1 - التعرّف
قبل هذا الوقت لم أعرف ميلانين، ولا الأديبة فتحية دبّش لكنّي كنت محظوظاً حين قامت الكاتبة ولا أعلم لماذا بالإشارة لي في منشور فيسبوكي يخبر عن ندوة أدبية ستقام ذات سبت بباريس عاصمة الأنوار والثقافة حول رواية عنوانها ميلانين، و لأنّي كنت متعطشا لمثل هذه الندوات فقد راسلت مباشرة الكاتبة في الخاص للإستفسار منها عن الحضور وهل مازالت هناك أماكن شاغرة نظرا للإجراءات الخاصة المتبعة نتيجة الكوفيد-19، فكان الردّ بنعم يمكنك الحضور .
بعدها كان عليَّ الحصول على ميلانين لقراءتها قبل موعد اللقاء، بحثت عنها في النت وخاصة في الموقعين اللّذين أشارت لهما الكاتبة لكن لم أتمكن من شرائها، بدأ القلق يدبّ فيَّ لأنّي لا أريد الحضور للإستماع فقط بل أريد المشاركة في النقاش، خطر ببالي أن أتصل بالأستاذ علاء الدين السعيدي أحد الناقديْن اللذيْن سيؤثثان اللقاء و فعلا أخبرني أن لديه نسخة يمكنه إعارتي إياها و تواعدنا على اللّقاء .
ذهبت كما إتفقنا لكن لسوء الحظ توقف القطار في مدينة كريتاي لأسباب تقنيّة و لم أستطع المواصلة في إتجاه باريس، إتصلت بالأستاذ علاء فأخبرني أنّه لا يستطيع إنتظاري أكثر لأن لديه إلتزامات فأضطررت للعودة أدراجي بنصف خيبة لأنّه من حسن حظّي ثانية أنّي إتصلت الكاتبة الأستاذة فتحية دبّش و أخبرتها بما حصل فتفضلّت مشكورة بإرسال نسختها الخاصة ( ما قبل الطبع )، النسخة صفر وهذا حظ جيّد لقارئ مهتمّ بما يقرأ، وهكذا وجدت هذه الرواية طريقها إلى قلبي لأنّها أتتني من الأصابع التي خطتها ولم أبتعها من المكتبات كما أفعل دائما ولذلك آليت على نفسي أن أهتمّ بها و أقرأها قراءة لم أقرأها لغيرها .
2 - الإستكشاف
ما إن وصلتني ميلانين حتى فتحتها مباشرة في شاشة هاتفي الجوال ولم أصبر حتى أطبعها ( بطابعتي الخاصة)، غرقت فيها ولازمتني يومين كاملين حتى أنهيتها، فهي من الروايات التي حين تباشرها لا تتركك قبل صفحتها الأخيرة وقد شدّتني حتى حرفها الأخير .
لمست فيها شيئا جديدا لم أتبيّنه بعد وخاصة لغة سلسلة تسلبك تلك الرغبة في التوقف عن القراءة وذاك الضجر الذي يصاحب القارئ كلّما أطال المكوث بين أوراق مخطوط ما، غرقت في ميلانين و في أحداث وجدتني أعرفها بل أعيشها يوميّا، وشخوص أراهم في شوارع فرنسا، فكنت أقرأ ميلانين وأتفرّج على أحداثها و كأنّها تقع أمامي، راقبت أبطالها و تتبعتهم في سيرهم و في ما خطّوه عن أنفسهم و فيما عاشوه من أحداث إلى أن أفقت على الصفحة الأخيرة و إعلان الكاتبة نهاية الميلانين غير مدرك بأنّها فعلا إنتهت، فقلت بأنّ قراءة واحدة لا تكفي، هذه الميلانين تحتاج قراءة ثانية .
3 - القراءة الثانية
"ميلانين" رواية للأديبة التونسية فتحيّة دبّش، تقع في مائة وست وستين صفحة، صادرة عن دار ديوان العرب للنشر و التوزيع – مصر بورسعيد، قام بتدقيقها لغويا نجاح العالم السرطاوي وبتصميم غلافها محمد وجيه .
"ميلانين "، عنوان مثير وجريء يخبر عن رواية بألوان متعددة، شكلا ومضمونا، وبشجاعة كاتبة إختارت المواجهة وعدم الإذعان، الرفض وعدم التسليم، الشكّ وعدم اليقين، إختارت الثورة وتكسير أبواب الحراسة المعرفيّة وإقتحام بوّابات الحبّ المستحيل الكامن في أعماق الإنسان، متكلّس المشاعر نتيجة ترسّبات أحاديّة الإنتماء، إختارت رواية أخرى لروايات متعددة كُتِبَتْ بالميلانين .
تبدأ الكاتبة بإهداء لمن تراهم أهل لذلك ثم تمرّ لما عنونته بـِ " قبل الإنتهاء " حيث تذكر ما عاشته مع هذا النصّ البكر ( في الرواية على الأقلّ) الذي عاندها وتمنّع قبل أن يذعن لقلمها وتعلن منذ البداية أنّه ليس سيرة ذاتية بقدر ما هو سيرة جماعية لكلّ من غادر وطنه لمنفى إختياري أو إجباري ولكلّ من " دحرجهم التاريخ" ( العبارة للكاتبة) من أرض لأرض ومن فصل لفصل ومن أوراق لأخرى ولكلّ المنسيين الذين لم يكتبهم أحد .
ثمّ يعترضنا تصدير الكاتبة الذي جاء في شكل مقولتين واحدة للشاعر إبن الرومي، والثانية للفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، ومن هنا تتضّح ولو بوميض برقي ثنائية الشرق والغرب والنزاع الذي يعيشه إنسان ما أُجبر (على) أو إختار العيش بين الضفتين، تلك التي طالما إحتفت بإبن الرومي والأخرى التي تفخر بسارتر .
تستهلّ الكاتبة روايتها بالإعلان عن بطلتها الرئيسية أنيسة عزّوز الصحفيّة التي تسافر من تونس لباريس في مهمّة عمل حيث تَفْتَتِحُها بمشهد في المطار تقول فيه الراوية ص 9 " يتداولون الهمهمات، يستسلمون لنشوة عابرة بالنجاة يترجمونها بالتصفيق والململة في أماكنهم..."، هذه البداية نجحت الكاتبة في جعلها قلقة وغير مستقرة، تماما كقلق المسافر وعدم شعوره بالإستقرار وهي سمات المسافرين عموما ومشاعر من يدخلون للمطارات مغادرين أوطانهم ومستقبلين أوطانا جديدة لا يعرفون تحديدا كيف ستستقبلهم، تنجح الكاتبة منذ البداية في تمرير هذا القلق للقارئ الذي سيعيش قلق الشخصيات وتقلّباتها كامل أطوار الرواية وقد عبّرت عن ذلك على لسان أنيسة عزوز التي كررت في الصفحات الأولى مفردات كالقلق، الهاجس، التيه، الشظايا، الإختلاف... مفردات تعبّر فعلا عن قلق أنيسة المسافرة من جنوب المتوسط لشماله بحثا عن كتابة المسافات الفاصلة بين الضفتين فتصطدم بأوّل الأسئلة التي تذكرها بإختلافها، هل أنت متزوجة من عربي ؟ حين يسمعها الآخرون متحدثة بلغة عربيّة، تجيب بلا، وتكتفي بالإختفاء بين دفاترها حيث تكمن نجاتها كما تقول القاصّة .
في رحلتها لوجهتها تتفنن ( الكاتبة ) أنيسة في وصف مخيّمات طالبي اللجوء والمهاجرين السريين فتأتي على ذكر الربيع العربي وكيف أنّ إفريقيا مازالت تضيق بأحلام أبنائها فتقدّمهم هدايا بلا ثمن لأوروبا التي إستفادت من ثرواتها الطبيعية وهاهي أيضا تسلبها ثروتها البشريّة ورغم كلّ تلك العطايا التي تقدّمها إفريقيا لفرنسا فإنّ " فرنسا شقراء و ستظلّ" ( العبارة للكاتبة )، كما عبّر عن ذلك نيكولا الطالب الجامعي الفرنسي وهو يجيب أنيسة ذات غداء جامعي .
وهنا تطرح الكاتبة مسألة معاداة المهاجرين خاصة مع صعود الحركات اليمينية المتطرفة فتبرز هذا الوجه المعادي للمهاجرين في فرنسا حيث على المهاجر أن يعيش في الأسفل وسيكون مهاجراً صالحا إلى الحدّ الذي يتفوق فيه على الفرنسي وكأنّه ليس من حقّ هذا المهاجر أن يتجاوز حدودا رسمت بدقّة واضحة، إذ عليه أوّلا إثبات نيّته في العودة لبلده كما تقول بطلة الرواية أنيسة " قادمة من جنوب المتوسط وإليه عائدة" ص15، هذه النيّة في العودة من أين جاءت تجعله غير مشكوك فيه بأنّه قدم لفرنسا محاولا خلخلتها حين يتمسك بممارسة ثقافته على أرض ليست أرضه ولا أرض ثقافته، وثانيا عليه الإكتفاء بممارسة مهن بعينها كالتنظيف والعمل في الحضائر وعدم التطلّع لأكثر من ذلك، فهذه منّة من دولة إستقبلته ووفرت له ما لم توفره له دولته الأمّ، عليه تذكّر ذلك جيّدا .
تنجح الكاتبة هنا في زعزعة اليقين السائد بأنّ فرنسا بلد الأنوار كما تُرَى من وراء هذا الزجاج الجميل الذي تصنعه لنفسنا عبر وسائل إعلامها، وبأنّها أيضا هي نفسها فرنسا معاداة المهاجرين ومقبرة أحلامهم و طموحاتهم التي فرّوا بها من جنوب المتوسط معتقدين أنّ أرض فرنسا صالحة لزراعتها وتغذيتها بأمل النجاح غير مدركين بأنّهم وقعوا بين فكيّ كمّاشة أشدّ فتكا من تلك التي فرّوا منها ومن نجا فإنّه لا شكّ سيخرج بندوب كثيرة ستبقى آثارها بادية في حياته ما بقي في فرنسا .
في يومها الأوّل بباريس، توثّق أنيسة بطلة الرواية المخاضات التي تعيشها باريس وثورة أبنائها على " هذا النظام الرأسمالي المتعجرف" ( العبارة للكاتبة ) الذي طحن الجميع وفَرَّم الإنسان وخصوصياته حتى صيّره آلة للإنتاج وحيوانا شَرِهًا يستهلك ما ينفع وما لا ينفع وكأنّ الكاتبة هنا بذكرها لحركة السترات الصفراء تدفع بالقول أنّ هذا النظام الذي فرضه الغرب على باقي شعوب المعمورة بات على عتبة الإنهيار في عقر داره مع تصاعد الإحتجاجات ضدّه، طارحة هذا السؤال الكبير، إن كان الفرنسيون بما لديهم من رفاهية قد ثاروا، فلماذا لا تثور شعوب إفريقيا على هذا النظام الذي كرّس هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه ؟ ما الذي يرغمها على الإستكانة ؟ أم أنّها تُبَّعٌ حتّى في تحديد المصير، تتركه للآخرين فيثورون ثم تثور بعدهم، لماذا لا تثور إفريقيا فتقرر مصيرها ؟
تهدأ الأسئلة في نفس أنيسة وتعود لتقليب دفاترها، "فتصطدم بملفّ رقيّة" ( العبارة للكاتبة) وكأنّ هذا الإصطدام كان لابدّ منه لنشهد بروز ثاني أبطال الرواية، رقيّة الفايد، هذه المهاجرة التي تركت تونس في سنّ صغير متوجهة إلى فرنسا رفقة أبويها، كما تعلن أنيسة في نفس الوقت عن حبيبها أحمد وتمضي في سرد ما تنتظره منه أو ما اتفقا عليه وسيكون أحمد هذا الحبيب الحاضر بحبّه الذي يلفّ أنيسة كرداء يبعث في نفسها الدفئ في لحظات العاصفة، فيدفعها للتشبّث أكثر بأحلامها الثائرة في وجه التقاليد وما استحكم حياة الناس هناك في رمادة التي ليست إلاّ رمزا للمكان وإلاّ فكلّ الأمكنة لها ما لها من عادات تُحْكِم قبضتها عليها وتأبى الإنخلاع رغم محاولات أجيال متعاقبة من الثوّار والعشّاق والمحبّين الذين تكسّرت قلوبهم على أسوار المتعارف عليه، وأيضا الحبيب الغائب ببعده عنها، التارك لها، تخوض ثورتها وحيدة في بلاد الثلوج والصقيع.
أنيسة القادمة من رمادة وبطلة روايتها رقيّة القادمة من القيروان، رمادة والقيروان هما تونس الأخرى التي لم تكتب بعد، التي مازال صوتها غير مسموع، فكتابة أنيسة لرقيّة هي كتابة رمادة للقيروان وإتحاد المكانين لصياغة رواية أخرى بعيدة عن رواية الياسمين والبحر والسياحة والبياض الذي يغطّي أمكنة بعيدة المنال عن أبناء القيروان ورمادة، أمكنة لا تشبههم .
تمضي أنيسة عزوز في كتابة روايتها، ماضية في تفصيل أحداث عاشتها وتعيشها بطلتها رقيّة الفايد وتعود بين حين وآخر لحبيبها أحمد وكأنّ الكاتبة تلاعب القارئ فتأخذه من مكان لآخر ومن زمن لآخر، تسهب في تفتيت حياة رقيّة طارحة عديد الإشكالات كالإندماج، وعمل المرأة وما تتعرض له، وعلاقة النساء بأزواجهنّ الذين جلبنهنّ في إطار برنامج لمّ شمل العائلة الذي تعتمده الحكومة الفرنسية وهنا تحديدا تتعرّض لعلاقة رقيّة بزوجها سهيل الذي أتت به من تونس وما صاحب ذلك من تعقيدات في هذه العلاقة وإنفلات الزوج وغرقه في باريس الماجنة مهملا زوجة كانت ترى فيه وطنها الذي غادرته لكنّه أبى إلاّ مغادرتها والإرتماء في أحضان الشهوة التي إبتعدت به لدرجة إستحال معها رجوعه كما استحال رجوع رقيّة لوطنها الأم .
تتقدّم الكاتبة في روايتها، فتغوص أكثر في طرحٍ أشدّ تعقيدا هذه المرّة، الهويّة ومعضلة الإنتماء والإنسان الذي تتنازعه الضفاف فلا هو وجد نفسه وأين حطّ رحاله، ولا هو يراها هناك بعيدا في أرض لم تعد تعترف به، فغدا مبعثراً، متشظيّا بين الهنا والهناك، لا رُوحٌ مرتاحة ولا قلب نسيَ فاطمأن، ضمير معذّب وقلق متواصل وعدم رُسُوٍّ على شطآن المعاني الواضحة فيغرق في التفسيرات التي ترضيه وتطفئ ظمأه للإنغراس في مكان يشعر بأنه منتمٍ إليه، فأنيسة العطشى لذات الشعور رغم عيشها في وطنها ( تونس - رمادة) تعدّ عدّتها للإشتغال على موضوع الهوية عند المهاجرة فتدوّن في نصوصها كما سمّتها رؤيتها للهويّة تختمها بـ "... وكلّ منغرس في هويّة جديدة لا يعدو أن يكون منبتّا انبتات البعير المعبّد" و كأنّها تستعيد ما قاله طرفة بن العبد في معلقته : إلى ان تحامتني العشيرة كلّها**وأفردت افراد البعير المعبّد.
و هذه اشارة متفردة من الكاتبة وإحالة على صورة البعير المبعد الذي لا يملك من قراره و مصيره شيء سوى الإنصياع لأوامر تجبره على التنحّي جانبا كما تجبرالعادة الإنسان على الإنصياع لما تقرره دون أن يكون له الخيرة من أمره .
فالإنسان ليس مسؤولا عن أشياء كثيرة تخلق معه، كلونه وشكله، لكنّه مع ذلك يجبر على تحمّل إستتباعاتها ويُسَاءل عنها وكأنّه هو صانعها وهو ما أكدته أنيسة حين طرحت سؤالها الكافر كما تقول لكنّها سرعان ما تعود لذاتها فتجدها جميلة وتكتشف أنّه لا مبرر لطرح هذاالسؤال لكن هناك ألف مبرر للمضيّ " في الثورة التي ستكون طوق النجاة من تدمير محقق" ( العبارة للكاتبة) .
تسير الرواية بنسق تصاعدي تتخلله أحيانا زعزعات تثير في نفس القارئ الرغبة واللهفة للمضيّ قدما فيها علّه يصل للحظة الإرتواء المعرفي بإنفراج قريب لكنّ الكاتبة فتحيّة دبّش تصرّ على تركه يلهث وراء النهايات التي بدل أن توقف جدلا، تثير آخرأشدّ وأعمق، ومن ذلك ما تمّ مع رقيّة الفايد حيث كان القارئ بإنتظار نهاية أخرى مخالفة لما شهدته لكنّه يفاجئ بما لا يتوقّع بل أنّ الكاتبة في تصويرها لمشهد حضور رجال الشرطة حيث تقول "... فيما كان رجال الشرطة يعاينون حيثيات الحادث، يستمعون إلى كلّ الروايات إلاّ روايتي" ص 55، تطرح مسألة جوهريّة في عالمنا العربي وهي كتابة التاريخ وتسجيل أحداثه وحوادثه وكأنّي بها في إختيارها لرجال الشرطة بما يرمزون له من سلطة وكتابتهم لتقاريرهم التي ما هي إلاّ روايات مبنيّة على إفتراضات تعقبها إستنتاجات سيتمّ إعتمادها لاحقا كحقائق تاريخية ثابتة لا تقبل الدحض، فالسلطة والفائز بها هو في النهاية من يكتب التاريخ والضحيّة لا رواية له إلاّ تلك التي كُتِبَتْ عنه دون أن يكون مشاركا في تدوينها، هذه مساءلة لتاريخنا ولمن كتبه وإشارة ماهرة من الكاتبة لذهن القارئ لدفعه نحو هذا التساؤل .
كما تدفعه أيضا من خلال شخصيّة لورانس صديقة أنيسة وقصّة حبّها لسجين وإستغراب أنيسة من ذلك لتردّ لورانس " وهل يمنع المساجين الحبّ ؟"، للتساؤل عمّا يسجن هذا العقل العربي فيمنعه من التحرر من سجون كثيرة، سجن العادة، اللون، الأصل، الطبقة الإجتماعية...التي بنت أَسْيِجَة محكمة الإقفال لهذا المواطن العربي الذي أصبح رهينة في سجن الخطيئة والإثم وبأنّ عدم السماح عقاب لاحدود له فلا يقبل لمخطئ توبة .
شخصيّة أخرى تثير من خلالها الكاتبة جدلا آخر وهي شخصيّة شيماء العربيّة التي أحبّت أنطون ( أنطوشا) اليهودي وكيف تحوّلت هذه العلاقة لمعركة أستحضرت فيها فلسطين وقضيّتها وعلاقة العرب واليهود حيث تقول الكاتبة " إشتعلت السماء بالحرب وتحولت شيماء لأيقونة تفوق فلسطين، فهمنا أن القتل من أجل أنثى أسهل بكثير من القتل من أجل التراب . تحوّل أنطون إلى مغتصب واشتعلت إنتفاضة أخرى على بعد أميال من القدس" ص 129، ورغم إستعمالها للرمز هنا ( المرأة = القضيّة والرجل = المحتلّ) إلاّ أنّها خيّرت الإتيان على ذكرالقضيّة الفلسطينية مذكِّرَة بما أحدثته وتحدثه من شروخ في علاقة العرب باليهود وبكلّ من يناصرهم وإنعكاسات ذلك في فرنسا وأوروبا عموما، حيث أنّ هذه الدول التي طالما تشدقت بدعمها للإنسان وقضاياه العادلة تغضّ الطرف عن هذه القضيّة الإنسانية بل أنّها تفعل العكس فتمضي في نصرة المحتلّ الغاصب تماما كما فعل رجال الشرطة الفرنسية حين غضّوا الطرف عن تهديدات الدكتور والد أنطون لأخي شيماء جاسر بالقتل، في حين لفقوا للأخير تهمة معاداة الساميّة لا لشيء سوى لأنّه دافع عن شرف أخته الذي يرى أنّه مقدّس يستحق الدفاع .
كثيرة هي القضايا التي طرحتها فتحيّة دبّش في هذه الرواية وما ذكرناه إلاّ نزر قليل من جملة أسئلة كثيرة تخفي وراءها أسئلة أكثر حاولت دفع القارئ لطرحها وهو يتقدّم رويدا في أحداث الرواية، فذهبت به من الإجتماعي، للسياسي، للديني، للمذهبي، للعرقي، للإنتماء وهوقلب الأسئلة الذي ما يغيب إلاّ ليظهر في كلّ عقدة من عقد الرواية و كأنّ سؤال الإنتماء هو الكابوس الذي يؤرق جميع شخصيات الرواية، إنتماء أنيسة لبلدها، إنتماء رقيّة لسهيل، إنتماء لورانس لماضيها، إنتماء شيماء وأنطون لبالفيل، إنتماء حفيد مدام بلان لها وللعائلة، إنتماء عبدال وشباب أرجنتوي لجمهوريتهم... كثيرة هي الإنتماءآت المطروحة في ميلانين ولعلّ إختيار الكاتبة عدم الفصل في أيّ منها والإبقاء عليها مفتوحة على تعريفات ووجهات نظر غير مجزوم بها يدفع القارئ لتقليب صفحات ذهنه ومراجعة ما ترسّب فيها من أفكار عن الإنتماء وكيف يشكل الإنسان .
4 - النهاية
تختم الكاتبة روايتها بالعودة بها إلى مدينة رمادة التونسية موطن بطلتها الرئيسية أنيسة عزوز وتحديدا إلى فترة من طفولتها حيث تمردت وطرحت سؤالها الثوري، سؤال الإنتماء لموطن النشأة، لأرض المنبت التي أبت أن يرتقي " بَاكْ فرج" لمرتبة مؤذّن ينادي بصوت الحقّ رغم أنّ الحقّ منحه صوتا أجشًّا صدّاحا، وأبقته برّاحا في الأسواق ينادي الفرح والموت فلا هو فرح بإنتماء وإعتراف ولا هو أمات الوطن في قلبه فارتاح من ثورة الصغيرة أنيسة حين نهرت حياة بنت سي بوبكر عن مناداته بـ " بَاكْ فرج" و مناداته بعمّ فرج كما تفعل هي إحتراما له ولشيبته، لكنّ إصرار حياة على لفظ " بَاكْ" هو إصرار من الوطن على المضيّ في جرمه في التفريق والتمييز بين أبنائه على أسس خاطئة كلون بشراتهم، وإصرار أنيسة على نَهْيِها عن فعل ذلك هو بداية الثورة على هذه القواعد الخاطئة وتحطيمها، كما أنّ طرحها لسؤال، مامعنى " بَاكْ" على أخيها هو بداية تجاسرها على أعراف القبيلة التي أفردتها ومن يشبهها إفراد البعير ليس لأنّه معبّد ( أجرب) بل لأنّه خُلِقَ أَسْوَدَ البشرة .
ثم تنهي فتحيّة دبّش روايتها ميلانين، بمفاجأة أحمد لأنيسة بظهور نتيجة الفحص الجيني، وهكذا تدحض الكاتبة آخر أساطير الوطن الناكرللجميل والذي سعى لإختلاق أراجيف عدّة كالأخوّة هربا من مواجهة الحقيقية، وهكذا يقرر أحمد وأنيسة كتابة ذاكرة الميلانين بالأسود والأبيض ككفتي ميزان يحملهما الحبّ .
5 - الختام
تمكنّ الكاتبة من نصّها ومن شخصياته وأحداثه يتبيّن جليّا من خلال توظيفها لدقائق الموضوعات الأشدّ نمطيّة حيث تقوم بتوظيف عدد من الكليشيهات لإثارة الأسئلة حولها، كحديثها في ص 37، حين تنسب النشل والسرقة للغجر مما يدفع القارئ للتساؤل عن هذا الوصم وعمن كرّسه وهل أنّ هؤلاء ليسوا إلاّ شعبا مثلهم مثل باقي الشعوب ذات الهويات المتدحرجة، النشل والسرقة ليسا أصلا ثابتا بل عوارض طارئة نتيجة تراكمات إجتماعية، فالغجر ليسوا كلّهم نشّالين، أو كذلك تصويرها لعلاقة العرب بالإرهاب من خلال حديثها عن إنضمام جاسر شقيق شيماء لتنظيم القاعدة ص 130، و كأنّي بها تضع بين يدي القارئ هذه النظرة الغربية للعرب القائلة بأنه لا مستقبل للعرب إلاّ في أحضان الموت في حين أنّ عدوّ جاسر المفترض أنطون اليهودي نجده في الرواية ينهي دراسته ويتفوّق ويؤسس أسرة، فتظهر هنا هذه الصورة النمطية التي يدفع لتكريسها الإعلام الغربي حول العرب واليهود .
كذلك نجد أنّ الكاتبة بالغت في جلد الذات في بوحٍ متألّم حين حديثها عن الزواج عند العرب حيث تقول " الزواج هناك لا يحتاج إلى الحبّ بقدر ما يحتاج إلى العذريّة . الحبّ يا أنطوانيت - قلت - هو مسألة غربية، وهوس أوروبي وأمّا الزواج فهو مسألة شرقية" ص 132، و كأنّي بها هنا في هذه المبالغة في نسْبة الحبّ للغرب ونفيه عن الشرق وكأن المشارقة لا يحسنون الحبّ، تسعى لدغدغة مشاعر القارئ ودفعه للتذكّر والتساؤل عن الحبّ عند العرب الذي لو لم يكن موجودا، ما كنّا لنرى كلّ تلك القصص والقصائد والأغاني التي دوّنت تاريخا من بحور العشق والغرام تكفي لطمر الغرب وهل أنّ أرواحا باحت بكلّ ذلك الشجن العاطفي لا تحسن الحبّ، فكيف سنجيب عنترة حين يقول :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل*** وبيض الهند تقطر من دمي
فودتت تقبيل السيوف لأنها***لمعت كبارق ثغرك المتبسم
لكن قد نجيب أنفسنا بأنّ هذا تاريخ، فأين الحب في حاضر العرب ؟
هذه بعض الخواتم التي بانت لي، ولي كثيرة حيث رُصّع بها هذا العمل الأدبي والذي يبقى في نهاية المطاف عمل إنساني يتأثّر بلا شكّ بما يتأثّر به الكاتب - الإنسان نفسه والذي يتقصّد كلّ كلمة، جملة، فقرة وحدث وذلك خدمة لنسق الرواية ودفعا لتطوّر أحداثها بسدّ الفراغات التي كان سيحدثها غياب مثل هذه الكليشيهات الواقعية حتّى يحصل إنطباع لدى القارئ بأنّ الرواية هي ما يراه في الواقع .
6 - ختام الختام
ميلانين رواية كتبتها أنامل مليئة بالإحساس و هذا تجلّى واضحا في شاعريّة النصّ و رهافة اللغة و سلاستها فكنت أقرأ و كأنّي بثوب حيك ببراعة و قد شَفَّ.
و لكم هذا التجلّي الذي نختم به، حيث تقول فتحيّة دبّش : " أحاول أن أفهم لما أحبّك هكذا بهذا الشكل المعوجّ ؟ فأعود بين الحنين و الحنين إلى قصاصاتك التي صارت تتآكل، أبعثك من سبات، برفق أفكّ يدك الأخرى، أحلّ الرباط الشفيف الذي به قيّدت روحي و قيّدت به نزقك،أسند جثّتك بين السطور قليلا...كأنّك هرمت أو كأنّ روحك السكرى بي قد إستفاقت، فأصابك التيه و حملك الطيش إلى حتفك..." ص 113
* كاتب تونسي