البناء الفني في حكايات من وادي الرافدين/ قراءة نقدية

2011-01-15

مقدمة

يمتلك القاص حسين سليم القدرة على التمترس يوما بعد يوم وبقصة بعد اخرى خلف رؤية تحمل في طياتها الكثير من الثراء والتضمين , وكأنه يعيش في زمن عشتار وديموزي ,في مستوى عال من الدلالات العميقة متجها بسرده نحو الامام وباسلوب عميق لتلمس احداث الواقع الدامي لبلده منذ الازل وحتى اليوم . وياتي تسجيل هذه الاحداث من خلال مفردات مهمة تلقي بظلالها على جوانيات الكاتب الجميلة واخلاقياته الحميدة بسرد تصاعدي وهويقود تفاعلات الاحداث في بنية النص الحديث والتي اراد لها ان تبدأ في -- تصاعد درامي فني -- اي احداث مليئة بالصراعات ,والجميل في ذلك انه يترك الاحداث مفتوحة للقارئ ويسلمها اليه وعلى القارئ ان يكمل مسلسل التتابع في الاحداث دون تروي ,والجميل في ذلك ايضا انه يكسر القاعدة دوما في كتاباته ...

لقد دقت الغربة في حياة هذا القاص اسفيناً عميقاً مؤثراً, فتراه يتحدث عن زمن وكأنه لم يغادره، فالغربة بالنسبة له هي السجن والزنزانه والجلاد , وفضاءات عمله هي فضاءات السجن بمفرداته بشخصياته بحوادثه , لذلك فهو يطلقها بشكل متناسق وجميل مع كونه يسلط الضوء على بقعة غامضة كلٌ يراها من زاويته. وهو يعرف ان السجن هو من صناعة البشرواقيم على اساس مصادرة الحرية والحقوق المدنية مؤكدا في حكاياته عن العذاب والاضطهاد الذي يتعرض اليه السجناء على يد السجان , ويسبر غور الشخصيات المتعددة التي يتناولها وهي تعيش حالات العذاب الذي يمزق النسيج الاجتماعي للانسان المحكوم عليه بالموت او السجن مدى الحياة وهو لايمر على حالة الا يقدم كل شاردة او واردة منها لان ذاته قد مُلئت في الخراب وان الزمن المتبقي ليس الا قليلا.. فهو حين يتحدث عن حكاية --صورة -- للشهيدة التي اعدمت زمن نظام البعث --الغائبة الحاضرة سناء عبد السادة عثمان التي تركت خلفها زوجا وابنا اسمه سلوان وفي لحظات التحقيق مع ابو سلوان الذي يقول :

لقد كتب عليك ان تولد في ارض بعيدة وتكابد المعاناة وتدلف السجن في الربيع الثالث والنصف وقد ساومتني عليك كلاب الزمن الحجري وانا بين الحياة والموت كنت مريضا دبيب حرارة جسمك العالية تتسلل عبر مسامات جلدي حين رموك باحضاني وددت ان اراك لكن العينين لاحول لهما ولاقوة معصوبتان ان امرر يدي على جبهتك لكنها مقيدة كالاطراف ....ويكمل القاص حسين سليم بالبوح بحزنه حين يعرف ان احد الجلادين يردف قائلا:

- سوف لن تراه

-اعرف سوف تقتلونه قبلي

- نحن؟ بل انت بعنادك

- ماذنب الطفولة ؟ انتم السبب

- بيدك حياته ......

هكذا وبكل بساطة الجلاد ينهي الامر .

اماالوطن بالنسبة للقاص هو التاريخ والجذور العميقة التي تمتد في كل مكان وزمان وعبر كل انواع البشر وهو الذي عاش في بيئة شعبية واحتضنته والف اصدقاء له فيها ومد جسور الحب في شوارعها وحاراتها وفيها اكمل تعليمه من الابتدائية الى الجامعة وفيها مارس طقوسه السياسية واضطهد واعتقل وعذب بشتى انواع الاساليب القذرة وسجن وحرم من حقوقه المدنية ....وقد حمل في افكاره وضميره ضيم والدته ووالده و اهله كما يحمل ضيم الشعب العراقي كله ...وكان زاهدا في حياته كاهنا في كل شئ لذلك التجأ الى محراب الكتابة في تقديم هذه المدونات الزاخرة بالهم الانساني المفعم على اساس حكايات عراقية ضمت تحت عنوان حكايات من وادي الرافدين .....لكنه يتحدث بلغة خاصة عن الوطن والموت حينما يقول :

الوطن ! ماهو ؟ البيت الذي يقف عند بابه المؤجر نهاية كل شهرا طالبا الزيادة، او الاخلاء .... ويردف ليقول عليّ الهروب باية طريقة . السجن أرحم من البقاء في هذا الموت المجاني لقد سئمت الروائح الكريهة والجوع المستمر الطعام المختلط بالطين والمشاهد المقرفة والاقرف بقع الدم المنتشرة على اليدين والملابس كاننا في مذبح ..لو كنت باحثا في علم الارض لامنت ان مصدر النفط في هذه البقعة انساني!!!!!!

حسين سليم المثقف البارع الذي يتمتع بخاصية مميزة بالكتابة فتراه يجعل لمساته الفنية واضحة في عمله وتشعر وكانه يراهن دوما على انه كاتب قصة يتمتع بالمقدرة على الولوج الى ماتصبو اليه تعاريف القصة القصيرة والتي تتجاوز حدود امكانياتها مع تقديم سرد وحدث واحد ضمن زمن محدد يعبر فيه عن موقف او جانب من الحياة.والسرد فيها يكون منسجم مع صياغة للحياة جديدة واعادة تقديمها باسلوب جديد مع تجديد الرؤيا فيها ايضا من خلال رسم جديد للاحداث في المكان والزمان.

ومن متابعتي لقراءة مجموعته القصصيه( حكايات من وادي الرافدين ) اجد بان الموهبة الادبية واضحة ومتفجرة كبركان ,فهو يعبر عن تجربة ابداعية لظروف قاسية عاشها الكاتب مليئة بالتناقضات والصراعات السياسية وزمن قاسي حكمت فيه الدكتاتورية الحياة والناس وهي تلقي بظلالها على افكاره وتتسرب اليه , فتراه يقدم الشخصيات وهي تعاني من ارهاصات اجتماعية وفكرية ونفسية كما هي في واقع السجن وهي غزيرة بالمعلومات ويسعى دائما الى تقديم الاجمل ما فيها عبر موضوعية مبدع تتشابك احاسيسه مع احاسيس الناس وهو يسعى لتدوين لحظات مهمة قد تفلت من الزمن الذي يعيش فيه لذلك فهو يصفها كالبناء المرصوص ويخلدها وهو حريص على ذلك اشد الحرص على ان لاتنفرط الاحداث كعقد لؤلؤ من خلال تحليقه عبر نافذة الخيال حتى ينتج عوالم جديده وقيما جديدة وهو داخل الاسوار او خارج الاسوار. في حكاياته يتحدث عن ساعة غروب الشمس وهي دلالة على انتهاء يوم وصعود ارواح الشهداء الشرفاء الى الاعلى للقاء بالرفيق الاعلى منطلقين من البرزخ الارضي للأله الدكتاتور صدام حسين في قاطع الاعدام في سجن ابو غريبب سيء الصيت او صندوق الموتى :

بين احد واربعاء / اسماء تكتب على الجدران / تتداخل حروفها في دهاليز الموت / على ارض النهرين/ اسماء / حكايات اناس شتى من يحفظها / من يخرجها للنور/ ليت الجدار يتكلم يوما / الهواء ينقلها همسا/ قالت الاهات المتلاطمة بين الجدران...يجري الاعدام بمراسيم سلطانية/الموت واحد/ايا تختار ..الحرق.. الغرق ..على الخازوق / هذي تشريعات الاجداد /على الحجر الاسود /في السر ام العلن /ام امام الناس / رميا بالرصاص / ذبحا بالسيف /قتلا بالسم /تقطيع الاوصال على دفعات /او الرقص على الحبل .....


حسين سليم قاص عاش فترة مظلمة تلقى فيها انواع التعذيب والاهانات في سجن ابو غريب وما قبلها في مديريات الامن انعكست هذه الفترة على جل اعماله فهو من يفجر الموقف ويصرخ ويعلن بان ادبه يصور لحظات لايمكن ان تنسى وتتضمن مواقف وقرارات.

هو متابع جيد يمنح لنفسه في اللحاق بمساحاته الابداعية ويحاول ان يملئها ثم يطلقها مكثفة مرمزة وايضا فيها الكثير من الايجاز الواضح وهذا سبب مهم في قوة الكتابة لديه ولانه يعتمد على مادة الحكي الحية المعبئة من اجل ايصال وحدة الموضوع والهدف فيها والتي تحمل معها ادوات سرد ووصف وحوار متمكن جدا فيها.

وفي اغلب قصصه يتناول حكاياته من الماثور الشعبي او الاغنية العراقيه المؤثرة او من الاساطيرليقدمها في مواقف ولحظات تحمل صراعها الازلي معها كما في صناعة توتر العناصر في بناء الحكاية, لذلك هو يقود الفكرة الى الهدف او المرمى الذي يبغيه متمكنا من عناصر تكوين قصته وسرده للاحداث بشكل متسلسل وفيه ترتيب منسق تاريخيا وبالتالي فهو يمتلك من الاستعداد في قيادة التقلبات التي تحدث اثناء سرده للحكاية ومعيار ذلك فيه هو الانفعالات الهادئة في ذلك التسلسل الزمني والتاريخي وحركة الشخصيات وردود افعالها ..

وحين يحلق بحكاية من لكش يصف الايام الجميلة : كان ياماكان في قديم الزمان في لكش ياأولادي

- وماهي لكش ياجدي؟ لكش مدينه سومرية تقع شمال نهر الغراف وفي الالف الثالث قبل الميلاد /كان الناس يعيشون فيها سواسية لاغني ولافقير .... ثم يستمر بالسرد فيقول : لاوجود فيها للافاعي ولا الحيتان أخ من افعى هذا الزمان ... لاوجود للذئاب والكلاب وكانت ذئاب القرية تعوي خارج الكوخ تساوم الكلاب لاقتناص اغنام القرية والحوت يحاول ابتلاع القمر ..

في عرضه للاحداث يصبح القاص حسين سليم قاصا مرة ومرة اخرى قارئا للاحداث وهنا تكمن الصعوبة في اسلوبه هذا. وما يهمنا هنا في هذه القراءة التحليلية هناك اسباب حقيقية دعت القاص الى العودة للغوص في قاع المفردة التي تنبع من قاموس مفردات السجون المظلمة في العراق -- المطامير -- التي تختبا فيها الارواح وتقبع بقعر السجون والتي تبقى مجهولة الهوية حتى لحظة هلاكها معبرا عن ذلك في ( الدهاليز المظلمة- التحقيق-التعذيب-الاعدام-الاحكام الخاصة-الزنازين- اغتصاب العذراوات- جدران الاسمنت الباردة - حفلات التعذيب ) مفردات تطرح اسئلة كثيرة تلح وتدور في مخيلته محاولا اكتشاف للذات العراقية وهي تتحمل هذا الكم من الضيم والقهر محاولا ايجاد معالجة للاوضاع المتردية صارخا باعلى صوته لايقاف نزيف الموت الجاري لانه يرى ان الوضع معقدا ومتشابك لذلك يفكر بصوت عال لكي يواجه مايمكن مواجهته لمواقف متعدده ..والانسان العراقي لديه عبارة عن خسارات متكررة عبر التاريخ وكانه يرمي للقارئ كيف يتم اعادة بناء الانسان من جديد لكي يستعيد ما فقد من توازن, فهو يؤكد على اهمية القيم الاجتماعية والاخلاقية والعاطفية في نصوص تجمع مابين القصة والشعر وهي تحمل هما حقيقيا واغلب هذه الحكايات مستوحاة من اناس كانوا قد ابتلوا واحترقوا بشر طاغية لم يعرفه التاريخ والاهم في ذلك ان هؤلاء الناس مازالوا يعيشون وهم شهود على تصرفات ونزوات الدكتاتور الخاسر لكل شئ.

وفي حكاية صوت يسرد علينا قصص متمردة :

في تلك الليلة قاوم القمر بكل ضراوة محاولات الحوت لابتلاعه .....هذا ماكنت اخشاه/ تتعلق كل نفايات الاحياء المتكدسة عبر دهور باذيال جبروته / متى ختمنا عقدا يدوم ابد الدهر ؟؟؟ اعواد الثقاب المهربة / ريش الدجاج المقتول بالمواد السامة,تطاير من ايدي الباعة الاطفال / براز عصافير خائفة / رؤوس نساء معلقة على جدران بيوت , حيامن شباب ..... لم ينبح المختار كعادته حينها / دقوا علب الصفيح... ايها المساكين / ياحوته يامنحوته فكي قمرنا الغالي .

ان الوقوف والتحليل لهذه المجموعة الرائعة من الحكايات التي ترسم الذاكرة العراقية لهذا الكاتب السليم حقا حيث نجد انها طافت ولازال تطوف في وجداننا لهذه اللحظة مما تجعلنا ان نتعلق في حكاياتها والتي ايضا ارتبطت في تاريخ قديم لوادي الرافدين ونقشت على الذاكرة ..... حكايات تجمع مابين القصة والشعر....

والكاتب حسين سليم يتميز بامتلاكه لغة فنية جميلة تسرد فيها الحكاية بطريقة شعرية -- بمعنى اخر هناك قص وشعر -- بنفس الوقت ,وتحمل في جنباتها جملة من الخبايا المتعددة المملؤة بالصراخ بوجه الظلم والطغيان وهنا يستثير القارئ ويجعله يصطف مع الحدث من دون ان يكون له موقف مسبق .... ان شخصيات هذه الحكايات كانوا شهودا على تصرفات الدكتاتور ونزواته الشيزوفرينية حينما كان يعتدي على شرف العراقيات الجميلات : كما هنا في حكاية نزوة سرجونية كنص شعري :

جفل القائد صاحب الالقاب الموسوعة واغمى عليه , حمله الضيف الى سريره , سكب بضع قطرات ماء عليه... اعادت وعيه اليه... وعلامات الدهشة ترتسم على محياه !!!!

-- من انت ؟؟؟

-- انا جدكم الاعلى الذي تتحثون عنه كثيرا

-- تقصد كَل ...

-- انا صاحب الملحمة الشهيرة

-- تعني كَلكَامش .

-- أجل.

-- ولكن كيف تجاوزت كل هذه الموانع ؟ الحراسات؟؟ اجهزة المراقبة ؟؟

-- نزلت عن طريق انليل .

ويستمر القاص يسرد حكايته شعرا بفضح الدكتاتور حين يقول

ياقائد سومر / اخصب لنا سومر / اطلب .... تمنّ / نجلب حوريات الارض نطول السماء ز

وهنا في هذه المقطوعة الفنية يتناول سلوك الطاغية الذي عبث في البلاد عبثا لامثيل له واحال البلاد الى دمار بافعاله المشينة حينما انتهك حرمات واعراض فتياتها العذراوات الجميلات ...فنراه يقول هذا في نصه المفتوح والذي يتداخل الشعر فيه مع السرد حين يقول :

هذا ماكنت اخشاه ياهبة الله يابستان الجنة / تقتلع النوافذ من الحيطان / تتطاير في الهواء /تحلق الستائر عاليا / كاشفة عن اثداء يعتصرها الشبق الشرقي / منذ عهد اورنانشة/ صوت دم الضحايا/ صوت العذارى في حوض سباحة السلطان .....

مولانا ياصنيعة ايدي الالهة

اطلب ...تمنّ

حوض السباحة

كسوناه بالمرمر,واللازورد

ومن حوله

المنشدون العازفون

الخصيان

والبغايا المقدسات

.........

خنقت انوار القصر

عاريان على البلاط البليل

كالصقر ينقض على العصفور

يجثم على صدرها

فوقها يمارس نشوته

ذهابا .... وايابا

عيناه تخرجان امامه

ذئب تفنن بفريسته

.....

يزحفان ... على امتداد الحوض

يدفع ... تنسحب على البلاط

يلاحقها ... تتلاطم في باحة القصر

تأوهات العذراء

.....

انساب الدم

احمّر الماء فوق المرمر

في الحوض ارتخ السلطان ونشنش

عيناه تحلمان في اليوم التالي .

انتهت الحكاية وكذلك النص في زمن السلطان ...

* اورنانشة( احد طغاة العراق القديم )

هذه المواقف الجريئة والاحداث الخطرة التي تتناولها هذه الحكايات في الدرجة الاولى تتعلق في مقام السلطان المهزوم وكذلك عن الموت في الذاكرة الجمعية العراقية عن لسان الام الفاقدة والحبيبة الثكلى ان قراة هذاه الصور المرعبة والشائكة التي صورتها تلك الجمل البصرية في النص تترك للقارئ التعليق عما كان يدور خلف كواليس قصور السلطان وبالتالي يترك للقارئ الخوف والرعب في كل حكاية لأنه من امراض السلطان الذي كان يمارس سلطته ببشاعة ليست معروفة للاخرين ....حكايات تحمل هما انسانيا حقيقيا اغلب حكاياتها مستوحاة من اناس حقيقيون ابتلوا بدكتاتور ظالم ....

الفرح والحزن الموت والحياة العدل والظلم النار والماء التفاؤل والتشاؤم . مفردات لازمة السرد منذ بدايته التي وهو هنا يتكلم عن حكايات من وادي الرافدين حكايات معبرة عن الالام والقهر والاضطهاد لحكايات يندى لها جبين الانسانية وبطريقة تعتمد ( الحبكة الدرامية ) في بنية النص الدرامي فما ان تنتهي حكاية حتى ندخل بحكاية اخرى القاسم المشترك هو كما ذكرنا الفرح والحزن الموت او الحياة وهكذا يستمر مسلسل الحبكة ...

وبالتالي يستوقفنا هذا المشهد من الحكاية لكي نسترجع ايامها خاصة ونحن الذين عشنا نفس ظروف الكاتب حينما كنا نلتقي نقص على بعضنا حكاياتنا المريرة التي نالت منا كثيرا فاحلناها الى شعرا وقصصا ... ولاننا نعتمد المصداقية في السرد للاحداث نعتمد اعتمادا كليا على الذاكرة الجمعية كمصدرا ومرجعا اكيدا وبالتالي نحن نحاول ان نستعيد قراة السرد هذاعبر ما يقدمه لنا ازاحات شعرية تملؤ حياتنا وواقعنا المعاش بكل الرغبات التي تثير فينا الالم والحزن والرثاء على انفسنا لمعاناة تسربت من خلال بصيص ضوء في نفق مظلم هكذا يقدم لنا القاص حسين سليم الذاكرة والتاريخ بفن شعري محكاة ...

ونحن اليوم نلعن الدكتاتور واسلافه للجرائم التي اقترفت , نتالم ونفرح نضحك ونبكي , بسبب حالة ما حدثت هنا او هناك , القصد من هذا هو وجود مشاعر واحاسيس تتاثر بما يحدث امامها ... هكذا يتحرك النص الذي يديره القاص حسين سليم .... لقد قدم تحديات عديدة في سجل هذه الحكايات المتاتية من وادي الرافدين العميق بتاريخه وظلمه ....هذه التحديات دونت على اثر -- جلد حار -- يطرق على اجساد البشر بسوط الجلاد ومطرقته ومساميره ... في هذه الحكايات هناك شجاعة بالغة وجراة مكنت الكاتب بالبوح عن تلك الاسرار الخطيرة ...

لكوني منشغلا (في اصدار ديواني الاول ابجدية النهر) والذي يتحدث عن نفس التجربة السجنية بعينها وذاتها عمل احد الفنانين التشكيليين وهو( الفنان بديع الالوسي ) الذي قام برسم لوحات فنيه تهتم بتفسير التاويلات التي جاءت بالنصوص الشعرية التي تتحدث عن حكايات من زنزانات الاعدام ووضعها في الديوان متساوقة مع الم النصوص الشعرية ...

وبين تراكمات الالم والقسوة التي نعاني منها والقصص القصيرة التي اطلعت عليها , في حكايات من وادي الرافدين ... احببت ان اتوقف في حضرة القاص صاحب هذه الحكايات لاقول شيئا ما عن هذه القصص القصيرة المؤثرة التي تمتاز بسرديه مفعمه مختلطة بالواقع والمتخيل بالحاضر والماضي البعيد بالاسطورة والملحمة عبر منافذها المهمه جدا وعناصرها الفنيه كما في اللغة الادبيه وبالفكرة والاسلوب والمستوى الفني التي حملتها هذه القصص, لان تلك الامور تؤكد على ماهية هذا الفن الادبي وجذوره في تاريخنا وواقعنا المعاش بعيدا عن السفسطة وتاويل الاشياء .

 

 

وهنا لابد من التوكيد على حقيقه مهمه في كتابة فن القصه القصيره على اعتباره جنسا ادبيا مهما يعتمد التكثيف في عناصره لاي ظاهرة وهذا يعطينا مؤشرا واضحا للمستوى الفني للكاتب وادواته وعدته , كما ولابد ان نشير الى هذا الجنس الادبي الذي يعتمد على شروط مهمه فنيه وموضوعيه تؤكد فيه انه ( قصه قصيره ) او جنس بين الاجناس الادبية الاخرى انطلق وانتج في العالم بسبب الحاجة الانسانية الكبيره اليه لانه يعبر بصدق عن حالات وظواهر حياتيه بسيطة منها وفلسفيه معقدة اخرى تبعا لافكار الكاتب وحياته ...

وبالتالي عندما نحاول تشريح هذه المجموعة القصصية وفقا للبناء الدرامي المتكون من سلسله احداث تتشابه في مناخاتها وشخصياتها واحداثها , وقد قدمت وسردت بطريقة سلسلة وعذبة فهي بذلك تقوم بعمليه سرد واقعي لافعالها ومكوناتها عبر الخط الدرامي المتصاعد للاحداث وبالتالي تنتج لنا قصدية فنيه تحتوي على الاثاره والامتاع والتثقيف ضد ممارسات الدكتاتوريات على مر التاريخ ...

يتمتع القاص حسين سليم باسلوبه السردي الممعن بتطور الاحداث بثقافة خاصه تحمل في طياتها تكوين واضح لادب السجون فهو الذي عاش في سجن ابو غريب سيء الصيت لفترة من الزمن تحمل اهانات الجلاد والدكتاتوريه وبالتالي اضافت له هذه الفترة افكار جديده فيها من الوجود الانساني و الهدف و الفكره والموضوع بالاضافة الى لغه كونت وشكلت لوحات فنيه تتقاطع فيها الالوان الداكنة للدكتاتور مع الالوان المضيئه لحياة الانسان العادي على مستوى الام والشابة والحبيبة والابن والاب تحركت جميع هذه الشخصيات في مستوى الحدث لكونها شكل من اشكال التعبير والتغيير عبر صور وكلمات وجمل من خلال معانات لشعب عصي لايمكن ترويضه .

بالاضافة الى مكونات القصصص هذه التي تحتوي على الحدث والعقده والحبكه والابعاد الثلاثه والمكان والزمان الى اخره.كان الاهم في ذلك هو الاسلوب الممتع و المتطور بالكتابه السرديه..

وهنا نطرح تساؤل حول القاص حسين علي سليم حول فن القول ....

كيف كتب ؟كيف قال ؟ كيف سرد ؟ وكما نعرف بان الجميع يستطيع ان يقول او يسرد او يكتب مايشاء الى اخره

من هذا كله لابد للقصه القصيره ان تكون في راي الخاص تعتمد على هذه الشروط الفنيه المهمة التي ذكرتها بالاضافة الى عدم وجود ( تكرار ) في جميع القصص التي سردت في شريط سينمائي فني يحمل عنوان حكايات من وادي الرافدين ...


واخيرا اود القول بان اي حدث مكرر في تاريخنا العربي او الاسلامي ويكتب بنفس الطريقه انما لابد من استخدام اسلوب اخر لتفكيك الاحداث القديمة وبنائها من جديد على ضوء واقع اخر على اعتبار ان القصه القصيرة هي وسيله تعبر عن ترجمة المشاعر الانسانيه للحظات تتازم وبالتالي تجد طريقها منطلقة نحو الامام وفي انثياله كبيرة على حافة النهاية المؤلمة بعد مرورها بالذروة كما هو حال في اختيار العذراوات من حمام السباحة الخاص لتدليك الرئيس و اللواتي كان يسيل من تحتهن خيط الدم الذي يختلط مع الصراخ وكلب النجدة على حافة المسبح المرمرية الرطبة بماء المسبح الذي يستخدمه الدكتاتور في عمليات الاغتصاب المتكرره حين ينام فوق ضحيته ويدفع بها كالثور الذي يلفظ انفاسه الاخيره ...هذا التوصيف او السرد الذي جاء به القاص انما يعبر عن قيمة الخط الدرامي للبنيه الفنيه للحالة هذه و التي حملت معها دموع الانكسار تحت قبضة الجلاد وادواته التناسلية ....


ومن ناحية اخرى تتاثر اجواء القصص باجواء الكاتب وليس العكس وقد اجزم بان اغلب القص والسرد كان يعبر عن معانات الكاتب حسين سليم او ربما كانت المناخات التي تحرك فيها هي على معرفة تامه به او قريب منها وبالتالي انتجت الينا هذه الاجواء السرديه الواقعيه....


البناء الفني للسرد القصصي


من المسلم به ان القصه القصيرة تعتمد على البداية والوسط والنهايه بالاضافة الى التمهيد وبالتالي جعلنا القاص ان نرى هيكل بنائها واضح عبر الخطوط الدراميه المتصاعده لكل الاحداث بشخصياتها واماكنها وازمانها ليوصل بنا الى ذروة الاحداث كما حصل في ذهاب الام لتسال عن ولدها الذي اعتقل كانت بريئه لاتعرف اي اي شيء عنه سوى انه ولدها ..وحينما عرفت الجواب .. زاد قلقها وخلق لها تداعيات متعدده و بشكل واضح هنا السرديه جاءت عبر مفاتيح اللعبه التي يتمتع فيها الكاتب اي هناك نقطه تحول ابداعية في المواقف بمعنى اخر القول ان الابداع الفني المتماسك يقودنا الى التوصيل بالاحداث ومجرياتها ولايدع لنا برهة واحده تنفصل عنها فبملاحقة الحدث المتتاليه يقودنا نحو نهايات مؤلمة غير ساره وبعض الاحيان يترك لنا عناوين كبيره او تساؤلات وهذا هو المهم لان الصراع مع الدكتاتوريات لاينتهي والظلم باق كما هو الشر ...


القصص كانت تعالج موضوعات عديده لكنها تحمل قاسم مشترك مع وجود الجلاد او الريئس او العسكري او رجل الامن الى اخره ...من مصادر للقوة ...وبالتالي لم تقتصر هذه المجموعة على قصة واحدة او حادثة واحدة لذلك القصص التزمت بطول محدد لنهاية الحدث لندخل على حدث اخر من مناخات ليست ببعيدة عن بعضها .


من خلال قرأة هذه الحكايات الجميلة التي ترسم الذاكرة العراقية للكاتب حسين سليم نجد انها تطوف في وجداننا مما تجعلنا ان نتعلق في حكاياتها والتي ايضا طافت في تاريخ قديم لوادي الرافدين ونقشت على الذاكرة ..... حكايات تجمع مابين القصة والشعر....

والكاتب حسين سليم يتميز بامتلاكه لغة تسرد فيها الحكاية وهي شعر بنفس الوقت وتحمل في جنباتها جملة من الخبايا المتعددة المملؤة بالصراخ بوجه الظلم والطغيان وهنا يستثير القارئ ويجعله يصطف مع الحدث من دون ان يكون له موقف مسبق .... ان شخصيات هذه الحكايات كانوا شهودا على تصرفات الدكتاتور ونزواته الشيزوفرينية .....

هذه المواقف والاحداث التي تتناولها هذه الحكايات في الدرجة الاولى تتعلق في مقام السلطان المهزوم وكذلك عن الموت في الذاكرة الجمعية العراقية عن لسان الام الفاقدة والحبيبة الثكلى ان قراة هذاه الصور المرعبة والشائكة التي صورتها تلك الجمل البصرية في النص تترك للقارئ التعليق عما كان يدور خلف كواليس قصور السلطان وبالتالي يترك للقارئ الخوف والرعب في كل حكاية لأنه من امراض السلطان الذي كان يمارس سلطته ببشاعة ليست معروفة للاخرين ....حكايات تحمل هما انسانيا حقيقيا اغلب حكاياتها مستوحاة من اناس حقيقيون ابتلوا بدكتاتور ظالم ....

الفرح والحزن الموت والحياة العدل والظلم النار والماء التفاؤل والتشاؤم . مفردات لازمة السرد منذ بدايته التي وهو هنا يتكلم عن حكايات من وادي الرافدين حكايات معبرة عن الالام والقهر والاضطهاد لحكايات يندى لها جبين الانسانية وبطريقة تعتمد ( الحبكة الدرامية ) في بنية النص الدرامي فما ان تنتهي حكاية حتى ندخل بحكاية اخرى القاسم المشترك هو كما ذكرنا الفرح والحزن الموت او الحياة وهكذا يستمر مسلسل الحبكة ..

كان مستوى القص او السرد يبلغ حالاته الانسانيه بقوة لانه يعتمد على الحكي وهذا فن جميل وقد اعتمدفيها القاص على افكاره ومضامينها التي تصلح ان تقدم حتى في المدارس الابتدائية للمراحل بين الصف الرابع والخامس وتحديدا في المجال الاخلاقي والانساني لتعليمهم كيفية بناء القصه من جانب ومن جانب اخر لما تحمله من معان تلعن الظلم والدكتاتورية المقيته وبالتالي فهذه القصص والحكايات يكون لها طابع تربوي يساهم في عملية بناء شخصية الطفل واعتقد ايضا بامكان من الاستفادة من هذا السرد الممتع الجميل في التلفزيون التربوي للاطفال ضمن منهاجية التعليم والفن .

بسبب ان هذه المجموعة في لغتها الادبية والفنية ليس فيها من التعقيد بسيطة وسلسة ايضا ومباشره في بعض الاحيان وليس هناك تاويلات كبيره في الصور التي سردت في مناخات القصص

كما وان المجموعة هذه احتوت على عناصرفنيه شكلت فضاء كبير للقصة القصيرة او الحكاية القصيرة عبر منظومة السرد الفني ووزعت بشكل جميل على مدى التاريخ الانساني كما في الزمان والمكان والشخصيات التي فعلت الجو عبر منظومة الحواس عند الشخصيات المتعدده الام والابن والزوجة الحبيبة الدكتاتور القوة الموت الحروب السجون الى اخره من مفردات مهمه تناولها الكاتب القاص حسين علي سليم..

ان حكايات من وادي الرافدين قصص قصيرة حددت هدفها منذ البداية وكانت واضحة في عناصرها للقاريء .. ان في توفر هذه العناصر نستطيع ان نقول ان كل واحدة منها تمثل قصه قصيرة بالاضافة الى امتلاك شروطها الفنية ومن هذه الشوط انها تنحصر باكثر من 1500 كلمة ...


ولابد من القول في هذه الحكايات انه هناك انسجاما في مهمة القصه التي تروم الى اعادة تشكيل الحياة وتفسيرها حسب عقلية الكاتب برؤية جديده تعتمد على معنى الوجود الانساني عبر التراث العربي والاسلامي والاساطير والملاحم ..والعلاقة بين الوالدين والابناء وزوجاتهم والاوضاع السياسيه والاجتماعية والاقتصادية والتي تلقي بظلالها على اخلاقية المجتمع العراقي ...كما ولانخفي على قدرة القاص باستخدام نفس سردي طويل فيه مساحة ابداعية تشتغل على التكثيف وهذا ايضا هو انعكاس لحياة الكاتب الذي تحمل التعذيب والاهانات وبالتالي ازداد صبره صبرا مما انتقل هذا التحمل على نفس القاص الذي في بعض الاحيان نفسا طويلا ...ان روحية القصص تنبع من نفس تلك الام التي عانت الكثير في حياة القاص وهذا جليا وواضحا في النهاية يحاول ان يعلن انتصاره للمراة ويناشد بالعودة الى مكانها الحقيقي بين احضان المجتمع الانساني ..


خطوه مباركه جديده على درب الادب القصصي .


الناقد

نعمه السوداني

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved