يومٌ جديد للتو بدأ، وللتو سوف ينطفئ، كبقية السنوات التي مضت من عمرك وعمري، ونحن ها هنا واجمون في المكان، ندور على ذواتنا بلا حراك، نلهث خلف قصاصة ورق حمراء كُتب عليها بلغة التنابل وحبر الجهال: ملعون من حصل عليها، ملعون من حملها، ملعون من تركها، ومفقود من عاد بدونها! البرد والحديد وشيء من عفن القلوب يجعل الدّم الفاتر متبلد الحراك، فيشل بعض الأطراف عن المسير! في هذا اليوم قررت أن أنثر بعض أحزاني وأحزانك بين يدي صفحاتنا الصفراء بشوق كبير يغمر مهجتنا للتحرر من قيود هذا الأسر. في هذه المدينة يحتاج الغريب دوماً إلى ذلك العزم الصامت الذي يشدّ مآزر إرادته، يحتاج إلى التسليم العميق بالعجز المطلق عن فهم كنه القدر، بمثل هذا الإيمان فقط سوف تضع يدك على الحبل الذي يمكنه أن ينتشلك من الغرق في الأوحال، يوماً بعد يوم، يشدك وينتشلك كما كان يفعل دوماً، وكما يفعل اليوم، عندما يحفزك على أن لا تذوب في عفن النّسيان!
في المساء تكون الرؤية ضبابية في مدينة الحديد، لكن لديّ شعور خفي بأنك موجود في مكان ما قريب مني! أنظر في وجوه الناس الواجمة من حولي، فلا ألمح طيفك بين تلك الهياكل المعدنية، غير أن شعوري يزداد شدة كلما رفعت رأسي لأتعالى عن التراب الذي يحيط بي. رفعت رأسي عالياً، ومشيت بثقة ذكرتني بها روحاتنا وغدواتنا معاً! وارتفعت إلى مستوى أنظر فيه إلى السماء العالية المجيدة ... فكانت المصادفة الرائعة، أخيراً عرفت مكانك، ومن أين يشع ذلك الضوء؟ ... إنه من ذلك الوجه الحميم، الذي طبع على قمر يزين هذه الليلة الرمادية الباردة على الأرض المنيرة الدافئة في السماء. نعم رأيتك تطل بوضوح من عتبات ذلك القمر، الذي لا يزور مدينة الأمنيات العاثرات إلا كالعيد في أيامه المعدودات، ثم ودعتك لأذهب إلى موعد مع المجهول البعيد، في رحلة محفوفة بالخطر، الخطر الذي بات يلاحقنا حتى على فراشنا، ونجده ينتظرنا مع كل صباح في أحذيتنا!
ترى أيها الغريب، هل سمعت المكان والزمان والإنسان المتبقي في أعماقك في هذه المدينة يهتف بك صارخاً: عد من حيث من أتيت؟ إذا كنت قد سمعت ذلك، فدعني أسألك، وأستحلفك ألا تكتمني الإجابة: هل ستعود؟! وإلى أين؟ إلى بلدك؟ ترى أين هي بلادك؟ وإن عدت ما عساك تجد في بلادك؟ جليداً ... حديداً ... أم تراك ستبحث جاهداً في بلادك عن بقية ذكريات قديمة لمن كان إنساناً، ثم أصبح كائناً ممسوخاً مأسوراً في بلد الإبعاد، يسمَّى في لغة الشياطين المشتركة بيننا لاجىء!
في هذه الزنزانة الانفرادية؛ غرفة الأشباح المعدة ليعيش بين جحيم جدرانها كائن واحد أو هيكل معدني يسمى واحد، أو سمِّه ما شئت أن تسميه، لكن أتحداك أن تجد له في قاموس الإنسان مرادفاً. وعلى أطراف عاصمة الأمة العريقة، ثالثة مدائن الدنيا الجديدة، حلم الفقراء، وجنة الأغنياء، التي تسمى بلغة القرود المشتركة بيننا حضارة! كانت البداية. لكن قبل أن يسمح لك بالدخول إلى معبد الحكاية، عليك أن تعرف من هو كاتبها، ولأنني أعرف أنك لا تعرف عن الكاتب شيئًا، فسوف أخبرك بالإجابة السرية مجاناً، هي إجابة استخرجتها من قاموس الأوجاع، حيث كتب في الصفحة الأولى: هذا قاموس الأوجاع، كُتب بكل لغات الألم، يتحدث عن تاريخ مسلوب، ولا يسمح بقراءته إلا للأطهار رواد الأماكن المقدسة، الذين ينحنون أمام شاهدةِ يراعٍ مقتول ... فالذي خطّ الحكاية لنا هو يراع مقتول ... فأرجوك وبشدة، أن تقف ألف دقيقة صمت تقديرًا لهذا الشهيد المنسي، الذي سوف يعلمنا أعظم فن متقن للهروب من الواجبات الرتيبة المملة.
قبل أن يقتل اليراع الشهيد تساءل بمرارة فقال: ترى أيّ تمازج لألوان متشاكسة يجمعها طيف هذه النفس، صاحبة التركيبة الأكثر تعقيداً في هذا الكون، ربما يجد المرء نفسه بين الحين والآخر مدفوعاً للحديث بلغة غير مفهومة، غير واضحة، ربما يكون له في ذلك عزاء للتخفي خلف ستائر نفسه، خلف ظلال آلامه، ربما لا يطيق المرء ـ إن كان ذا أنفة ـ أن يستمع كائنًا من كان إلى أصوات تفتقات قلبه، وإلى أصداء خلجاته.
يا صاحبي ... إن قدرك أن تستمع في هذه الحكاية إلى خليط ثرثرات متنافرة متشاكسة، إلى موسيقى نشاز يصدرها جرحٌ نازفٌ لهذا القلم، الذي تعود في بلاده على أن تهرس إرادته تحت حذاء يسمى ظلم، رشوة، فساد، انحلال، قذارة، تجبر ...، كلها تنصب من نفسها آلهة مقدسة تُعبد من دون الجليل.
ربما عليَّ أن أترجم لك جراحات هذا القلم؛ حتى يتضح لون الدم جلياً! فمنذ عهود خلت كان هذا القتيل المسكين يعاني مخاض ولادة فكرة، لكن آلام المخاض أزهقت الفكرة واليراع.
وها أنا بعد أن ثكلت اليراع الشهيد، أجلس وحيداً في حجرتي اليتيمة، حائراً أدور على نفسي في محاور الخطوط المتقاطعة، خالياً إلا من أشباح لذواتي المنقسمة، المتخفية خلف غياهب الأيام، التي جعلت مني ومنك بعض أحاديث لشريدٍ طريدٍ، ربما كان عليّ أن لا أثقل كاهلك بهذا التفلسف الطويل الممل! لكن أستحلفك بإبعادك المقدس أيها اللاجىء المبجل! إذا لم يبح هذا اليراع لك، فإلى من يبتغي في الأرض بوحًا؟ فعليك وحدك أيها الغريب ـ لا على غيرك ـ تقع المهمة القصوى لكي تترجم آلام الناس وأوجاعهم، همومهم ومشاكلهم، وجودهم وانتماءهم، حضارتهم وامتدادهم. لكن أنَّى لك فعل ذلك وقد سرقوا منك مهمتك وقتلوا يراعك؟ أنَّى لك فعل ذلك وقد أوهنوا قواك، وشتتوا هداك، عندما علقوا على ظهرك يافطة كتبوا عليها: بعيد برسم العبيد؟!
أيها الغريب، يعجبني أن أتكلم معك بعد طول صمت، ويعجبني أكثر أنك أصبحت أصم ... أيها الملك المزيف، يا دون كيشوت، يا من تقاتل بسيف من الأوهام، الآن أكتشف أنك لست إلا ظلاً سخيفًا. أكتشف الآن أنك لم تكن يوماً كاتباً إلا على الماء، لم تكن إلا كمن يبني القصور على الدخان، رغم أنك تلعب دور البطولة في كل رواياتك، وتعشق لعب هذا الدور، إلا أنك ستبقى حائراً أمام حقيقة النهاية، التي ستكشف دائماً عن سخافة أدوارك الوهمية!
ثم ماذا بعد ... ها نحن تفلسفنا كثيرًا، وما فهمنا شيئًا، سوى أن الفلسفة هزت كتفيها، وأقعت ذيلها كالكلب، ثم انسلت هاربة، بكل وقاحة، كأن الأمر لا يعنيها! وتركت لنا عبارة واحدة تقول: قف أيها الغريب أمام ضريح هذا اليراع الشهيد؛ لتستعيد بعض أحزانه، لتنثرها فوق شاهدة قبره، ثم أدر ظهرك له، وغادره إلى الأبد.
النهاية

