عندما دخلنا السوق، كانت الساعة تشير إلى العاشرة ضحى، وهي جالسة تتفحّص وجوه المارّة في عجل، وقد يفوتها وجه أو وجهان من وجوه المسرعين الذين خـُلقوا من عجل، فتحاول أن تتبعه بنظراتها لعلّها تعرف قميصه أو شعر رأسه أو طريقة مشيه ! ولا تستطيع أن تنهض لتلحق به؛ فتشكو وهنها وتتمتم بكلمات غير مفهومة .
ولا أستبعد أنّها تدعو الله أن يحفظ الشخص الذي تبحث عنه من البلاء، وأن يوفّقه ويسلّمه من كلّ سوء .
فترجع تتابع فحصها لعلّها تجد ضالّتها، وإذا بوجوه كثيرة قد مرّت وفاتت؛ وتتصاعد حسرات المرأة العجوز زفرات .
تسوّقنا وخرجنا من ازدحام السوق، وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة؛ وجدناها جالسة كما كانت، وعيناها تنتقلان يميناً وشمالاً، ومن وجه إلى وجه تبحثان عنه، وقد بدا على وجهها وعينيها التعب والإرهاق .
دنونا إليها، وسألتها أمّ شروق إن كانت تريد أن نوصلها إلى بيتها .
قالت إنّها تنتظر ابنها :
ولدي يعمل لدى الخبّاز، المسكين يستيقظ مبكّراً، وقد جاء بي إلى السوق بدرّاجته النارية بعد أن رجع من دوامه .
وقال إنّه سيرجع ليعيدني إلى بيتي بعد أن يكفّ من الدوام، أي بعد صلاة الظهر!
ثمّ أكملت موضحة :
أتدرين، الخبّاز يعمل في ثلاثة أوقات، قبل طلوع الشمس وحتّى شروقها، ثمّ الضحى وإلى صلاة الظهر، ثمّ العصر وحتّى صلاة العشاء .
خاطبتـُها في ذهول :
ولكنّ الصلاة لم تحن إلّا بعد ساعتين ونصف ! كيف تنتظرين في هذا المناخ الأهوازي الحارّ؟!
قالت وعلى شفتيها ابتسامة مصطنعة :
لا بأس، سأنتظر .
تابعتُ في شفقة وتعجب :
وحينئذ يعزّل السوق، وتغلق المحلّات أبوابها، والبسّاطة يروّحون .
تمتمت بكلمات خافتة لم أفقهها، وطأطأت رأسها .
ثمّ لملمت عباءتها التي كانت تجلس عليها (كدأب النساء الفقيرات في بلدي) وتساءلتْ برضى :
وهل أشفق أن تتعطّل شركاتي إن تأخّرت عليها ؟!
سألتها أمّ شروق :
أين تسكنين ؟
أجابت : أسكن وحدي في خرابة المرحوم !
تعاطفنا معها أكثر، ودنت أمّ شروق إليها أكثر حتّى مسكت يدها وقالت :
نحن تسوّقنا ونريد أن نحرّك، وبيتنا ليس بعيداً عن بيتك؛ فهلّا ركبت معنا لنوصلك ؟
والحقيقة أنّ بيتها كان بعيداً، فنحن نسكن في حيّ البستان وخرابتها تقع في شنّة المحرزي .
نظرت إلى الشمس لتعرف التوقيت، وقبلت على مضض أن تركب معنا .
سألتُها بعد أن طوينا قليلا من الطريق عن ابنها، ولماذا تسكن وحدها ؟
قالت وهي تمسح وجهها بشيلتها1:
ابني متزوّج ولديه طفلان والحمد لله . لكنّني لا أسكن معه لكي لا أزعجهم .
- وهل يساعدك؟
- أنا أستلم الدعم الذي قنّنته الحكومة في عهد نجاد، وراتبا من مؤسسة الإمداد، وهذا يكفيني .
ثلاث مئة ألف، وأربع مئة وخمسون ألفا؛ ثمّ بدأت تحسب بأصابعها ... سبع مئة وخمسون، ويقال إنّهم زادوها .
وبدأتُ أقيس راتبها مع الرواتب النجومية التي يستلمها البعض من المسؤولين الذين لا أحد يجرؤ أن يسألهم : أنّى لكم هذا ؟!
سبع مئة وخمسون ألف ريال إيراني على مئتي مليون !
نقير من قنوان ! يكاد الناتج أن يكون صفراً !
كيف تعيش بهذا المبلغ الزهيد ؟!
لا بدّ أنّها لا تشتري لحماً، ولا سمكاً، ولا حليباً ولا فاكهة ...
وكأيّن من أرملة عاشت في الضراء حتّى آخر عمرها في بلادنا الغنيّة .
ورجعت أسألها ثانية عن ابنها، لكنّها لم تمهلني لأكمل السؤال...
فتقول مبرّرة : هل تدري ؟ هو الوحيد بين خمس بنات، ولقد أنعم الله علينا حين رزقنا إيّاه .
ولديه بيت وعائلة، عليه أن يعيلهم .
ثمّ نظرت نحوي وقد لمحتها في المرآة وقالت :
إعالة المرأة والطفلين في حرور هذا الغلاء الذي لا يرحم، ليس بالأمر السهل .
وصلنا، وهي ما زالت لم تعطِ فيه حقاً ولا باطلاً .
واستمرّت تبرّر تقصيره حتّى آخر لحظة !
بقيت أفكر كيف أساعدها، قالت إنّها لا تقبل الصدقة .
فوقفتُ قرب الجسر، وقبل أن أعبر إلى الجهة الأخرى، التفتّ أخاطبها :
نحن مضطرّون لنرجع، ولكن ولأنّنا وعدناك أن نوصلك إلى بيتك، فسنعطيك أجرة التاكسي .
أخرجت محفظتي وناولتها ما قسمه الله، وقبلت المبلغ مضطرّة ومكرهة .
كنت على يقين أنّها لم تكن تمتلك أجرة التاكسي .
1- الشيلة: حجاب الرأس