اللعب

2011-08-15

1-اللعب:

في أول الأمر،بدأكل شئ باللعب، وفي آخر الأمر سينتهي كل شئ باللعب.خروجي الى العالم كان نتيجة اللعب.الوالدة بجانب الوالد تصفف غمرات القمح المحصود والمتهالك على الأرض. نظرت إليه،نظر إليها، فأخبرها بأن تحته يريدها.أجابته، أنه لن يكون له الغمس في قارورتها إلا بعد أن يعرق عليها. قالت له،عليك أن تقبض علي أولا، فأطلقت ساقيها لصهد الفضاء، وهي تتقافز فوق كومات القمح المحصود والمتهالك على الأرض. كانت تضحك وهي تراوغ محاولات القبض عليها. قطعا فدان القمح المتهالك ودخلا في فدان آخر لازالت سنابله واقفة،وهناك استطاعت اليد الممتدة إليها، والتي تحاول الامساك بها، أن تأخذها من حزام نصفها وتحد من انطلاقة جموحها و قفزها. رفعتها اليد المعروقة والصلبة الى فوق،ثم خبطتها على سيقان السنابل الصفراء و اليابسة، صرخت الوالدة: آح! إن الأرض تقرصني. ضحك الوالد في وجهها ثم رفع تنورتها وعصر حوضه في قارورة الوالدة، فجئت الى العالم، وكنت نتيجة لعب فقط.
ورغم أن اللعبة التي جئت نتيجة لها، تمت وسط غمرات القمح، وفي فضاء الشعير، و الذرة، ونوار الشمس، و أشجار الفواكه، وأحواض الخضراوات، فليس ذلك معناه أنني أنعم بالخيرات أو أنها تسد علي المنافذ، وليس علي إلا أن أمد اليد و أغرف، لقد عشت جوعا مطلقا، ابتدأبالخرقة السوداء التي لفتها حولي القابلة، وبموت الحمار الوحيد الذي يجلب فوقه الوالد الحطب من الغابة.
الوالد والوالدة كانا عاملين عند إقطاعي كبير، وتلك الغمرات، وتلك الأشجار المثمرة، وتلك الخضراوات كلها ملك له، والداي يرعيانها بالسقي، بالتشذيب، بإزالة الحشائش الضارة. فيأكل الاقطاعي كل شئ. أما هما فيكتفيان بالقبض على الريح و بكميات هائلة، وبإنجاب الأولاد عن طريقة اللعب في فدان القمح أو الشعير أو نوار الشمس، وفي مرات كثيرة تحت شجرة التفاح الكبيرة، فيملآن بهم الكوخ الصغير، ليحرس منهم الكبير الصغير، ولتطبخ منهم الكبيرة خليطا يحشون به أمعاءهم، وليكون الجميع في خدمة الاقطاعي الكبير، الذي له الأرض، وله الجرار والشاحنة وآلة الحصاد، وله الشجر، وله الماء، وكثير من الهواء يوزعه على من يشاء وله حتى الوالدين اللذين أنجباني.
استمر الوالد والوالدة في اللعب الذي ينجب الأبناء، الى أن امتلأ الكوخ وضاق تبنه وقصديره بمن فيه. وفي صباح يوم غائم جاء عندهما الاقطاعي الكبير راكبا بغلته الشهباء، فمارس عليهما لعبته، ذلك أنه أمر الجميع بالرحيل، وعلل ذلك بقلة صحة الوالدين وضعفهما،مما سبب كساد فلاحته، وقال بأن الأمور تدهورت، وبأن الوالدين تجاوزا سن الخدمة، وأن النسل الملعون لا يهتم بالعمل كما كانا يفعلان في سابق عهديهما عنده."إن جرادك يتلف أكثر مما يجمع ويصون. إنهم يضيعونني ويتلفون رزق أولادي. لم يعد لي مكان لتبقوا فيه،عليكم بالرحيل اليوم قبل الغد". لوى شكيمة البهيمة الشهباء فانطلق بين اشجار الفواكه التي كانت ثمارها معلقة، كما أصبح رزق الوالدين معلقا ابتداء من هذه اللحظة.
وصلني الخبر في قرية نائية أمارس فيها مهنة "معلم"بأن الحاج الغزواني، قد قطع عن الوالدين رزقهما، وأنا أيضا قطعت هذه الرسالة أوصالي، فاستحممت بعرق ساخن غسل جثتي الرخوة من فوق الى تحت. لم يكن أمر الطرد هو ما قطع أوصالي و دواخلي، لأن كل شئ يبدأ باللعب وينتهي باللعب، بل لأنني أحسست في المكان نفسه بأياد صغيرة وكبيرة ، رخوة و صلبة، تتدافع للامساك برقبتي، و أن دزينة من الخلق تمتطي ظهري، و تتسلق ظهر ورقة صفراء اسمها "الحوالة"لتجد فوقها مستقرا.
في بداية الأمر، فكرت أن أرفع هذه اللعبة التي حبكها الاقطاعي الكبير الى الدوائر المسؤولة، لكن بعضهم نصحني بالتريث الى حين أن ندخل في المسلسل الديمقراطي الذي سيسمح للجميع بتساوي حظوظه في اللعبة!
طويت ملف الفكرة في رأسي، و أعطيت عنقي للعبة التي يمارسها علي أصحاب "الحوالة"إذ بمجرد ما تصل الورقة الصفراء و أشرع في توزيعها على الخلق العظيم الذي يركب ظهري، فإن أشطرهم وأخفهم لا يظفر بقطعة بحجم أذن الفأر.

2-اللعب مكرّر

كانت الوالدة، لما تعتقد مع نفسها أن مزاجي قد هدأ و صفا، تخطو خطوتين أو أكثر، و تقتحم عالمي لتبلغني و صاياها التي لا تنسى أبدا،أنني يجب أن أستمع إليها وأهضمها لأعمل بها في حياتي،لأنني محتاج-حسب رأيها-الى سراج ينير طريقي، خصوصا وأن الوقت "حامي"وأولاد الحرام تعج بهم الدنيا.وقت لا يستطيع النجاة منه إلا سيدي ومولاي. ولما تعزم، وتضرب ألف حساب وحساب لردود أفعالي، تهجم على اللحظة الرائقة و الصافية، للامساك بها لئلا تفلت من بين أصابعها، لاسيما وأن مثل هذه اللحظات قليلة في حياتي كما تزعم دائما.
أول ما كانت تبدأ به الوالدة رحمها الله، وهو أن تطلب مني إن كنت أرغب في شرب الشاي تصنعه بيديها الحنونين و الرحيمين، وهو الشئ الذي كنت أفهم منه أنه ليس إلا مقدمة لسلسلة من النصائح والاستجوابات سوف تختار ميقاتها بالضبط أثناء جلسة الشاي. واثناء ذلك، تبحث الوالدة عن خيط تشعر في قرارة نفسها أنه كفيل بأن يشدني إليها أيُّما شدّ، و لن أخرج من الطوق إلا بعد أن تكون قد أنهت حديثها وأفرغت زوادتها فوق رأسي الغليظ كما تدعي دائما. و كان أول خيط طبعا هو المرأة!! و تبدأبالسؤال الصريح والثعلبي في نفس الآن، و تقول عند أية واحدة منهن قضيْت ليلتك البارحة؟! وهذا السؤال ولّده في نفسها أنني أغيب كثيرا من الليالي عن البيت. و تندهش لما أجيب، وهل غيابي يعني أنني كنتُ مع واحدة؟!-ما علينا تقول، وتمضي الى السؤال المجاور:"ومتى تنوي أن تتزوج و تبني الدار؟! أقول لها، هذا في علم الغيب والحكومة المغربية! و تضرب كفا بكف، و تعلن على أنه آن الأوان أن أستمع الى الصح والمعقول، الذي ستقوله.فهي أمي، و أمي تبغي مصلحتي وصلاحي، وهي أكبر مني سنا، وأنا ابنها الصغير، آخر المصران، وعلي تعول في شراء" الجلابة و الشربيل"،بينما أنا فلوسي تمشي مع النساء والكأس. فهذا طبعا شئ حرام، لايقبله لا الله ولا العبد، فأنا هو المستقبل، فمن سيحمل هذا الحمل الذي هو أربعة إخوان وأختان وأب متقاعد، أكلت الدولة عينيْْْْه ، فرمته إلينا بلا ضوء، نمشي به في الشارع، ونقوده الى المرحاض، و نقوده من غرفة الى غرفة اخرى،أعطيناه للدولة هيكلا ضخما كالبغل، يحرس ضيعة لوزارة الفلاحة، و أعادوه إلينا جثة فاقدة لنور العينين. فالخمر حرام، و النساء يسلبن العقل، ويلعبن على أولاد عباد الله، خصوصا أنني صغير،  و لي مرتب شهري قار.فمن السهل أن تطمع في واحدة من بنات الليل وتنقض علي، و تأخذني الى مالا تعلمه الوالدة أو كانت تتوقعه حتى، و لضرب الأمثلة، كثيرا ما كانت تسرد علي لائحة أبناء الجيران أو أبناء الاعمام و الاخوال الذين كانوا لا شئ، و أصبحوا كل شئ، وأكثر من هذا، إنهم جاؤوا الى الوظيفة من بعدي، وها قد صاروا. وها قد فعلوا كذا، و فعلوا كذا و أنا لم أفعل في أيامي أي شئ.
تقول دائما: تصور أنك منذ الغد أصبحت مريضا في الفراش، فمن سيحملك، أأنا العجوز؟ أم أبوك الجثة؟ أم إخوتك الذين لا يعرفون ما يقدمون أو يؤخرون!؟ تقول هذا لأنني الوحيد من بين اخوتي الذي دخل الى المدرسة، ولما تحس أن مفعول كلامها قد سرى الى دواخلي، و تعتقد أنها نفذت الى النقطة التي كانت تبحث عنها فيّ منذ أعوام، دون أن تظفر بالقبض عليها، تغيّر اللهجة والصيغة،فتشرع في طرح الأسئلة التي تطلب مني فيها أن أبرم معها عقدا من الشرف، لوضع حدّ لحياتي البوهيمية، التي ستؤدي بي الى قاع الهاوية، فأفقد كل شئ، و كانت تسأل مثلا و تقول: قل لي متى نذهب لنرى بنت فلان الفلاني؟! متى تتفق معي على قدر معين تعطيه لنا من الحوالة في آخر كل شهر؟! متى تشتري لنا التلفزيون الملون؟!
والثلاجة ؟ و البوطاغاز؟ و الكوكوت؟ والفراش؟ متى تأخذني وأباك لنزورحامة " مولاي يعقوب" لتسخين عظامنا بمائها الكبريتي؟إلخ...  ولأنني كنت كثعلب" محمد زفزاف"، أعرف متى أظهر، و ومتى أختفي، ومتى أهجم، ومتى أتراجع الى ان تمر الزوبعة، فقد كنت أغطس تحت ذبذبات صوتها واتركها تمر دون ان تجد طريقا الى أذني، ولما ترى انها و صلت الى المبتغى وتريد ان تجر الخيط حول عنقي ليضيق، كنت اجعل يدي في التراب واقفز خارجا تاركا لها صوتي الذي يردد، كل هذا سيحصل، لكن لما تنزل الحكومة الى الحوار...لما تنزل الحكومة....لما تنزل... لما... فأحس بنسمات الدرب الضيق كأحوالي تلفني، فأفتح صدري للهواء، لأعب منه ما يكفي لمواجهة هذا الخنق وهذا الزمت، لقد كنت أعرف أن الوالدة طيبة، وأنها حقا تحبني،لذلك،كنت أغفر لها كل هذا،و لم أكن أقول لها أف، و لم اكن أنهرها، وهي التي لا تعلم، ومن أين لها أن تعلم؟! فالوطن لم يعلمها إلا أن تكون أرضا يحرثها رجل أنّى شاء، الى أن ماتت بنزيف بعد ولادة عسيرة في قرية مظلمة، في غياب مستوصف وطبيب أو حتى سيارة تنقلها بسرعة عسى ان تجد من ينقذها من مخالب الموت. صارعت الموت لأكثر من ثمان ساعات، تصايح خلالها الاخوان، وهبوا متفرقين لاعلام الجيران لعلهم يفعلون شيئا.أثناء ذلك كان الوالد يمسك بيدها و يقول:لا تتركي لي الاولاد وحدي يا مولودة. أين ضوء العينين لأقودهم حتى يكبرون يا مولودة،عفاك لا تموتي.اصبري ولكن مولودة ماتت، وضاع رجاء الوالد فيها، كما ضاعت محاولات الجيران في طبخ الأعشاب، وها هي أعوام قد مضت، فمن أين للوالدة أن تعلم أنني لازالت أنا هو أنا، و ابن عمي الدركي قد اصبح كل شئ، فهو الآن يملك منزلا،سيارة، أراضي شاسعة و رصيدا تنفخه عشرات الدراهم التي يعرف كل واحد مصدرها، ذات يوم وأنا أزوره في المنزل، و كأنه يسر لي بشئ لا أعلمه، قال "كل هذا من جيوب الناس، و أشار علي أن أعتني بحالي لأن ما يراني عليه لا يليق تماما بمكانة "أستاذ"-و شكرته على اهتمامه، ولعنت في نفسي كل الناس، و كل شئ، وقلت هؤلاء يتقنون النصيحة، كما يتقنون الابتزاز.
فمن أين لهذا الوطن أن يعلم أنني سبقت ابن عمي في الوظيفة بعشرة أعوام، ومن أين له أن يعلم -و أعرف أنه يعلم -أنني لازلت كما بدأت، وربما أرحل كما بدأت، وآنذاك له ألف لعنة ولعنة الى يوم نلتقي أمام الميزان العظيم.


ادريس أنفراص

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved