تأملات في"أبدو ذكية" للكاتبة الإماراتية مريم الساعدي

2011-09-01

هذه قراءة عاشقة لمجموعة "أبدو ذكية" للقاصة الاماراتية مريم الساعدي. القراءة لمريم الساعدي،فرصة لاكتشاف عالم حقيقي نستطيع أن نتلمسه ونحس بتفاصيله تخترق تفاصيل حياتنا، فالكتابة عندها ليست ترفا فكريا أو عرضا صاخبا للغة و جماليتها، و ليست تحديا لما يمكن أن يكتبه آخرون، بل هي ابتلاء جميل لا يملك من ابتلي به إلا أن يستسلم له، ليرتقي معارج صعوده إليه.

سأحاول من خلال هذه القراءة تتبع شخوص قصص مريم الساعدي وتتبع منطقها في التعامل مع هذه الشخوص، منبها إلى أن تتبع مختلف مستويات هذه المجموعة القصصية وتحليلها للخروج بقراءة متكاملة، أمر يتطلب وقتا أكبر وصفحات أكثر، ثم إن التركيز على مضمون القصص ورسائلها الظاهرة والمضمرة مرجعه غلبة هذا البعد وهيمنته على باقي الأبعاد اللغوية والفنية، ثم إنه والحق يقال لم أرد أن أفسد متعتي و لذة حيرتي بأمور تقنية، لها أهلها من عشاق الدرس اللغوي "أبدو ذكية"، لكن أمام من؟ أمام نفسها؟أي أنها ترى نفسها ذكية؟أما تبدو ذكية أمام الآخرين؟ و يمكن أن تكون بخلاف ذلك،فهي فقط"تبدو"و ليست ذكية بالفعل، لا أحد يستطيع أن يجزم،المهم أنها تبدو ذكية، والأهم أن هذا العنوان بوابة صادقة لما تحتويه المجموعة القصصية، ليس لأن القصص تؤكد أو تنفي ما يقرره، بل لأنه يقدم لنا صورة عن إنسانة تتأمل ذاتها وتعرضها للتساؤل، فكل قصة من هذه المجموعة إحتفاء بالذات وتلمس عميق وذكي لجانب من جوانب معاناتها كذات إنسانية في قصص مريم الساعدي، تحضر الذات،لا ليغيب المجتمع بل لتحرره من خرافاته و بعض مسلماته التي تغتال الإنسان، والإنسان هنا إنسان بألف ولام العهد، يمكن أن يكون إماراتيا، مصريا ،إفريقيا،هنديا...

فعندما يدرك الإنسان ذاتيته كإنسان لا يمكن إلا أن يحس بالحاجة للآخر، الذي ليس بدوره إلا ذاتا إنسانية أخرى، فيأمل في صداقته وحبه، وينتظر نجدته عندما تزل به قدماه في غمرة الحياة وانكساراتها، كما ينتظر منه أن يشاركه لحظات فرحه وسروره، فربما كانت ابتسامة الآخر أو دموعه أكثر تعبيرا عما يحل به و يعتريه من ضحكه أو بكائه هو، تتعاقب عليه كل المشاعر والأحاسيس، لكن عندما يتأمل الحياة سيجد نفسه لا يبحث إلا عن ذاته، فهي أصل الحكاية عند مريم الساعدي، ولأنها تبحث عن ما هو عميق وحقيقي، فهي تهدي مجموعتها لمن يبصرون بقلوبهم، فيبدو أنها لا تخاطب إلا هؤلاء، وهل يمكن أن يفهم ما تكتبه غيرهم؟!

 ليلة شتوية جميلة في أبو ظبي:عندما يكتب أحدهم عن أبو ظبي غالبا ما يتحدث عن القيظ و الحر،فهذا حال الأغلب من أيام و ليالي الصحراء، إلا أن مريم الساعدي لا تتحدث عن الغالب و الأغلب، بل عن الأقرب و الأجمل وعما تستشعره الذات وتتذكره بشوق وحب، ولأن ليالي الشتاء المعتدلة أو المعتدلة البرودة أو الباردة باعتدال، تمثل نعيم القارة الظبيانية، فالحب لن تحمله أيضا إلا هذه الليالي، فنعيم الذات من نعيم أبو ظبي، المدينة التي يمكن أن تكون رسولا سماويا، وكيف لا تكون كذلك وقد جاءتها باليقين، هي التي لم تكن تبحث إلا عما يؤكد إيمانها، فهل الحب في المدائن الظبيانية مجرد فكرة نؤمن بها، وأن أقصى ما يمكن أن يأمله المحبون أن يصطدموا بما يؤكد لهم هذا الإيمان؟! فيصبح نومهم الزاخر عشقا أكثر متعة.

لطيفة راشد أو الحنان المسكوب على النملات في الشارع: اللطف والرشد والحنان، صفات تبدو مثالية لامرأة تحلم بالحب وتكوين أسرة ورعاية زوج ستغرقه بلطفها وحنانها، و ستحسن تدبير أمورها، بما جبلت عليه من قناعة ورضا، إلا أن الشخص الوحيد الذي أحبها رحل بعد ثلاثة أشهر من عقد قرانها به في حادثة، ورحل معه كل أمل في حب جديد، و من يتجرأ على مواجهة خرافة الشؤم التي أصبحت تلاحقها؟

شخصية أخرى تصطدم بالحب فيغادرها فجأة كما جاء، لكن هذه المرة بألم وحسرة، فليست ليالي الشتاء الجميلة من جاءت به، بل سنوات الجوار والانتظار والأمل، فلطيفة راشد لم تكن تبحث عن مجرد من يؤكد صدق إيمانها بوجود الحب، بل كانت تبحث عن رجل حقيقي يشاركها حياتها، رجل أعدت له من اللطف و الحنان والرشد الكثير، فلما غادرها و يئست من العثور على آخر تمنحه كل مدخراتها من الحنان، أغدقت به على النمل، فأحست بهم وبمعاناتهم، احتضنت الفلسفة ولاذت بالقراءة والرسم، أتراها كانت تحاول الهروب من فشلها في الحياة الواقعية أو تبحث عن معنى جديد لحياتها؟ ثم يكثر صمتها وتدوم ابتسامتها، وتفقد الإحساس بجسدها، فآلام الروح تحجب آلامه، فتهتم لحال نملة أكثر من اهتمامها بآلام جسدها، هل الحب عند مريم الساعدي مجرد حادث عابر في حياة شخصياتها المتعبة بالانتظار؟

بقعة زيت: تقدم لنا مريم الساعدي في هذه القصة نموذجا حيا لواقع معيشة العمال الهنود بدول الخليج العربي، وهو هنا ليس مجرد "آخر"من بلاد أخرى بعيدة، عليه أن يحمد الأقدار التي رمت به لبلاد النفط، وعليه يقدم كل القرابين الممكنة وغير الممكنة حتى لا ترمي به خارجا بلا رحمة.

تقدم إلينا مريم العامل الهندي الإنسان، الذي يتقاطع في معاناته مع آلاف العمال الهنود، إلا أنها تحاول إختراق تفاصيل حياته، التفاصيل التي لا قيمة لها في نظر النفط و الغاز، إنه فخور بنفسه ككثير من الرجال الناجحين في حياتهم، له زوجة فخورة به ككثير أو قليل من النساء المحبات والسعيدات مع أزواجهن، وتراه أمه ولدا حكيما تتنبأ له بمستقبل زاهر ككثير أو قليل من الأمهات المؤمنات بقدرات فلذات أكبادهن, في تفاصيل حياة العامل الهندي، تقدم لنا مريم الساعدي مثال حيا للبؤس والعبث اللذان يجعلان الإنسان محكوما بتوافه الأمو، و هل هناك أتفه من أن تحدد بقعة شاي مصيره؟و كلما ازداد الخوف من بقعة واحدة، إلا وصارت البقع بقعا تتآمر عليه وتملأ قلبه لزوجة بعدما عاثت في حياته فسادا، إنه الجبل السيزيفي الذي ينتظر كل المنتظرين في طابور الرحلة الرابطة بين القارة الهندية والقارة النفطية، إلا أن هذا الجبل له آلهة أخرى غير آلهة"الأولمب، إنها آلهة النفط والغاز،آلهة الزيت التي تعبث بقعها بأقدار العمال الهنود، ومن كان هذه حاله لا يمكن إلا أن ينتظر سقوطه و طرده من جنة الزيت، سقوط يتجاوز منطق الشؤم والنحس الذي يرمز إليه الرقم"13"، إلا إذا فهمنا أن هذا النحس صار قدرا يتربص بهم.

 فراغ عاطفي: يمكن للإنسان أن يعيش حياته في طمأنينة رغم كل معاناته، ما دام لائذا بوحدته، سيجد له جدارا يشعره بالأمان و الحب، ويغذي روحه الجائعة بكل الأحاسيس التي تشعره براح الاكتفاء، لكن أسوأ ما يمكن أن يقع أن يلتقي بمن يذكره بغربته، الآخر الذي يرى فيه وعبره عمق مأساته الإنسانية، ألم يقل سارتر"الجحيم هو الآخر"،و كيف لا يكون جحيما و هو يعريه،يزلزله و يحطم جدران اليقين الذي يأويه.هذا كان حال بطل قصة"فراغ عاطفي" مع صديقه منصور،فبعد عشرين سنة من البحث عن الذات،دون أن يحقق شيئا أو أن يطمأن لشيء،لا زوجة و لا ماجستير،يلتقيه رفقة ابنه خالد،فيكتشف عبر لقاءه هذا ما ضيعه من سنين عمره،فكم في العمر من عشرين سنة؟مدة كافية ليخلد فيها منصور ذكره و يضمن لها امتدادا جسديا في الحاضر و المستقبل عبر ابنه.كان يبدو لبطل قصتنا أن العمر يمضي،لكن لما التقى منصور تأكد له أن العمر يمضي فعلا،لكن ماذا بوسعه أن يعمل حيال هذه الحقيقة الصادمة؟ مريم الساعدي تقرر مرة أخرى أن يلوذ بطلها بيقينه،بجداره الذي يلملم شتاته،كما لاذت لطيفة راشد بجماعات النمل تغدق عليها من حنانها،و لاذت من تنتظر حب الليالي الشتوية الباردة باعتدال بيقينها مادام يؤمن لها نوما ممتعا.فهل هذا قدر يلاحق شخصيات الساعدي؟يوميات إنسان كادح ووحيد و مليء بالشجن:تقدم لنا الساعدي من خلال هذه القصة،سيزيفا آخر ينوء بأحماله، روتين الحياة ،كدرها،رتابتها و مسؤولياتها المهنية و الأسرية،أحمال حجبت عنه حتى الاستمتاع بقصص أطفاله الصغار،كان يأمل أن يفعل ذلك في الغد،الغد الذي يتأجل كل يوم..بطل قصتنا تزوج و أنجب أطفالا و يبدو أنه ناجح في عمله أو على الأقل جدي فيه،فساعات اليوم الأربع و العشرين لا تكفيه،و يبدو أيضا أنه ناجح في زواجه،فأطفاله ينتظرونه بشوق و زوجته تسأل عن أحوال بلهفة،لكن رغم ذلك فهو حزين،فلا يجد بدا من الهروب إلى البحر حيث يشعر بآدميته فيعلن باستقالته عن تحرره من أسر الوظيفة ليولد جنينا خرج للتو من رحم أمه،و يتكرر التساؤل عن هذا القدر الذي يلاحق شخوص مريم الساعدي.قصة حزينة عند إشارة مرور حمراء:بطل آخر من أبطال مريم الساعدي يلوذ بجداره، يجعل من بيع مستحضرات التجميل فنا،يخترع نظرية خاصة به ليستمر في التنفس، فكر في الانتحار،عاش سلسلة تجارب فاشلة في مهن متعددة،حاول أن يواجهها بأمل أمريكي قبل أن يسقط صريع يأسه العربي،فلم ينفعه تجمله في تجاوز أحزان و كآبات سنينه التسع و العشرين،لكن حلما بسيطا استطاع أن يشعره بالسعادة،حلم أن تتحول الإشارة الحمراء إلى خضراء،حلم يومي يولد سعادة تحقق أمل طال انتظاره،ما أضأله من حلم،و ما أذله من سقوطالجديد في هذه القصة أن مريم الساعدي لم تترك قدر بطلها دون تعليق،فقد وصفته الوصف الدقيق الذي يستحق"قمة السقوط" و هو ما لم تفعله بالنسبة لشخوص قصصها السابقةو يتجدد السؤال،هل قدر الإنسان أن يحيا لاهثا وراء أحلامه،و ينتهي لائذا بأوهامه؟!عن الرحلة و أهوالها:نبحث عن الحب فتنأى بنا سبله بعيدا عنه،نتطرف في تحليل تفاصيله بحثا عن الحب الأكمل و الأمثل،الحب الدائم الذي لا يمحي أثره،فنفقد في رحلة بحثنها تلك أحبة كثرا،تتباين و تتنوع أسباب فقدهم لكن الأكيد أننا نفقدهم،و هذا كان حال بطلة هذه القصة، فقد خسرت سيفا و سعدا لأنها اكتشفت معهما أن للحب عمرا افتراضيا،وخسرت ناصر لأنها اختارت الصمت حتى تستمتع بما تحسه اتجاهه من جميل الأحاسيس،لم تنفعها جلسات طبيب نفساني تهرب منها خوفا من السقوط في حبها كما سقطت في حبه،لم ينفعها غير إغلاق قلبها،رغم أنها لم تكن لتتردد في فتحه لو كان في الأمر أمل، فاستمرت في انتظار من يخلق داخلها ذلك الشعور الجميل و يبقيه حيا بعد تصريحها به،ثم بعد رحلة البحث الطويلة و المضنية وجدته،فأسعدها أن حبها بقي حيا بعد تصريحها به،لكن الحبيب اختفى لأنه أراد فتاة شابة،لم تنتبه إلى أن سنين البحث تأكل من عمرها و تغيرها.سقوط مهول و اكتشاف مفزع و مأساوي،يحطم كل جدران الأمان،كأن مريم الساعدي أرادت من خلال هذه القصة أن تزيد من مأساة شخوصها،فإن كان تبقي لأبطال القصص السابقة،أوهاما يعوضون بها خساراتهم،فإنها في هذه القصة ترمي بها من قمة الجبل،في سقوط مهول أشد من أهوال رحلة الصعود.مريم في السطوح:عندما تسود الضحالة العالم من حولنا،و تتحول إلى شرط للجمال،فالمناطق الضحلة هي الأكثر جمالا و رونقا بنباتاتها،و المناظر الزائفة جميلة بل و حبلى بالأمل،فهل هناك أجمل من رؤية نبع ماء يتراءى للظمآن في قلب صحراء قائضة؟و هل له حينئذ من أمل في الحياة أفضل من ذلك؟اقتران الضحالة بجمال الطبيعة أمر تفرضه الأحاسيس،سواء كانت صادقة كرؤية وردة جميلة أو كانت كاذبة كرؤية سراب،لكن ما سر ارتباط الجمال الإنسانية بالضحالة؟بكل ما تمثله من سطحية و تفاهة و انبطاح،ربما تكون الطريق الأسهل و الأقرب للعقول البسيطة و القانعة و الراضية و للقلوب الفارغة و المستعدة لاحتضان أي شعور و لو واهم بالحب،لكن العقول المسكونة بالتفكير و القلوب التواقة لعشق حقيقي،لا يمكن إلا أن تضحك من كل ما هو سطحي و بمرارة،و ربما الشيء الوحيد الجميل في السطحية و الضحالة،أنها تجعلنا نضحك،فأكثر الأفلام سطحية تضحكنا و أكثر الواقف انبطاحا تضحكنا،و كلما رأينا أناسا تافهين يتسابقون من أجل الوصول إلى أسوء مدارك السطحية نضحك ملأ الأفواه و امتداد الأجساد. جدي الذي مات:عندما نجيب بعفوية تصدر منا أجوبة غير منتظرة و ربما صادمة،لكن هل من المفروض أن تكون ردودنا موحدة؟! و ردات أفعالنا صورة طبق الأصل لردات فعل الآخرين؟! أين هي ذاتية الإنسان؟أين هي أصالة مشاعره مهما بدت غريبة؟ألا يمكن أن تكون هي الأصدق و الأكثر تعبيرا عن واقع الحال؟جدها مات،فانضافت إلى المنزل غرفة خالية، و نقصت من زيارات العيد واحدة،و ستتأخر عن المراسيم لأن لها عملا يشغلها،لكن الأمر المحزن أنها لن تسطيع أن تعطيه زيت ألم المفاصل الذي وعدته به.تذكرت و أنا أقرأ هذه القصة رواية "الغريب" لألبير كامي،خصوصا ما يتعلق فيها بتعامله مع وفاة والدته،ربما نكره غريب كامي و نشمئز منه،كما يمكن أن تستفزنا لامبالاة بطلة، قصة مريم الساعدي، المهتمة فقط بزيت المفاصل من بين كل التفاصيل الأخرى المحزنة،لكن منذ البداية قلت بأنها تكتب عن الغالب و الأغلب بل عن تفاصيل مشاعر الذات و تناقضاتها،ففي هذه القصة أيضا يبرز الاحتفاء بفردية الإنسان و ذاتية،الذاتية العصية عن التنميط و التعليب.رجل جميل في رحلة طويلة:قدر شخوص الساعدي أن يبددوا سنوات عمرهم بحثا عن أحلام بسيطة لكن عصية عن التحقق، رجل إفريقي أسود،ينضم لقافلة المرتحلين بحثا عن أحلامهم البسيطة،المتعبين بما يحملونه من سنين التعب و الإنكسارات،حتى لم يعد لهم الوقت لفعل أي شيء خصوصا لو كان مشروعا إنسانيا عملاقا،يحس أنه أضاع سنوات عمره دون أن يحقق ما تمنى تحقيقه،فلم يحصل على دكتوراه،و لم يتملك بيتا محاطا بأشجار كثيرة،و لم يقتني لا ولاعة رونسون و لا نظارة بيرسول و لا مروحة كهربائية،التي ترك من أجلها بلده.لا يملك المرء إلا أن ينفجر باكيا من بؤسه،الذي يختزل بؤس الكثيرين ممن هجروا أوطانهم من أجل أمور تافهة،أو ينفجر ضاحكا عساه يتحمل هذا الوجود المثقل بالعبث و اللاجدوى،أما بطلنا الإفريقي فلم يستطع أن يتحمل إحباطا ته فسقط مغشيا عليه،لكن هناك أمل دائم،فهدية من أحدهم ربما حملت له كل ما تمناه طول عمره أو أكثر ما تمنى،لكن أي أمل هذا؟!أليس مجرد أمل واهم يسعد به الإنسان نفسه حتى لا يموت كمدا وحسرة،و حتى يصبح و جوده أكثر تحملا؟أشياء كثيرة صغيرة متخرخشة و تزعجني:و هل يزعجنا و يفسد علينا حياتنا غير أشياء صغيرة،تدخل مسام حياتنا فتسممها،من قواعد التصرف الاجتماعية،التي تفرض علينا حتى نوعية المشاعر التي ينبغي أن نحس بها في مواقف معينة،و تسريحة الشعر اللائقة و أسلوب اللباس المقبول،إلى العادات التي أصبحت تخترق حياتنا كحمل حقيبة يدوية بالنسبة للنساء خصوصا،أو الانخراط الدائم في طوابير الانتظار،أو التصرف بأناة و مواجهة أسوء المواقف بابتسامة ولو مصطنعة ضمانا لنجاح مهني.أثقال ينوء بحملها الإنسان السيزيفي بامتياز،لكن مريم الساعدي تحرره في هذه القصة بانتفاضة ضد كل هذه العادات السخيفة،خصوصا المرأة السيزيف،فتمشي بيدين حرتين،لربما بدأت رحلة الحرية من تحرير اليدين أولا؟عندما تحولت إلى مخلوق فضائي:بعدما حكمت مريم الساعدي،في قصتها" عن الرحلة و أهوالها"،على سيزيفها بذلك السقوط المريع،فبعد رحلة شاقة و متعبة،نجدها هنا تتمادى في كشفه أمام ذاته،كائنا لا يقوى على الوقوف بعدما فقد كل مستند يسنده أو ملاذ يلوذ به ،لكنه هنا لن يبكي و لن يلوذ بالنوم ليستمع بأحلام بديلة،بل سيتحرر من أعبائه الجسدية و من تعلقه بالحاجة لمن يسنده،سيترك قياد نفسه لقلبه،يقوده و يرشده و ينطق بدلا عنه. عندما تسلم القلب القيادة أصبح الدرب منيرا، مخضرا و بهيجا، فانتقلت البهجة إلى الجسد فعمه الفرح و السرور،و تزين بأجمل لباس و أبهاه،عندئذ تأملت الذات نفسها فرأتها جميلة جدا،فسارت غير خائفة من الرقباء و الأوصياء.أبدو ذكية:يتأمل الإنسان ذاته،فيبدوا له جمالها و ذكاءها،وربما بدا له ضياعها،خصوصا عندما يضيق الجسد عن استيعاب الروح،فتتعب و تتألم،فيحس ببعض الراحة عندما ينام،لأن الروح تتحرر في نوم الجسد من إكراها ته،و ينتظر الراحة الكبرى بفناء الجسد كلية بالموت.مؤلم أن يضيق الإنسان بجسده،كما لو لم يكن جسده،فيقضي عمره يقدمه بالشكل اللائق و يتحمل تصنيفات الآخرين له،من أعطاهم الحق في ذلك؟هل نجاح الإنسان في الحياة رهين بمدى قدرة الروح على الانصياع للجسد و قوانينه الجسدية و الاجتماعية؟و لما لا يكون العكس أن ينصاع الجسد للروح،فيكون الإنسان هو هو، و ليس مجرد كائن يلبس لباسا غريبا عنه،آه لو استطاعت أرواحنا المعذبة لغادرت أجسادها منذ أمد بعيد!في سبيل الرواية:عزل منفرد:منطقة الريح:هل هي كذلك بأنوائها أم لأن الريح من أوصلنا إليها؟ريح القدر المعاند و المصر على تمزيقنا بين أحلامنا التي نتسابق لتحقيقها و عمرنا الذي يستهلكه هذا التسابق،لماذا علينا أن نختار أصلا ؟و كيف يمكن أن نختار؟ما قيمة العمر بلا حلم حققناه؟! و ما جدوى الحلم،حتى في حال تحققه،إن لم يبقى لنا من العمر ما يكفي للاستمتاع به,إشكالية التوفيق بين آفاق الحلم و إكراهات سنين العمر المستهلكة،حمل آخر ينوء بحمله الإنسان،حمل اختزلت فيه مريم الساعدي معاناة شخوصها في القصص السابقة،فمنهم من أنفق عمره من أجل حلم، فما كاد يمسك به حتى وجده محض سراب فانكفأ على نفسه لائذا بجداره أمانه،أو بنوم تحيى فيه أحلامه،و من هم من أمسك به لكن أنفلت من بين يديه لأن العمر قد غير فيه عميقا،فلم يعد بجمال أحلامه.لكن ما العمل؟عليك أن تختار،و بمعنى أكثر تدقيقا،عليك أن تدخل مغامرة الاختيار،بلا ضمانات،هكذا تأكد الساعدي،منسجمة مع اختيارها،إنها تعري و تكشف شخوصها أمام مأساة وجودهم،لا أمان إلا لمن آمن به،لكن ربما حوّل الخيميائي التراب إلى ذهب،لكن لا سبيل للأمان في منطقة الريح،لا وطن في منطق القدر.سأكتب رواية..سأتسلق إلي:خيار صعب و مؤلم آخر،أن تختار بين تفكير يكشفك أمام نفسك فتراك خاويا فتخجل منك،و بين التوقف عن التفكير فتنضم لقطعان اللاهثين جريا دون جدوىلكن لماذا الخوف من تأمل ذاتك،لتجدك خاويا ،أين المشكلة؟!أليس من الممكن أن تغير قدرك،كذلك يقول علم تطوير الذات،تخبرنا الساعدي،و أضيف :بذلك صدح سارتر عندما دعى الإنسان المقيد بالمسلمات و المثقل بالسياقات،إلى بلورة مشروعه الوجودي المستقل عن كل الماهيات المسبقة.هذا أمر يدعو إلى التفاؤل،لكن و آه من لكن تلك في ثقافة القضاء و القدر،المسألة ليست مسألة ثقل دماغ و بطأ استيعاب يا مريم،إذ ماذا سيبقى للإنسان من فاعلية إن كانت تفاصيل حياته مؤثقة مسبقا في لوح محفوظ بعناية,كيف تغيرين قدرك و شرط وجودك الأنثوي يحاصرك،فما أنت إلا ما تم تقريره لك من طرف المتقدمين و المتأخرين،لن يهتم أي منهم بشؤونك ليتركك تختارين و تقررين وربما تفرحين،لسبب بسيط هو انك من شؤونهم،و لأن تدبير شأنك و شؤونهم مقررة سلفا،فلن يجر عليك قرارك المستقل إلا الحرمان في الحال و المآل،و كل عواطفك الجياشة و عواطفهم مجرد ممرات لطيفة و مهذبة ليهجر كل منكم ذاته،و ليس فقط لتهجري أناك من أجل(هم)،لكن رغم الأغلال المشتركة لبني سيزيف،إلا أن للأنثى قيودا أشد إيلاما لأنها تمتد لجسدها،فكيف لها أن تقرر و القيد يحاصر الروح و الجسد؟الأنثى عند الساعدي مثقلة بحمل الانتماء لجنسها،لكن من محاسن انتماء المرأة لمجتمع يقيد حركتها و يلزمها بالتواجد في الأماكن المغلقة،أنه يمنحها المجال و ربما الأفضلية لتكتب الرواية؟أليس هذا ما يبرر ولو جزئيا الزخم التي يعرفه الأدب النسائي بالخليج العربي؟أتساءل.كانت مريم الساعدي صادقة في تحليل رغبتها في الرواية،فلم تتردد في التصريح بجبنها و عجزها عن مواجهة قوى المحافظة بشكل سافر و معلن،فاختارت الرواية لتكون الحياة أكثر تقبلا و مغادرتها أقل إحساسا بالعبث و اللاجدوى،على الأقل ستسجل موقفا و لو مواربا،لكن ماذا ستواجهين؟و من ستواجهين و لو قررت ذلك؟!بوحك سيكون مدويا و جميلا ،لكن حضورك أجمل من أي غياب،حضورك المنساب لطيفا بين ثنايانا أجمل من أي ضجيج حتى لو كان موسوما برسم الشجاعة.الكتابة رحلة متعبة،ابتلاء مضني،يبعدك عن الذين تكتب لهم و من أجلهم،و ربما أساؤوا فهمك،لكنك فعلا ستنقذ ما بقي من أمل فيك،فما على من رمت به الأقدار في بحر لجي و عتي،إلا أن يصارع موجه و ينظر بعين الأمل في الأفق،و يبتسم للسمك و بقايا الأشلاء حوله،و ليحادثهم،لربما أنقذ روحه أو ما تبقى من روحه على الأقلأضع الكتاب جانبا:تذكرت و أنا أقرأ هذه الشذرات،مقالة"في العبودية المختارة" ل Étienne de La Boétie،أي عندما يساهم الإنسان الفرد و الإنسان الجمعي في شكل شعب أو شعوب،في صناعة مجد سيده و تسيده عليه،و هو نفس ما اكتشفته مريم الساعدي من خلال قرائتها لكتاب التاريخ الجميم للانسانية لتيودور زيلدن،فالخوف أقوى من الرغبة في الحرية،لكن هل زوال النظام العبودي مكن الإنسان من التحرر من الاستعباد والوصاية؟ لم يتحرر الإنسان بل خرج من عبودية تقننها صكوك ملكية الأفراد إلى عبوديات تتناسل بتناسل الصكوك التي تؤطرها،من وثيقة الميلاد إلى عقد الزواج مرورا بالشهادات التعلمية و الجامعية,عبوديات مستترة تجعل العبد المملوك يبدو أكثر حرية لأنه يعي حقيقة واقعه العبودي،أما أولئك العاجزين حتى عن الإدراك و امتلاك رأي فهم محض تافهين يمتلأ بهم وطن مريم الساعدي الكبيرحقائق و أفكار كئيبة و بئيسة تفسد مزاج الساعدي،و تفقدها كل مزاج للقراءة،لكن لما تستمتع بقراءة الروايات الأرستقراطية؟ هي الرافضة للظلم و الاستبداد؟تستمتع بالأجواء الإرستقراطية،حيث يسير كل شيء بشكل لائق،جميل،مرتب،ويبشر بالأمل،و تتحسر على هجر العالم للإرستقراطية من أجل تعميم رفاهيتها لكن الوهن هو الذي ساد و انتشر،كأنما أرادت أن تصور العالم إلى دائرتين،دائرة الأرستقراطيين المتمتعين بالعافية الرفاهية،ودائرة الفقراء الذين يعانون الوهن،و بدلا من توسيع الدائرة الأولى فتتعمم الرفاهية،تم القضاء عليها،فازدادت الثانية اتساعا،و تعمم الوهنتشتاق لأجواء لندن البهية و الممتعة، مكتباتها،موسيقاها و قهوتها الجيدة،وتتحسر على واقع مدينتها التي تتباهى بإشعاعها الحضاري،رغم أنها لا تتوفر لا على مكتبات حقيقية و لا على مواقف سيارات كافية و لا قطارات و لا مقاهي ذات طابع خاص،لا يفسدها التحرش بالنساء،مدينة تنتظر الخطة الشاملة التي ستغيرها ذات غد..تنتقل بين الشوق و التحسر،بين الاستمتاع و الانزعاج، غير راضية عن حال مدينتها و أجوائها الكئيبة خصوصا بالنسبة لامرأة مثلها،كآبة تزول باستحضار عوالم لندن البهية،و أجواء الرواية الأرستقراطية الجميلة و المرتبة،لكن سرعان ما تتعاظم الكآبة عندما تتأمل حياتها الرتيبة،و العمر الذي يمضي سريعا و لن ينتظر الخطط الشاملة لجعل مدينتها أكثر رقيا و بهاء. ما الذي يجعل الإنسان العربي بئيسا هكذا؟أتراه واقعه المضني و البئيس؟خصوصا عندما يقارن حياته و عالمه بعوالم أخرى أجمل و أرقى؟ لكن هل هذه المقارنة عادلة؟ثم كيف يمكن أن نفصل مظاهر الرقي و التحضر عن البؤس الاجتماعي و الاقتصادي؟و كيف يمكن لا نرى في الأرستقراطية إلا أجواءها الجميلة متناسين أن خلف الحياة المخملية يكمن بؤس رهيب يرزح تحت نيره الأقنان؟ألا يمكن أن نقول بان الحياة الناعمة لنخب الخليج هي التي أفرزت لنا هذا النمط من التفكير و هذه النوعية من المشاكل؟مزاجات:عندما يحترم الإنسان ذاتيته،لا يمكن أن يكون نمطيا لا في مزاجاته و لا في خياراته،فذاته التواقة للحرية لن تقبل التقوقع في أرائهم الباتة و القطعية،بل و لا حتى الثبات على حمية غذائية ضرورية للصحة و العافية ،ذاتية تجعل الساعدي تتذمر من كتبات صنع الله إبراهيم قبل أن تدمن عليها،و لا ترى في الاشتراكية إلا حلما طفوليا حول البيت السعيد في الغابة الخضراء.النظر إلى السماء يزيل الإحساس بالغربة،فالسماء واحدة في كل مكان،لكن عندما تنزل عينيك إلى الأرض تظهر الاختلافات و التمايزات،فيبرز الفرق جليا بين مدينة حية و صاخبة و حميمية كالقاهرة و مدينة تسيج ساكنيها بجدران سميكة و عالية،جدران تحتاج إلى شجاعة خارقة لتحطيمها و شخصيات بطولية لا تملك الساعدي أمامها إلا البكاء،فتفضل الضحك،و هو ما تبعث عليه فكرة تحطيم الجدران جماعة.شوق إلى حياة مصرية عفوية و حميمية،عفوية مفتقدة في مدينتها المسيجة،تمارسها للحظات مع عامل التوصيلات المصري،و عندما تريد أن تتسلى تفضل شريطا مصريا،طالما أن الأفلام الإنجليزية تدعو للتأمل و الفرنسية تشجع على الحياة؟لكن أليس هناك من سبب آخر كعلاقة الشبه بين الكاتبة و نجوى(غادة عادل)،بطلة فيلم"في شقة مصر الجديدة"،تقول أنها جسدية،و أقول أنها أكثر من ذلك،فالفتاة الرومانسية الحالمة بالحب و العاشقة بالموسيقى و التي جاءت مصر تبحث عن مدرستها،كانت تبحث في واقع الحال عن أحلامها الضائعة و حبها المحاصر في ألمنيا،المدينة الصعيدية المحافظة،فما أشبه الشخصيتين!في قصة سابقة،لم تتردد الساعدي في التصريح بجبنها عن مواجهة القوى المحافظة بشكل سافر فلاذت بالرواية،و هنا تبدو لها فكرة تحطيم جدران مدينتها،بكل ما تمثله من قيود و صكوك تقيد حياتها،بشكل فردي، أمرا حزينا و مبكيا، أما الانخراط في فعل مجتمعي و تغييره جماعة فلعبة مضحكة،إذن ما السبيل إلى الخلاص إن كانت السبل كلها موصدة بشكل أو بآخر؟!تحاول أن تكتب روايتها،فتكتشف أن ما فرت منه يحاصرها حتى في الكتابة،فالجدران تحجب الرؤية و تزيف الأحاسيس،فتتصور أن الحل في الهروب لمكان مفتوح على البحر و السماء،قبل أن تنكفأ على ذاتها تعاتبها و تتهمها بالانهزامية،فربما كان يعوزها التخطيط و تفتقد إلى التقنية،الأمور صنعت مجد كتاب كبار و ساهمت في حصول نجيب محفوظ على نوبل،لكنها لا تبحث عن نوبل،هي تريد فقط تعويض حياتها الواقعية بحياة ورقية أجمل،لا فقط هذا تبرير،تتمنى الالتزام بخطة،لكن الوقت لا يسعفها و النوم لها بالمرصادمزاجات تتحول و تتداخل،نحس بها و نتلمسها،كما لو كانت الساعدي قد ثبتت مكبر صوت داخلها،يسمعنا أحاديثها الداخلية،لكن كم هو متعب أن تستمع طويلا لمن يفكر بصوت مسموع!لا أنام: عندما يصيبنا الأرق لليال متتابعة،و نجرب كل شيء بلا جدوى،ندعي النوم،كأننا نخادع جسدنا،فيعاقبنا بالإحساس بالغثيان،نتأمله فنكتشف وجها يلازمنا طول العمر،و كلما تقدمنا في السن ازداد شوقنا لما كناه قبلا، لكن ما سر هذه العلاقة المتوترة مع وجوهنا؟ ربما لم تكن الأجيال السابقة تعاني من هذا الرهاب الذي يسكننا؟ألأنهم كانوا يعيشون حياتهم بانسيابية ،يحيون كل فترات عمرهم في وقتها ، في حين أننا نريد أن نذخر وجوها نضرة تنتظر معنا قدوم ربيع متأخر؟نتذكر نصائح الأصدقاء و انتقاداتهم،تحضرنا تجاربنا السابقة،الكل يريد أن يجد له مكانا في ليلة أرقنا،تتناسل الأفكار و تتراكم الذكريات،فالقلب متحفز و الجسد منهك و جائع و النوم يستعصي،فلا تنفع القراءة و المسنجر،و لا محادثة الكتاب،فهم يزيدون بؤسك و أرقك،الأخبار كئيبة تستنفر غضبك خصوصا عندما يتعلق الأمر بجثة طفلة تعرضها أم على الإعلام.متعب هو الأرق عندما يحكم حياتك،لكن الأشد منه أن تعيش أرق الآخرين،خصوصا عندما يبرعون في رسم تفاصيله و دقائقه،فيصيبك بلعنته و لو كنت قادما للتو من نوم عميق و مريح,هلوسات انتماء: في هذه الشذرات الموسومة بهلوسات الانتماء،تقدم لنا الساعدي بعدا آخر من أبعاد التمزق الحاصل في ذوات يحكمها الفصام و يستبد بها الحنين،تجد بعض نفسك حيث لا ينبغي أن تكون،و تبحث عن روحك في المكان الذي من المفترض أن تكون فيه؟نحتمي بالحب لنختبئ بين ذراعيه فيخذلنا،يعاملنا كما الوطن،لم يكن أبدا بحجم حبنا له و لا بحجم انتظاراتنا منه،نحن الذين لا نريد أكثر من أن نجد ذواتنا بقربه،فمزقنا و تعالى علينا, ما الذي جعلنا هكذا؟تائهين و معذبين و ممزقين؟نحيا في مدائن لا تزال ترسم معالم هويتها،نحن اللذين يسابقنا عمرنا،نحاول أن نهرب من قضايا الانتماء بابتكار انتماءات تجريدية تخفف عنا من حجم تمزقنا،لكن وجع الانتماء يحاصرنا حتى في أحلامنا،فيخرج إلينا الكابوس الفلسطيني يذكرنا بهول الفاجعة،هول أن تكون بلا وطن،أه يا فسلطين صار مصابك كابوسا ..أنت التي كنت الحلم و الأمل..!لكن شكرا فبفضلك عرفنا قيمة الوطن مشروع حياة:يبدأ المرء حياته فتيا،حالما مجادلا عن أفكاره،لكن كلما تقدم في السن تضاءلت فتوته،فيبدأ في التفكير في مشروع حياته،متى سيبدأ؟أما أن تكون الكتابة هي هذا المشروع،كما هو الحال عند الساعدي فتلك مأساة حقيقية،فأن تكتب ينبغي أن تعيش حياتك،أو على الأقل أن تعيش حياة الآخرين عبر الإنصات إليهم و إلى حكاياتهم، ما العمل إذن إن كانت تود التي تريد أن تكتب، تحس أنها لم تعش حياتها بعد و لا تنصت لقصص الآخرين؟إذن سيتكون الكتابة حياتها طالما لم تعش حياتها في الواقع،لكن كيف و الواقع يحاصرها بقساوته التي وصلت حد تحول أخبار القتل إلى خلفية للأخبار الاقتصادية،يحاصرها بسطحيته،حيث الكل يريد أن يبدوا بهيا و فتيا و لو بشكل اصطناعي.واقع لا يمكن إلا أن يكون متعبا للروح و الجسد،فيتأجل مشروع الكتابة إلى الغد..على أمل أن يبقي في العمر عمر لذلك!حياة في الانتظار:ننتظر حياة بهية،تناسبنا و تناسب أحلامنا فنتبرم من كل شيء حولنا،من البشر الحجر و الحجر،فنتمنى لو كنا ترابا يضمنا إليه ذات يوم دون أن نحس بأي تغيير،لكن ربما كانت هذه هي حياتنا،و أن هذه التفاصيل ستتحول ذات غد قادم إلى لحظات سعيدة لأمس قد مضى،فلما العيش بين الحنين و الانتظار؟أليس هذا من قبيل "البحث عن الزمن الضائع"عند بروستلا موقف:هل الكتابة يا مريم تحتاج لموقف كبير و قضية كبرى؟ إن ما ترينه لا موقفا هو ربما الموقف الأكثر انسجاما مع هذا التيه و التمزق الذي يحكم حياتنا،و إن التفاصيل التي تشغلك و تغير ومزاجاتك،و تجعلك تهلوسين من اجل الوطن و الحب و الحياة،هي أخصب أرض تنبت فيها الكتابة و تزهر.كآبة:كم هو كئيب فعلا أن نعقد أمالا كبيرة على أمر ما فيغادرنا فجأة،و الأكثر كآبة أن نكون قد حولناه إلى أوكسجين نتنفسه،فهل ينبغي للكتابة أن تكون متنفسا أصلا؟كائن مختلف:إن أروع ما في العنصر البشري أن كل إنسان كائن مختلف،في كل شيء،بدءا من وجهه و تفاصيل جسده،انتهاء بفكره و نظرته لنفسه و للعالم،فالكاتب الحقيقي من يحافظ على عمق هذا الانتماء بالانتصار لذاتية و الاحتفاء بتفاصيله،حتى لا نصبح صورة مكررة و مبتذلةكتبت مريم عن العدل و انتصاره لما كانت طفلة،تنظر بميزان الخير و الشر و لم يكن للخير إلا أن ينتصر،و لما بدأت تتأمل و تتساءل ،بما يتناسب و سنين عمرها المتمردة،نقلت مشاعرها للورق،فرأت القدر يسخر من أحبة ،ما أن عثر أحدهم على الآخر حتى باعد بينهما،و لم يمكن من الممكن للمجتمع الذي تحكمه المتون الجاهزة أن يستوعب ما تكتب،لأنها تكتب ما تشعر به و هم يقولون ما حفظته ذاكرتهم منذ قرون.و لما كانت وفية لرؤيتها الرافضة للمتداول و المسلم به و المتفق عليه،لم تستطع أن تكتب إلى ما يؤرقها و يزعجها و يغير مزاجها،غير آبهة لما يمكن أن تزخر به كتاباتها من قيم جمالية و فنية،و كما قلت في البداية إنها تحتفي بالذات و تستمتع بهذا الاحتفاء على الورق و على المخدة على السواء،فالعدالة عند الساعدي يمكن أن توجد حتى في عالم المخدات.

ادريس أنفراص.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved