قراءة في  رواية " الإشتياق إلى الجارة"

2021-01-30

الغريب، المرأة و الوطن، حنين الأحضان و الأوطان .

ي15

" الإشتياق إلى الجارة " رواية للأديب التونسي الحبيب السالمي، صادرة عن دار الآداب للنشر والتوزيع ببيروت في طبعة أولى عام 2020 و هي تقع في مائتين و ست صفحات .

لعلّ ما يشدّ القارئ في كتابات الحبيب السالمي، السلاسة وبساطة السرد، فالرواية عند السالمي تتدفّق دون تكلّف كأنّها نهر يجري في مساره دون معوقات لذلك من الطبيعي أن يشعر القارئ براحة الكاتب في الرواية، هذه الراحة التي سرعان ما تمرّ للقارئ نفسه فتجعله مشدودا للأحداث، مصرّا على تقصّيها حتى نهايتها .

فالسالمي كاتب هادئ ينجح نجاحا باهرا في تمرير هذا الهدوء للقارئ فيستلبه برصانة الكلمة و متانة الأسلوب .

كما ينجح أيضا في الحفر عميقا في نفوس شخصياته فرغم محدودية الفضاء المكاني للرواية ( عمارة سكنية ) إلاّ أنّ كثافة الوصف و دقّة التعبير عمّا يعتمل دواخل الشخصيات، يجعل القارئ يتجوّل داخل التقلّبات النفسية التي يعيشها أبطال الرواية و العلاقة فيما بينهم و كأنّ الكاتب يستدرج قارئه فيجعله شريكا في الأحداث لا مجرّد متابع لها .

 

1 - الغريب، المرأة و الوطن

 

يستهلّ الكاتب روايته بـ « الآن صرت أراها عدّة مرّات في اليوم »، معلنا بذلك عن زمنها، هذا الحاضر المتوسّط بين الماضي والمستقبل .

 فبين الزمن والرؤية يفصح الكاتب عن راوِيه، حيث يستعمل الراوي البطل كاشفا عن الشخصيّتين الرئيسيتين في الرواية، هو و زهرة .

من الصفحة الأولى للرواية يطرح الكاتب جدليّة « صورة المهاجر في المخيال الفرنسي »، فزهرة بطلة الرواية هي « الخادمة » أو « التونسية » ومدام رودريكس هي « البرتغالية » والسيّد غونزاليس هو « الإسباني »، هكذا ينظر الفرنسيون سكّان العمارة لغيرهم من الجيران، كما ينادونهم بأسماء بلدانهم وكأنّهم بلا أسماء .

هذه الجدليّة القديمة الجديدة، مازالت تعيشها الجاليات المهاجرة في فرنسا حيث تعاني من النظرة الفرنسية الدونيّة لها رغم كلّ ما تقدّمه لهذا البلد، ولعلّ الكاتب بإشارته لها في بداية الرواية إشارة منه بأنّها أمّ الإشكاليات التي يعاني منها المهاجر مهما كانت طبقته الإجتماعية فهو في النهاية سيبقى محاصرا بهذه النظرة من قبل الفرنسيين .

تنشأ علاقة الراوي البطل بالبطلة بمجرّد معرفة الأخيرة أنّه من نفس أصولها، فكلاهما تونسي ليبدآ أوّل الأمر التخاطب بلغتهم الأمّ، فهذا أوّل عقد خفيّ تمّ بين الطرفين، فاللغة وعاء جامع يسهّل انتقال العلاقة من بعيدة ( مجرّد جيران ) إلى قريبة ( أكثر قليلا من الجيران ) في بيئة تستوعبها لغة أخرى، فأن يتحدّث البطلان نفس اللغة ونفس اللهجة في بلد غير بلدهم يدفعهما حتما لتقارب أكبر، لتفاهم أكثر، لنشوء حبل سرّي يجذبهما نحو بعضهما دون شعور منهما في أحيان كثيرة ودون إرادة حتّى وكأنّ الحديث باللغة الأمّ يصبح عامل أمان واطمئنان وسور يحيط هذه العلاقة الوليدة بشيء من الحماية .

 يقول الكاتب « إلاّ أنني لم أتخلّ عن اللغة العربية، ولم يخطر ببالي أبدا أن أفعل هذا.....صار تعلّقي بها قويّا إلى درجة أنني بدأت أطالع بها روايات عربية حين اكتشفت قيمة المطالعة . لكنّ القراءة شيء، والحديث خاصة بالتونسيّة شيء آخر . كنت أشعر برغبة جامحة في نطق الحروف وسماع أصواتها تخرج من فمي. وقد كنت أفعل هذا بين الحين والآخر حين أكون وحدي في الحمّام أو المرحاض أو المطبخ......انتبهت إلى أنّ زهرة تحسّ هي أيضا بمتعة عندما تتكلّم معي باللهجة التونسية » ص 21 .

البطلة زهرة التي تحيا حياة صعبة مع زوج سيّء المزاج وابن محدود الحركة، والبطل كمال الذي يعيش مع زوجة فرنسية بعادات و طباع مختلفة، جعلا منهما باحثين عن ملجئ خارج هاتين الدائرتين اللتين تبدوان مستقرتين لكن صوريّا فقط، فكلاهما يعاني في صمت و إن لم يقرّا بذلك في البداية .

تتطوّر العلاقة بين الإثنين، فيجد كمال الأستاذ الجامعي في زهرة المعينة المنزلية ما فقده في سنين غربته الطويلة، تذكّره بحنينه للمرأة العربيّة، للجلسة الدافئة، للعادات الغذائية التي نسيها مع زوجته الفرنسية، للغة كاد ينسى التخاطب بها، فكأنّه يحنّ من وراء كلّ ذلك لوطنه الذي نسيه مع وفاة والديه وعلاقته الغير جيّدة بأخيه وزوجته وأيضا عدم تحمّس بريجيت زوجته الفرنسية وابنه للذهاب لتونس خلال العطل .

مع تطوّر هذه العلاقة، يعيش البطل صراعا داخليا بينه وبين نفسه وكأنّه يصارع أَنَاهُ، فهو يعتقد بأنّ الفوارق الإجتماعية بينه وبين زهرة كبيرة، بين الأستاذ الجامعي والخادمة، هوّة سحيقة لا يمكن القفز فوقها لأنّ الوقوع سيكون حتميّا و هو ما سيحصل بتطوّر أحداث الرواية حيث سيجد نفسه مضطرّا للتساؤل، هل فعلا وقع في حبّها ؟ ورغم أنّ الإجابة لم تكن واضحة على السؤال و بقيت ضبابية مع القلق الكبير الذي عاشه البطل إلاّ إنّه سيعود في نهاية الرواية للعيش على الحنين والشوق .

العلاقة بين كمال و زهرة، تحيل على العلاقة بين الغريب و و طنه الأمّ، علاقة غير واضحة، مكتضّة بالمشاعر دون حسمٍ فيها، مملوءة بالتردد و التوتّر و الخوف الأزلي من العودة للوراء، فالغريب الذي رحل عن وطنه يقلق دائما عند التفكير في العودة و الإستقرار رغم الرغبة الدائمة في ذلك، هكذا كان حال بطل الرواية كمال الذي ظنّ أنّه أحبّ زهرة، فهو بذلك يخطو للوراء، للعودة للإستقرار بعد أن عاش سنينا طويلة بين أحضان زوجة ( وطنا ) أجنبيّة، لكن كما هو حال الغريب دوما يتركه الوطن في لحظة غفلة، ترحل في النهاية زهرة تاركة كمال يتعقب خبرها من خلال جار يخبره بذلك و بأنّها أودعته السلام للجميع، فيقف في شرفة بيته ينظر لشجرة كانت تحبّ الجلوس تحتها .

 

2 - حنين الأحضان و الأوطان

 

تطرح الرواية عددا من الإشكاليات من بينها، مشكلة الإندماج عند المهاجرين حيث يفضّل أغلبهم السكن في الضواحي أين يكثر الغرباء مبتعدين عن أحياء الفرنسيين الذين بدورهم لديهم مشكلة كبيرة في قبول الآخر بثقافته المختلفة وهذه إشكالية أخرى تثيرها الرواية .

 يقول الكاتب " إنهم يؤثرون الإقامة في بلدات الضواحي ومدناً حيث يتواجد العرب بكثرة، مما يخفف من إحساسهم بالغربة والعنصرية، وحيث تتكاثر محلاّت اللّحم الحلال و المواد الغذائية والخضار والفاكهة التي يفضلونها، وحيث الأسعار أقلّ ارتفاعا مما هي في باريس" ص9 .

تطرح الرواية أيضا إشكالية الزواج المختلط من خلال حديث البطل عن التقلّبات التي يعيشها مع زوجته الفرنسية التي حاولت فرض نظامها في العيش ولم تقبل أن يكون مختلفا بعاداته و ثقافته .

إذ يقول الكاتب « لم أكن أتردد على هذه المحلات والمخابز؛ لا لأنّني أعتقد أنّ بعض العرب يغشون في الأسعار فحسب، وإنّما أيضا لأنّ بريجيت ترى أنّها غير نظيفة كما ينبغي وتفتقر إلى شروط الصحة. ومع ذلك، أشتري منها أحيانا بعض الحلويّات الشرقية. وبالطبع لا آكلها في البيت وإنّما في الشارع، خوفا من انتقادات بريجيت » ص 19 .

كما تتطرق الرواية لقضيّة الرعاية الإجتماعية وما توفّره فرنسا من خدمات إجتماعية تجعل من المهاجرين رهائن بطريقة ناعمة فلا يجازفون بالعودة لبلدانهم والإستقرار فيها خوفا من فقدانهم لتلك المنافع . 

حيث يقول الكاتب « أمّا لماذا لم يعودوا لتونس بعد تقاعد منصور، فهذا يعود أساسا إلى إعاقة الإبن، والتي تستوجب علاجا مستمرا يتلقّاه في أكبر المستشفيات الفرنسية مجانا . ولأنّه معاق وعاطل عن العمل، فإنّ صناديق الرعاية الإجتماعية تمنحه تعويضات ومعونات . كما تحصل أمّه زهرة زهرة أيضا على إعانة بطالة. وبالطبع، حين يعودون لتونس، سيحرمون من كلّ هذا » ص 11 .

ولعلّ الطرح الأكبر للرواية هو تيه المغترب، تشتّته حتى إن بدا أنّه يحيا حياة سعيدة ظاهريا لكنّه بمجرّد أن يطرأ طارئ على حياته حتى يعيد تحريكها من جديد .

يقول الكاتب « لقد أفلحت في تجاوز محنتي إلى حدّ بعيد . وها أنا الآن مثل ملك. لي امرأتان رائعتان أحبّهما؛ إحداهما فرنسية والأخرى عربية . لم يخطر ببالي قطّ أنّي سأجد نفسي، وأنا في الستين في وضع ممتاز كهذا. لا يهمّ إن كان حبّي للثانية سريّا أفلاطونيا. بل يجب أن يبقى هكذا . من مصلحتي ومن مصلحة زهرة، بل ومن مصلحة أسرتينا أيضا، ألاّ يتطوّر هذا الحبّ وأن يبقى عذريّا وسريّا » ص 71 .

 هذا ما حدث مع البطل كمال الذي تبدو حياته مثالية، فهو أستاذ جامعي يقيم بدولة من أرقى الدول، متزوّج من امرأة مثقفة تعمل ببنك ولديه إبن، لكن هذه المثالية ليست إلاّ ساترا يخفي وراءه رجلا غريبا تائها يبحث عن الحنين بين الوجع والأنين، فرأيناه يتخلّى عن أبّهته حين التقى بالبطلة التي لم تكن إلاّ خادمة ومع ذلك سار وراءها يتبعها لكن في الحقيقة كان يقتفي أثر نفسه الضائعة وحنينه للوطن الذي هجره، فكأنّه بهذه العلاقة المحرّمة بينه وبين البطلة المتزوجة وهذا الحضن الذي ليس له ولا من حقّه، يستذكر علاقته بوطنه وعلاقته المحرّمة به بسبب الغربة وحضنه الذي لم يعد له ولا لأمثاله من الغرباء الذين ارتموا في أحضان أخرى غريبة، فباعدت بينهم وبين أوطانهم و قطعت حبال الودّ بينهم .

يقول الكاتب « تابعت وهي تخطو صوب الباب للمغادرة : لابدّ أن يكون لك بيت في بلدك...لا يجوز ألاّ يكون لك بيت في تونس..كلّ ما تملكه خارج بلدك لا يساوي شيئا أمام ما تملكه في بلدك » ص 109 .

 

3 - الإشتياق للجارة

 

الإشتياق للجارة هو إشتياق للوطن، إشتياق للأرض وللعودة للماضي التليد. فالمرأة بما تمثّله من رمزيّة صنع الكاتب من الإشتياق لها وحبّها حتّى المحرّم منه، بحثا عمّا يفقده الإنسان في غربته من علاقة بوطنه الأمّ. فحبّها في النهاية هو حبّ للوطن وكأنّ المرأة هي الوطن، وهي كذلك عند الحبيب السالمي .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved