الحاكم الذي أراد أن يطفئ الشمس

2011-08-07

تذكر بعض كتب التاريخ القديمة، أنه لما تولى الامبراطورٌٍ قاهر ناس الخامسٌ تسيير شؤون البلاد اثر اغتيال والده الامبراطور ٌطاغوتياس الرابعٌ، دعا الى قاعة العرش معاونيه وأشار اليهم بأن في الأمر خطورة،تستلزم الجد والحزم، وابداء الرأي السديد للخروج بالبلاد من القلاقل والاضطرابات التي عمتها، والتي كان والده ضحية لها. لذا فالمطلوب أن يعصر كل واحد مخه ليأتيه بالنصح والسبيل اللذين بهما يمكن انقاذ البلاد.

كان الحاكم ٌقاهر ناس الخامسٌ يعتلي العرش في صدر القاعة العظمى، بينما أحاط به المستشارون والوزراء من كل جهة، يضطر معها الى الالتفات كلما توجه بالخطاب الى جهة اليمين أو جهة اليسار. و لما كان الأمر معقدا و شائكا، فقد التزم الحاضرون نوعا من الصمت جعل الامبراطور يرتاب ويحتار في تفسير الموقف، و لأنه أراد أن يظهر حزمه وشدته من أول وهلة بل من أول لقاء رسمي مع معاونيه، فقد قام مفارقا عرشه ليصرخ في وجههم و ينعتهم بالمقصرين وبالعدميين وينتهي بأن اغتيال والده الأعظم لم يكن سببه الا نقصان رجحان عقل معاوني وانعدام خبرتهم في تسيير شؤون الدولة والمواطنين.

ولما أحس المستشارون والوزراء بغضب امبراطورهم فقد أراد واحد منهم أن ينقذ الموقف ويظهر للحاكم بأن سكوتهم لم يكن الا للتفكير في أنسب الحلول وأكثر الآراء سدادا و صوابا. تنحنح الوزير، وقدم فروض الطاعة والولاء وطلب الاذن بالتكلم، ولما كان له ما شاء، انطلق من ذكر مناقب الحاكم وخصاله وأمجاده واستمر طويلا في انتقاء الكلمات المادحة مما اضطر الامبراطور الى أن يأمره بالدخول مباشرة في صلب الموضوع و تقديم آرائه بدون تطويل، لأن الوضع لا يحتمل ذلك الآن!
بلع المتكلم ريقه، واسترجع أنفاسه فقال:

يا مولاي ،أريد أن أقول ان ...... ان..... هناك نقصا في طعام رعاياك، و نقصا في فرص العمل، و نقصا في الدواء والأطباء و المستشفيات....و حين رأى الحاكم أن القائمة طويلة لامحالة احتقن وجهه الرهيف والرطب فصرخ مزمجرا في وجه المتحدث قائلا:

 أتنكر أفضال وأنعام والدي أيها الأبله؟ فالتفت جهة السياف وطلب بأن يقف أمامه الآن مجرّدا سيفه اللامع، ولما كان له ما أمر به طلب أن تضرب رقبة الوزير الناكر للجميل، والجاحد للأفضال والمكرمات التي تعلي العرش وتفيض في البلاد حيث يسبح فيها الشعب وينعم.
طارت رأس الوزير أمام الحاضرين، فعقدت ألسنتهم وجحظت أعينهم، وهم يتفرجون مكرهين على صاحبهم و هو ينتفض من شدة الألم كديك مذبوح، يخبط برجليه و \يديه،فتتطاير بقع الدم الناقع الحار الى كل جهات القاعة اللامعة جدا والمزخرفة جدا والعامرة جدا بكل النفائس والهدايا الثمينة التي كانت تأتي الى القصر من الملوك والأباطرة أصدقاء وأشقاء السلالة العريقة في الحكم وتسيير شؤون البلاد.
فهم كل واحد من الحاضرين الدرس ووصلتهم الرسالة من دماء صاحبهم ومن مصيره المشؤوم الذي انتهى اليه، وهو الذي كان قبل دقائق محدثا ومفكرا ومنقذا ومدبرا ومخططا، لكن هيهات خانه اللسان، ومن خانه اللسان لا حاجة له بأن يحمل رأسا، لا يدقق في الأمور ولا يعرف أن يؤخر الكلام حين يلزم تأخيره أو يقدمه حين يلزم تقديمه، و بما أنه كذلك فقد جنى على نفسه، ومن جنى على نفسه تكون نهايته على الصورة التي جرت. و كذلك كان، لقد حفظ الآخرون الدرس ووصلتهم الاشارة بكل ذكاء،فكانوا على أهبة أن يتكلموا جميعا لولا أن أشار اليهم الحاكم بأن يأخذوا الصفّ واحدا بعد الآخر.

تدافعوا ليتكلموا وتداخلت كلماتهم فأفسدت على الحاكم الاستماع الجيد وتمييز ما يقوله كل واحد منهم، مما جعله يشير على كل واحد منهم وينظم تدخلاتهم تباعا.
قال الأول: نزيد عدد الجيش والثكنات ونبرم الصفقات مع الجيران لاستيراد الأسلحة.
قال الثاني: وكذلك نوظف العاطلين في الجندية ليكونوا خدام العرش عوض أن يبقوا قنبلة موقوتة.
قال الثالث:لايجب أن ننسى الشرطة والدرك وأجهزة الاستخبار التي تنتشر في أسواق البلد .
قال الرابع: اجعل سيدي من يدك هذه الرؤوفة الحنونة قبضة من حديد ،و نصلا يمزق الأفئدة.
قال الخامس: نبني المدارس ونعلم الصغار طاعة الامبراطور والامبراطورة فيها.
قال السادس:لا، لم يقل شيئا لأنه لما همّ بفتح فمه، قاطعه الامبراطور مزمجرا ومزلزلا قاعة العرش، وجعل يصف معاونيه بأقبح الصفات وأحط النعوت،لأن لا أحد فيهم لحد الآن استطاع أن ينير له الطريق أو يرسمه على الأقل لسيادته.
تعب الحاكمٌ قاهر ناسٌ ، وزاد في تعبه احساسه بأن معاونيه ليسوا في مستوى طموحه، وفي مستوى ما يحلم به، وما يحمله في قلبه للشعب الذي يسوسه، والذي ورث قيادته من أجداده الذين يريد أن يختلف عنهم وأن يدخل التاريخ العريق لبلاده، بفرادة ابتكاره وألا يشبه في حكمه أحدا من سابقيه، وألا يترك للذين سيأتون من بعده، ما يمكن أن يحلموا به من فرادة و تميز .

اعتلى الامبراطور الواثق من نفسه جدا عرشه وبسط ذراعيه وتنفس عميقا، فأمر المحيطين به بأن يزدادو قربا منه وبأن يفتحوا آذانهم كثيرا، لأن الأمر خطير في الدولة ولا يمكن للخطورة أن تزول الا بأمر أخطر منها . فضرب لهم ذلك المثل المشهور الذي يقول:ٌلا يفلّ الحديد الاّ الحديدٌ.فأمر كل واحد منهم بأن يبرهن على كفاءته ومقدرته في الميدان الذي يعمل فيه فشرع يقول:

في بداية الأمر لابد أن أنطلق من لاشيئ.أعني أن تنطلق فترة حكمي من جديد، فشرح ذلك قائلا: أقصد أنني أريد ألاّ يكون لهذا اليوم، الذي هو يوم اعتلائي العرش أية صلة بالبارحة وهي آخر أيام حكم والدي المرحوم، لذلك آمر كل واحد منكم بأن يحرق الكتب القديمة وأن يقطع رؤوس السنابل في الحقول، وأن يقبض على العصافير و يجعلها في القفص، و أن يقتل الفراشات في الحدائق، وأن يدعك الأزهار والورود، وأن يقتلع الأشجار والأحجار .

أريد أن يبدأ التاريخ من اليوم، البارحة وأول البارحة، والسنة الماضية وما قبلها، كل ذلك مات مع والدي، ومن قبله .أنا الذي يوجد الآن .فالتاريخ أنا، وأنا التاريخ، حتى الأيام أريدها أن تبدأ من الآن، كذلك الساعات،لا، بل الدقائق، حتى الأعمار، العمر، اللذين يولدون اليوم، ويسجلون في سجلات الولادة هم شعبي، أما الآخرون فسأقبل أن يبقوا رعاياي رأفة ورحمة بهم، لما قدّموه من طاعة لوالدي الأعظم.
تناظر الحاضرون فيما بينهم، وصعقوا لثقل ما يؤمرون بتنفيذه من الآن، فتساءلوا في أنفسهم ماذا سيفعلون؟ وبماذا سيبدؤون؟ وفيما هم مذهولون، مصعوقون، غائبون وهم حاضرون، تقدم أحدهم الى الأمام و قال للحاكم: لكن سيدي، والذاكرة!، ماذا نفعل بذاكرة الذين طالتهم رحمتك ورأفت بهم ؟ هل نسرقها منهم ؟ ضحك الحاكم عميقا، ثم قال:أعرف أنكم أغبياء، لكن لا بأس، ليس هناك شيئ اسمه ذاكرة، ولو كان حقيقة لما تناسلت سلالتي على هذا العرش لزمن يفوق عمر الأرض.
انتبه كبيرهم سنا، المعروف لدى والد الامبراطور بالطاعة العمياء والخدمة المتواصلة للقصر وللذين يسكنونه،فأشار للحاكم الى جهة النافذة الواسعة المفتوحة على أرجاء الحديقة المزهرة فقال:
*و الشمس سيدي! ماذا نفعل بالشمس؟!!
قال الحاكم في سرعة متناهية وفي حالة يظهر عليها الوثوق المبالغ فيه:هي أيضا،أمامكم ساعة واحدة، لتأتوا بها مكبلة هنا أمامي، أريد أن يعمّ الظلام، ليعرف الناس أن هناك عهدا جديدا سيبدأ، بكتبه ،بعصافيره، بأشجاره، بفراشاته، بسنابله وحتى بشمسه.
وقد ذكرت كتب التاريخ القديمة أيضا أن الخدّام لمّا تسربلوا واحدا اثر الآخر يريدون انتزاع الشمس والاتيان بها، احترقوا جميعا وتفتتت أعضاؤهم وصارت غبارا تذروه الرياح،وتناقل الناس أن الامبراطور قد مات في عزلة وعذاب من سوء نومه الذي يستفيق أثناءه مذعورا لأنه كان يرى أشعة الشمس تهجم عليه وتسد منافذ الهواء وتحاصره، فيشعر باختناق رهيب وكذلك قضى آخر أيامه منذ تجرأ على الشمس.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved