعَقبهم وتحطيمهم . كنت أفكر على الدوام بذلك المحّقق البغيض الذي كان يستجوبني ويشرف على تعذيبي . أردت أن أعثر عليه لأحتجزه وأفعل به مثلما فعل بي» . (**) 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/470df1e8-65a3-49da-9dcf-784580b1f841.jpeg
وهكذا لم يكن أمام لوماكس سبيلاً آخر للتخلص من أشباحه وكوابيسه سوى الثأر! . لذا فقد باشر في البحث عن جلاده، إلا إن مسعاه جعلة يتساءل عما إذا كان التكفير عن الجرائم ممكناً، وعما إذا كان بوسع الناس الأكثر تضرراً من تلك الجرائم العثور على الطمأنينة والأمن عَبر التوبة أو الندم . 

تاكاشي ناﮔاسي لم يكن المسؤول المباشر عن سوء معاملته الجسدية القاسية فحسب إنما كان يمثل بالنسبة له تجسيداً لأبشع أنواع الجلادين الساديين، فملامح وجهه ونبرة صوته ظلاّ يطاردانه بشكل متواصل في كوابيسه وتداعياته المريعة منذ ذلك اليوم . ربما يمكن للضحية التعايش مع الأذى الجسدي إلا إن الآثار النفسية المدمرة تظل ملازمة له إلى الأبد . 

السيدة ﭙاتي، زوجته الثانية، كان زواجها من لوماكس مفعماً بالحب لكنه لم يكن يخلو من توتر وجهد وعناء، فقد واجهت السيدة ﭙاتي عناده الشائك الذي كان يتحول بعض الأحيان إلى عدوانية صريحة لدرجة امتناعه الحديث معها لأسبوع أو أكثر . 
 
وكسبيل للتخفيف من معضلة زوجها، كتبت ﭙاتي رسالة استشارة إلى أحد الأطباء المختصين ببحث ومعالجة المشاكل النفسية والعقلية لسجناء الحرب . 
 
التحق لوماكس بأحد المؤسسات الطبية لرعاية ضحايا التعذيب التي تم تشكيلها مؤخراً وتم تشخيص حالته حينها بأنه يعاني من مرض يدعى «اضطراب ما بعد الصدمة PTSD» .

تمر السنوات وتشاء الصدف يوماً أن يزور لوماكس أحد أصدقائه القدامى، وهو سجين سابق أيضاً في تايلاند، جالباً معه صفحة اقتطعها من صحيفة «يابان تايمس» تتضمن مقالة تتحدث عن عسكري ياباني سابق أصبح مترجماً للحلفاء بعد انتهاء الحرب وساعد أُسر الضحايا الأجانب في تحديد آلاف القبور ومواقع الدفن الجماعي على امتداد سكة حديد بورما، وزعم بأنه استحق منهم الصفح والغفران، وقد أظهرت المقالة صورة الرجل الأكثر صلة بمحنة لوماكس ألا وهو تاكاشي ناﮔاسي .

«بعد تقاعدي عام ١٩٨٢ بدأت أبحث عن معلومات حول ما حدث في تايلاند فقد كانت حاجتي لذلك قوية . أخيراً علمت أن تاكاشي ناﮔاسي، الرجل الذي حقّق معي وأشرف على تعذيبي، لا يزال حياً وقد أصبح متديناً بوذياً وقام بتمويل معبد عند جسر نهر كواي . وعرفت أيضاً أنه عرض مساعدته لأسر الضحايا بتوفير معلومات لهم عن القبور الجماعية لذويهم . لقد كنت متشككاً وأنا أقرأ ذلك ولم أستطع تصديق فكرة توبته أو الصفح عنه، على العكس كانت لديَّ فكرة راسخة وقوية بأنني لو قابلته فسوف أضع يداي حول رقبته وأقتله» . (**)

حين اكتشف لوماكس أن عدّوه لا يزال حياً شعر برغبة ضارية للانتقام . إلا إنه ظل بعد قراءته تلك المقالة مدة عامين لم يفعل شيئاً بهذا الشأن .
 
في شهر أكتوبر من عام ١٩٨٩ حصل لوماكس على ترجمة إنجليزية لمذكرات تاكاشي ناﮔاسي «صلبان ونمور» Crossings and Tigers يصف فيها المؤلف في أحد فصولها كيف إن تعذيبه الوحشي لأحد السجناء لا يزال يطارده حتى الآن . علقّ حينها لوماكس قائلاً : «إن هذا السجين هو أنا» .

تتذكر زوجته ﭙاتي وتقول :
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f9ce5588-ac08-465d-958e-afb2992320bb.jpeg
«كنت أعرف أن إريك لم يكن يريد أن يلتقي هذا الرجل بطريقة ودّية فقد كانت لديه بعض الأفكار حول لقائه به وقتله . لقد خطط لكل ذلك، واعترف لي لاحقاً أنه كان ينوي شنقه بحبل إذا كان ذلك بمقدوره» .
 
بعد وقت قصير من نشر مذكراته «رجل السكك الحديدية». صرح لوماكس عام ١٩٩٥ لصحيفة نيويورك تايمز قائلاً : «لقد كان من دواعي سروري قتله» . 
 
كان تاكاشي ناﮔاسي العجوز يشعر بالخزي والندم والعار لأفعاله البشعه في زمن الحرب وقد حاول الانتحار بعد الحرب إلا أنه فضّل بدلاً من ذلك البحث عن سبل لترجمة إحساسه بالذنب والندم، فقد شيّد مزاراً بوذي بجانب «سكة حديد الموت»، وقام بعدها بتأسيس مدرسة للغة الانكليزية وإبتدأ بعمل رحلات جماعية مصحوبة بأدّلاء إلى كانشانابوري، المعسكر الذي سُجن فيه لوماكس، للكشف عن مواقع قبور أسرى الحلفاء . 

«حين التحقتُ بالمؤسسة الطبية لمعالجة ضحايا التعذيب حدثت نقطة انعطاف في حياتي، فقد استطعت ولأول مرة تفريغ كراهيتي التي أصبحت بمثابة سجن لي . 
 
حين رأت زوجتي التغيير الذي طرأ عليَّ كتبتْ رسالة إلى تاكاشي ناﮔاسي، وجائنا الرد بعد أيام مفعم بطلب الرحمة والشفقة والحزن . في تلك اللحظة وبعد قراءتنا الرد أحسست فجأة بأنني تخلصت من الدروع الحديدية التي كنت ألفها من حولي، وبدأت التفكير بما لا يمكن توقعه» . (**)

في رسالتها إلى تاكاشي ناﮔاسي اقترحت ﭙاتي عليه إمكانية التوافق بينه وبين زوجها، لكنها طرحت عليه السؤال التالي لمعرفة رد فعله : «ما هو شعورك سيد ناﮔاسي، إذا لم يغفر لك أسير حرب الشرق الأقصى هذا ؟» . 
 
وكان الرّد الذي تلقته السيدة ﭙاتي لوماكس منه هو التالي :
 
«إن خنجر رسالتكم سيدتي قد انغرز في أعماق قلبي»، معترفاً لها بأن أحداث الماضي بشأن تعذيب زوجها لا زالت تؤرقه متوسلاً إياها
لملاقاته . 
 
كتبت ﭙاتي رداً على رسالته تلك وأرفقتها هذه المرة برسالة من زوجها، وتم الاتفاق أخيراً على ترتيب لقاء تأريخي لهذين العدّوين المسّنين .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e2a79921-71a8-4c02-92d5-a0336313bd60.jpeg
لم يكن هدف لوماكس من هذا اللقاء مجرد إحياء ذكرى ما حدث أو حتى مواجهة ذكرياته، إنما لمقابلة أحد الذين قاموا بتعذيبه وجهاً لوجه
وبحسن نية . وهكذا وبعد أكثر من نصف قرن من لقائهما السابق في معسكر الأسر، تم لقاء الرجلين ثانية بالقرب من الجسر الواقع على نهر كواي، ولم يكن بوسع أحد حينها أن يتنبأ بنتائج لقاء شمل عدّوين ما إذا سينتهي بالعنف أو الدموع ؟

«لقد برهنتُ لنفسي أن التّذكر لا يكفي إذا كان هو ببساطة يجعل الكراهية دائمة وأكثر صلابة» . هذه العبارة الحاسمة، في الواقع، هي ما قالها لوماكس لزوجته وهما يقفان وسط مقبرة أسرى الحرب في تايلاند حين عاد هو وزوجته عام ١٩٩٥ إلى المكان المحدّد لأسوأ تجربة له في حياته يرافقهما طاقم تصوير الفيلم الوثائقي ( كيف أصبح عدّوي صديقاً لي ؟ ) للمخرج البريطاني مايك فينلاسون . 

تقول ﭙاتي :
«توّجه إريك إلى اللقاء بالسيد ناﮔاسي بطريقة هادئة جداً وكان مصمماً حينها على أن يؤذيه ويثأر منه . لكنه حالما التقى به وتطّلع في وجهه المتعَب لهنيهة أدرك فجأة أن بالامكان أن يصفح عنه ومن الممكن نسيان ما حدث والمضي قُدماً» . 

بعد انحناءة رسمية أحدهما للآخر، اعترف ناﮔاسي بوحشية تعامل الجيش الياباني الامبراطوري للبريطانيين، فلم يجد لوماكس سوى القول:
«على كل حال، لقد نجونا أخيراً نحن الاثنين» .

صرح لوماكس في حديث له نشر في الموقع الخيري البريطاني ( مشروع الغفران ) قائلاً : 

«لقد جرى اللقاء بيننا في تايلاند في مدينة تشونبوري . استقبلني ناﮔاسي بانحناءة رسمية، فأخذت يده وقلت له باليابانية ( صباح الخير سيد ناﮔاسي، كيف حالك ؟ ) . 
 
كان يرتجف ويبكي ورّدد المرة تلو المرة عبارته المتقطعة:
 
( أنا آسف، آسف جداً... جداً ) . لم يكن لدي أي تعاطف نحوه، ومع ذلك، أحسست أنه ضائع وذلك من خلال تواضعه وحزنه وندمه، حينها تغيّر كل شيء فيَّ تماماً، وأمضينا معاً الكثير من الوقت في الأيام التي تلت ذلك اللقاء، نتحدث ونضحك، وقد ظهر لي إن لدينا الكثير من الاهتمامات المشتركة، وأنعقدت بيننا صداقة حميمة منذ ذلك الحين وتعاهدنا على أن نبقى على صلة دائمة، وتابع الزوجان رحلتهما إلى اليابان وبقيا ضيوفاً في كوراشيكي، مسقط رأس ناﮔاسي .
 
«لقد جلستُ على كرسيه الذي يجلس عليه في بيته» يقول لوماكس . «الغريب أن لديه نفس الاهتمامات التي لدي، نفس الكتب المرصوفة عندي على الرف، نفس العناوين، والأكثر من ذلك عرفت أنه كان يعاني من نفس الكوابيس . لقد شعرت بعد لقائنا أنني توصلت معه إلى نوع من السلام والاطمئنان وأدركت إن الصفح ممكن حين يكون المرء مستعداً لقبوله ولا بّد للكراهية أن تتوقف يوماً» .

كان لابّد لكلا الرجلين أن يواجه أحدهما الآخر من أجل إحراز نوع من السلام الروحي . لقد أدرك إريك لوماكس في النهاية أن هذا 
العجوز البوذي كان بحاجة خفّية إلى المغفرة حقاً، لذا فقد كتب له رسالة موجزة وقرأها عليه حين اجتمعا لوحدهما في وقت لاحق في غرفة في فندق طوكيو تعهد فيها بمغفرته الكاملة له . ليس هذا فحسب، إنما رفض تسمية عدوه بـ «المحّقق الصغير المقيت» كما كان يدعوه من قبل واستبدلها في كتابه بـعبارة «أخي بالدم» .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 * 
الفيلم الوثائقي (كيف أصبح عدّوي صديقاً لي؟) هو للمخرج البريطاني مايك فينلاسون. 

**
كتاب السيرة الذاتية (رجل السكك الحديدية) ١٩٩٥ تأليف إريك لوماكس.
The Railway Man, An Autographic book By Eric Lomax ,1995
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved