بين حكايات الجد التي فتحت ذهنه على واقع خيالي وواقع قريته الذي يضج بآلاف الحكايا الواقعية، كانَّ من الصعب على رأسه الصغير أن يميز بين الواقع والحلم، فكثيراً ما وجد نفسه سائراً، وهو يعد البيوت التي تحوي على أشجار السدر، وما أن يكمل العد إلى العشرين حتى يجد نفسه أمام الباب المحترق الإطار ذي المسامير الصدئة والبارزة، يدخل .. فيرى بصعوبة، ففي الجانب المعتم من الباحة وقفت ( ملا كنوشة) ويدها على كتف أختها، تبتسم وترفع يدها الأخرى، لقد إكتمل النصاب ولتبدأ الحصة، إنتبه الطفل إلى ذلك الخيط الرفيع بين ما كانَّ عليه الجد ـ مستحسناً إنصات الطفل ولغة الحوار بينهما ـ وبين ما كان يرى ويسمع خارج حلقة الجد، لذا فلقاءه الأول مع تلك المرأة الكفيفة البصر والتي فتحت عينيه على الحروف وقراءتها بصوتٍ عال مع مجموعة من الأطفال، ضمتهم تلك الباحة ـ وسط تلك الدار القديمة ـ التي تظللها شجرة السدر الكثيرة الأغصان والكثيفة الاوراق بعد أن تغادرها العصافير صباحاً وتعود إليها مساءاً والباحثة عن مأوى ليس بعيونها بل بزقزقتها المدوية، هذا اللحن الخالد الذي لا يفارق رأسه مازال يذكّره بتلك اللقاءات المتكررة والتي أثمرت عن فك الحروف ومعرفة أسرارها والولوج إلى عالمها السحري الأخاذ، لذا ما يكّنه من محبة لناسه ومدينته يدفعه للحديث عن الماضي، هل هو الإستنجاد بذلك الماضي الجميل ؟، إذن( ماجدوى الهروب من المدن إن كانت ستلاحقك إلى آخر العالم ) كما قال الجد، وقتها كان يبتسم لنفسه. اما الآن فهل له أن يبتعد عن المدينة التي لا يوجد فيها مكان لرجال كالجد!.
***
الجلوس مع الجد في أوقات متفاوتة كانت تعني للحفيد الكثير.
الجد لديه الكثير مما يدفع الحفيد للتساءل والإستفسار .
الجد لا يبخل بالإجابة والتوسع في الحديث مع الحفيد.
المواضيع التي يطرحها الجد وطريقة الحديث، تدفع الحفيد إلى الإصغاء وتتبع مسار الحديث، أما ملاحظاته فكانت تنال رضا وإستحسان الجد، لذا فالعلاقة بينهما ليست علاقة جد بحفيد، معلم بتلميذ أو شيخ بمريد، كل هذا مجتمعاً إلى جانب ما كان الجد يسعى إلى تعميقه في العلاقة التي تربطه بحفيده والتي كان الجد جاداً في تأصيلها تلك هي (الصداقة) .
لم يسمع الحفيد كلمة إطراء حين يكون مصيباً في رأي أو متجاوزاً أمراً ما حتى من أمه وأبيه وأساتذته إلا إنّ كلمة "أحسنتْ" حين تخرج من فم الجد كانت تعني عنده الكثير.
ولكون الجد "تربية أبي ناجي"! فقد عمل لسنوات في (عبادان) مع الإنكليز، وبعد إنشاءهم مشروع إسالة ماء( المعقل) شمال مدينة البصرة، خُيٍر فأختار الرحيل للمعقل .
قد تكون جماليات المكان قد أخذت بلب الحفيد، بيت بواجهة من الطابوق المنجور غرفة للإستقبال، صالة للطعام وشجرة التين ـ في فسحة البيت الخلفية ـ الملتصقة بالدرج الخشبي المؤدي إلى السطح الواسع، ثم الحديقة الأمامية ـ بقسميها يفصلهما ممرا إسمنتياً لاصفاً على الدوام ـ والمسورة بالطابوق الكلداني الأصفر يطل برؤسه المثلثة محتضنة البتلات المتساقطة من شجيرات الرازقي والياسمين وتظللها شتلات الجوري والداودي، كل هذا جعل الحفيد عاشقاً للجد والمكان .
***
عند مدخل القرية ينزل الحفيد من سيارة الأدلاء البحريين (اللاندروفر) والمتجهة
إلى الواصلية (هرمّك) حيث مقر دائرتهم ومن هناك ينطلقون للعمل، مسؤوليتهم تتحدد بإدخال السفن إلى قناة شط العرب وإيداعها الموانئ الإيرانية أو العراقية على السواء حيث العلم العراقي يعتلي ناصية السفينة.
طوال الطريق والادلاء يتحدثون باللغة الإنكليزية !، ملابسهم ناصعة البياض، أنيقة، بما فيهم السائق (خال الحفيد) والذي لا تفارق "الكاسكيت" البيضاء ذات الحافة الدائرية السوداء وعلامة الموانئ المطرزة بالخيوط الذهبية على قاعدة سوداء من قماش القطيفة والمستقرة في المقدمة على جبهته.
يأخذ الحفيد الطريق الترابي وهو محتظناً كيساً ورقياً فيه بعض الأشياء له ولإخوته (بسكت، مكسرات وحامض حلو أبو الريحة) وبما إنّ كل ما يقوله الجد يدخل إلى إذنه ويستقر في ذهنه فقد كان طول الطريق يعيد الطريقة التي من خلالها معرفة جدول الضرب وشهور السنة وعدد أيامها بإستخدام أصابع اليدين وعقد الكفين، وقتها أصبح قادراً وبسهولة على الحصول على قصة من قصص السلسلة الخضراء من مكتبة المدرسة، فالشرط الذي وضعه أمين المكتبة للحصول على كتاب أو قصة لم يعد يعيقه مستقبلاً.
محمود بدر عطية
2013