في الغرفة الكبيرة الواسعة ذات الرواشين العميقة برفوفها العديدة المتشققة والكالحة والتي وُضِعت عليها وبصورة عشوائية مجموعة من التحف الرخيصة وبعض الكتب القديمة منزوعة الأغلفة وقد ذَبُلت بعض حافات وزوايا أوراقها بشروح وبقلم الرصاص الناعم، لكنه أنيق ومقروء.
سقف الغرفة من الخشب الباهت الألوان والنقوش، المروحة العتيقة ذات الصوت الرتيب في الصيف الحار لم تُعَلق في وسط سقف الغرفة فهي في جزء السقف الأقرب إلى الباب، أما الصوبة السوداء القديمة ذات الثقوب الواسعة فقد إحتلت وسط الغرفة وإستقرت على قطعة سميكة من خشب التيك القاسي والتي لا تنفك فتيلتها من الإرتفاع تلقائياً فتتوهج ذؤابتها باللون الأصفر البرتقالي وتخرج خيوط الدخان من الثقوب فيسرع مَنْ يكون قربها بضربها لكي تعود على سابق عهدها من التوهج المتزن وبلون أزرق خفيف.
أرض الغرفة من الطابوق الفرشي مغطاة بثلاث قطع من الكمبار العريض، غلف (عمي عبود) نهايات الكمبار بقطع من القماش السميك(الجتري) وخاطها حتى لا تتمشع على حد قوله.
فُرِشت فوق الكمبار ـ وسط الغرفة ـ أثمن ما يملك الجد من حطام الدنيا، سجادة إيرانية إشتراها من أحد المهربين وساعده في إيصالها للبيت أحد أفراد شرطة الكمرك، وحين يتشاجر مع أبنائه يلفها ويركنها في زاوية الغرفة. أثاث الغرفة بسيط .. ثمة مقاعد قطنية قديمة مع وسائدها تشكل مستطيلا ناقص أحد الأضلاع ومنضدة إستقر عليها الراديو الكبير والمغطى بشرشف من القماش الناعم والذي عُلِقت به (خضرمة وسن الذيب) ويجانبه القرآن الكريم على حامله الدفتري والحامل من إنجازات (عمي جبار)، وقد أخذ منه العمل مدة أسبوع ، حصوله على قطعة من خشب الصاج ..تصفيتها.. قصها. . زخرفتها.. تنعيمها.. تعشيقها ( ضربها بالدملوك) هاشوف هاذا كله بدون مسامير(الحديث للعم جبار).
من خلال الشباك في الحائط القبلي والذي يطل على شجرة الدفلى، وفي لحظات غياب الجد كنا نفترش مساحته المربعة ـ وهي عرض الحائط ـ مشرئبين بأعناقنا حيث الجسر وإنبوب الماء العابر من تحت الجسر والذي يتعلق به أطفال القرية الذين يقومون بالحركات البهلوانية والتي لا ينجح بعضهم بإتقانها فيسقط في النهر، قد تنكسر يده أو تلتوي ساقه أو يصاب بجرح بليغ.
على الحائط عُلِقت ساعة الجد الأثيرة ذات الدقات الرنانة والمسموعة كل ساعة ونصف ساعة وربع ساعة .
في هذه الغرفة إعتاد الجد إستقبال مجموعة من أصدقائه الرجال بأشكالهم وهيئاتهم المختلفة كل يوم جمعة نهاية كل شهر كان الفصل صيفاً أم شتاءاً، حيث يتتقاطر الجماعة بعد صلاة الجمعة، فتهدأ الحركة في الداخل ويختفي صراخ وزعيق الأطفال ويقل ركضهم وتفتر حركة النسوة وتنسحب أصواتهن بعد أن جهّزنَ كل شيء.
وهو يقطع الممر، بعد أن إستأذن من ضيوفه ليشرف على كل ما يتعلق بالوليمة .. إختيار أواني تقديم الزاد وترتيب ( السماط) والوقوف على ما يحتاجه الضيوف أثناء أكلهم، وحين يطلب أحدهم منه مشاركتهم الأكل يبتسم مجيباً: أكل (جبيدي) كبدي أكل، وبمحاذاة الحديقة التي تتوسط الحوش الداخلي وبإتجاه (الخرابة) وهي الركن الشرقي من البيت الواسع رفع الجد يده مبعداً سعفة نخلة البرحي عن وجهه، نخلته التي زرعها في المكان الذي أُقتِلعت منه شجرة السدروالتي كانت جذورها تقطر دماً عند القلع !، وقتها نصحه أحدهم بزراعة النخلة، وهي شجرة مباركة ستبعد الشرور عن البيت وأهله، وعلى بعد خطوات من نخلته تعرشت شجيرة الياسمين وتدلت أغصانها المليئة بأزهارها البيضاء العطرة على سريره الواسع من جريد النخل، القى نظرة على السريرومد يده قاطفاً تينة بيضاء من شجرة التين التي تلامس أوراقها خشب قاعدة شبابيك (الكفشكان) وحشرها بين عيدان القفص.. متابعاً حركة البلبل مسرعاً بإتجاه الركن المسقوف بـ(الجينكو) المضلع والذي يحوي على موقدي حطب وتنور طيني وشدات من السعف وكومة كرب وقطع من جذوع النخيل ذلك هو مطبخ العائلة حيث تجمعت البنات والكنات بإنتظار أوامره المطاعة، وإن أخطأت إحداهن أو رفعت صوتها قليلاً طلباً لحاجة أو تكليف غيرها يخرسها بقوله: ( إستحي على شيب الخلفوك) يتبعها بشتيمته المعتادة ( بت الزك)، أما نحن الأطفال إن حاولنا التقرب من باب الغرفة فيبعدنا بخزرة من عينه الحمراء أو صفعة من كفه الكبيرة أو بالإثنين معاً، لكن قدرته على الهش والبش ترغمنا نحن الصغار على طاعته وتنفيذ ما يأمرنا به. مجموعة الأصدقاء منهم مَنْ يأت بكيس ورقي يسلمه للجد أو أحد أولاده وآخر بلفة تحت إبطه يتركه على المقعد حين يغادر المكان، ومنهم مَنْ يأتي خالي الوفاض يأكل ويمسح يده بالحائط، أحدهم كان حداداً ونجاراً يأتي مع ضربة المس لا يتكلم ولا يرفع رأسه عن الطعام إلا لطلب حاجة وكأنه لا يعرف أحداً من الحضور وما أن يشبع نأتي له بـ(اللكن والأبريق) يغسل يديه وفمه ويُخرِج صوتاً أثناء المضمضة ويرفع غطاء اللكن ويبصق بصوت يثير الإشمئزاز بعدها يتجشأ ويحمد الله ويثني عليه، نناوله (الخاولي) يمسح فمه ويديه ويحوله من يد إلى أخرى وهو في طريقه إلى مكانه مما يضطرنا للّحاق به ورفع الخاولي بعد ان رماه بالقرب منه وما أن ينحني أحدنا لإلتقاط الخاولي حتى يهمس بإذنه: الشاي، في حين إنّ الجميع مازال يتناول الطعام، وكأنه الوحيد الذي يحضر الوليمة وهكذا في كل مرة.
تاجر الجملة ذو الكرش الضخم والقامة الطويلة والميلان في كتفه الأيسر جعل ذراعه اليسرى أطول بعض الشيء من اليمنى ، كنا نتساءل كيف لهذا الجسم الكبير والثقيل حتماً أن تحمله هاتين القدمين الصغيرتين، وحين نراه يتمايل في مشيته لا ندري إن كان مزهواً بها أم لألم في قدميه جراء جسمه الثقيل! وكم من مرة حاولنا أن نُدخِل أرجلنا في حذاءه اللامع المركون بجانب باب الغرفة ولكن الخوف من غضب الجد حين يضبطنا كان يمنعنا من الإقدام على ذلك، هذا التاجر والذي تسبب في عنوسة ثلاث إخوات بسبب جشعه وحبه للمال مدعياً إنّ زواج إخواته سيجعل مال وأملاك أبيه نهباً للغرباء وهو دائم الحديث عن الصحابة والأولياء وكراماتهم كان يخلط الواقع بالخيال ويستنبط قصصاً وحكايات من الصعوبة على السامع عدم تصديقها( حسب رواية عمي جبار). وحين يدور الحديث عن المال وطرق جمعه ينبري بالقول: جمع المال كلعب القمار !!، إذن كيف التوفيق بين ما يروج له في أحاديثه عن الصحابة وتقواهم وبين جمع المال كلعب القمار، هذا ما لم يشر له أحد ولم يحاول أن يتوسع به أفراد المجموعة.
في فصل الشتاء الممطر وبما أنّ الخرابة مكشوفة والسعف المبلول لا يشتعل بسهولة فكنا نضطر لشراء الخبز من مخبز محسن ، وما أن يطلق ديك (أم العوف) صيحته عند الفجر حتى نسرع في الخروج من منازلنا متجهين إلى المخبز وعند وصولنا إلى الجامع تلوح لنا قامة الحارس واقفاً عند مدخل السوق رافعاً صوته وملوحاً بعصاه الغليظة وفي كتفه علق بندقيته (البرنو) ولا يدعنا ندخل السوق إلا بعد آذان الفجر بحججه الواهية قد يحمل أحدنا علبة شخاط فيحرق السوق أو لديه نية لسرقة دكان، عندها نتجمع في الزقاق المؤدي إلى التكية النقشبندية والرجفة تدفع أيدينا إلى الإهتزاز بسبب البرد الشديد، نطل برؤوسنا بين لحظة وأخرى كي لا يفاجئنا بعصاه الغليظة .
وما أن يبدأ مؤذن الجامع بالتمجيد، حتى نندفع راكضين نحو المخبز وكل منا يحاول أن يكون الأول في الدور، أما الحارس فقد جلس هادئاً قرب موقده والذي جدد إشعاله بما تبقى من قطع الخشب والتي يتركها له يومياً النجار (أبو فاضل) بعد أن قضى ليلته وبعد كل دورة في السوق وصفرتين من صفارته النحاسية يأتي ليحتضن موقده ـ وهو نصف علبة من القصدير قُصَت طولياً وكُدِس فيها الخشب المشتعل وبجانبه إستقر القوري المتسخ ـ ويدفأ جوفه بقليل من الشاي، ومع غليونه المفضض وتبغه برائحته النفاذة حيث كان يتفاخر أمامنا بإشعاله للغليون ببطئ ساحباً بعمق الدخان إلى رئّتيه نافثاً القليل منه. وبالرغم من إنه من مجموعة الرجال الذين يحضرون وليمة الجد وبإنتظام فإنه يتظاهر بعدم النظر لي ومن جانبي فإني لا أجرأ على تعريفه بنفسي . وعن غليونه ورائحة تبغه النفاذة فقد كان يدخن تبغاً مخلوطاً بـ(الترياق) وتلك حكاية أوجزها( عمي جبار). إن مَنْ أخذ بيده وعلمه تدخينه هو(بابا خلف) وبابا خلف هذا من العاملين في معمل جص حجي(طوينة) في الزبير وكان له قريب يجلب له الترياق أو يبعثه بيد المترددين، إلا إنه وفي أحدى زياراته إلى قضاء الفاو وعند رجوعه توقف باص الخشب قرب مقهى(علي السيبة) فصعد رجل وبيده كيساً كبيراً نسبياً ومن الورق السميك، جلس الرجل إلى جانب الحارس والكيس في حجره، عرف الحارس محتويات الكيس من الرائحة التي إنتشرت في فضاء الباص وما إن شارفت السيارة للوصول إلى نقطة التفتيش عند رقبة جسر(أبو فلوس) حتى أنزل الرجل الكيسَ ووضعه بين رجليه ثم دفعه قليلاً فأصبح ملاصقاً قدم الحارس.. هنا لمعت الفكرة في ذهنه فما بين صمت الرجل وحركة عينيه الدائرية وهي تحدق بالكيس وإبتسامة بعض الركاب، حمل الحارس الكيس بين يديه وطلب من السائق التوقف عند الطريق المؤدي إلى(العامية) والذي يبعد عن نقطة التفتيش حوالي 50 متراً ، نزل وأخذ الطريق بين النخيل من دون أن يلتفت إلى الخلف. وبما إن نهر (أبو فلوس)، نهر متوسط الحجم، هادئ التيار بعمق قليل وضفتيه مسطحتين ولا تنتشر على جانبيه البيوت فقد إستطاع أن يعبره عوماً بعد ان تعرى تماماً ونزل إلى النهر غارفاً الماء بيد والأخرى إستقرت على ملابسه المكورة على رأسه وفي داخلها كنزه الثمين متذكراً جاره المسكين. ما أن خرج من النهر ونشف جسمه بلباسه الداخلي ووضعه إلى جانب الكتلة الملفوفة بإحكام ولبس ملابسه وألقى نظرة خاطفة على المكان إتجه صعوداً نحو الحقول ثم حث الخطى شمالاً عابراً الشارع العام حتى لاحت له بيوت قريته. جاءت الحرب فتفرق الشمل، وفي أحد أيام صيف 1981 وكانت الحرب العراقية الإيرانية في بدايتها، كان الجد جالساً مع قلة من اصدقاءه خارج البيت فسقطت (قمبرة) مدفع هاون عند الطريق العام وصلت منها شظية ولسعت خنصر قدمه اليسرى، عند المساء أحس بألم شديد في صدره ، فارق الحياة قبل وصوله للمستشفى.في نفس المساء ذهبنا إلى صديقه النجار كونه الوحيد من بين أصدقاءه يملك سيارة نقل صغيرة، كنا بحاجة لها لنقل معدات سردق الفاتحة فأعتذر مدعياً إنّ مفاتيح السيارة مع أبنه المسافر إلى كربلاء ولم يأت للفاتحة إلا في اليوم الثالث مع ضربة المس!! أما تاجر الجملة فلم يأت نهائياً لفاتحة صديقه ولما عاتبه (عمي جبار) أجابه: لقد قرأت الفاتحة على روحه في البيت ، ثم أني لا أحضر مجالس الفاتحة ولا دعوات الأعراس ولا الدعوات الإخوانية. بعد عدة سنوات عرفنا لماذا كان يصر الحارس على منعنا، فقد كانت معه مفاتيح مخازن التاجر وهو الذي كان يسهل عملية تهريب صناديق الشاي قبل أذان الفجر.