هاجسي كمخرجة وثائقية هو المرونة والقدرة على التحّمل والتّكيف .
ولدت المخرجة التشيلية إلفيرا دياز عام ١٩٧٥ في فرنسا . «الباحة» هو فيلمها الوثائقي الثالث كمخرجة ومديرة تصوير، وهو يتحدث عن عواقب ديكتاتورية بينوشيه وحياة الشهود والضحايا . وإلفيرا لها صلة وثيقة بهذا الموضوع لأن والدها كان قد غادر البلاد بعد الانقلاب العسكري مباشرة كلاجىء سياسي في فرنسا . الفيلمان الوثائقيان الأُخريان لها هما : «فكتور جارا» الرقم ٢٥٤٧ وفيلم «سوف نعود»، اللذان تم إنتاجهما عام ٢٠١٣ .
يروي فيلم «فكتور جارا/ الرقم ٢٥٤٧» حكاية هكتور هيريرا، الموظف السابق في السجل المدني التشيلي، الذي أُرسل بعد أيام من انقلاب بينوشيه في مهمة من قبل دائرة الطب الشرعي إلى مبنى مشرحة الجثث لفرزها والإدلاء بشهادته عن هويات السياسيين
منهم . وكان عمر هكتور هيريرا آنذاك ٢٣ عاماً وهو لم ير قط جثة رجل ميت في حياته . إنها الزيارة التي سيكون لها دوراً حاسماً في توضيح ما حدث للمغني وكاتب الأغاني التشيلي الشهير فكتور جارا .
حين استطاع هيريرا أن يميز جثة فكتور جارا من بين أكداس الجثث في تلك المشرحة قرر حينها، - مخاطراً بحياته -، محاولة الحيلولة دون دفن جثته في المقبرة الجماعية ليصبح ضمن الجثث المتوارية الأخرى . ونجح بالفعل حيث قام هو وزوجة جارا بإخفاء الجثة سراً عن المجلس العسكري ودفنه في المقبرة العامة فيما بعد .
عملت المخرجة إلفيرا دياز مدة عامين مع هيريرا قبل قيامها بتصويره، حيث تعرفت خلال فترة البحث تلك على تفاصيل سيرة حياته إلى الفترة التي عثر فيها على جثة جارا، هذا الحدث الذي جعل هيريرا بالنسبة للبعض هو الشخص الوحيد الذي أنقذ فكتور جارا من أن يكون واحداً آخر من الملايين الذين تواروا ولم يتم العثورعلى جثثهم من قبل أقاربهم وأحبائهم حتى الآن .
هكتور هيريرا هو لاجىء سياسي تشيلي سابق يعيش في فرنسا منذ عام ١٩٧٦. في هذا الفيلم يعود هيريرا إلى تشيلي لزيارة ذلك المبنى الموحش الكئيب المحيط بالمقبرة العامة بعد أن يخرج عن صمته الطويل ويسترجع زمن عصيانه ومجازفته الخطيرة تلك ليواجه ثانية أشباح الماضي وذكريات تلك التجرية المريرة والصادمة .
الجدير بالذكر أن محاكمة اغتيال المغني فكتور جارا لاتزال قائمة ومتواصلة حتى اليوم . وبفضل هيكتور هيريرا إصبح قبر جارا مزاراً يستطيع المرء أن يشخص هوية الجاني . واليوم ولا تزال مئات العائلات تكافح من أجل معرفة مصير أقربائهم فقد اختفى أو فقد حوالي ١٢٠٠ وقتل ٣٢٠٠ شخصاً في تشيلي بين عامي ١٩٧٣ و ١٩٩٠.
لقد تم اعتقال فكتور جارا في الثاني عشر من سبتمبر ١٩٧٣ وقد نقل هو وحوالي خمسة آلاف آخرين إلى ملعب تشيلي الرياضي، هناك حيث جرى تعذيبه بطريقة وحشية لأربعة أيام إلى جانب الآلاف من المعتقلين . حين قام العسكر حينها بتقطيع أصابعه طلبوا منه ساخرين أن يعزف على قيثاره، غنى فكتور جارا بتحدٍ أغنية الحزب الشهيرة: سننتصر .
رحل جارا وعمره أربعون عاماً وحين أخرجت جثته عام ٢٠٠٩ لاستكمال مجرى التحقيق بشأن قتله وأعيد دفنها ثانية خرج الآلاف في تلك المراسيم . واليوم وبعد اكتمال معلومات التحقيق رفعت أرملته جوان جارا قضية إتهام ضد ضابط الجيش السابق بيدرو باريينتوس، المقيم في فلوريدا حالياً، بتهمة ارتكاب الجريمة .
«سوف نعود» هو فيلمها الثاني، والذي يروي حكاية بورفيرو دياز وهو خال المخرجة والذي يقيم في إقليم بيزانسون الفرنسي لاجئاً سياسياً منذ عام ١٩٧٩. بورفيرو دياز فقد بصره بسبب حادث مرتبط بعمله السياسي مع المقاومة زمن بينوشيه . كان بورفيرو مقاتلاً
من اليسار المتطرف وقد شارك قبل عام واحد من انقلاب بينوشيه، أي في عام ١٩٧٢، مع مجموعة مسلحة صغيرة خططت لمقاومة الانقلاب العسكري المحتمل، وخلال التدريب حدث انفجار ديناميت مفاجىء أفقده بصره وحرمه من احتمال أن يصبح عضواً في حرب العصابات كما يقول . حينها شعر بورفيرو بالرعب وملاحقة المجلس العسكري له في أعقاب الانقلاب فاختار الهرب من البلاد .
بعد أربعين عاماً في المنفى وبتوجيه من ابنته قامت المخرجة إلفيرا دياز بمرافقته في العودة إلى تشيلي لمدة ثلاثة أشهر . تقول
دياز :
«لقد أراد العودة بنفس الطريقة السرية التي غادر فيها تشيلي من قبل دون أن يمر عبر مراقبة الجمارك في مطار سنتياغو . ولإحساس أفضل في الوصول، هبطنا في لاباز في بوليفيا وأمضينا عشرة أيام في البحث عن صديقه ألفونسو في تشيلي، وقد استقلينا الحافلة والقطار لعبور كورديليرا من جبال الأنديز». ثم تضيف بزّهو :
«إنني معجبة به كثيراً اليوم . لقد كنت في صغري أشاهده وهو ينشد بقوة وحماسة على خشبات المسارح التشيلية، نعم !، وبعدها حين كبرتُ أحسست أن لديه ذات الصعوبات التي يحملها العديد من اللاجئين السياسيين .
إن العيش بعيداً عن الأرض وعن أولئك القريبين الذين تعرضوا للقمع الوحشي بشكل يومي يخلق ألماً غريباً، أو يخلق راحة مُدانة . إن ما يثير إعجابي فيه اليوم هو قدرته على التأثير على الحياة اليومية بشكل إيجابي والطريقة التي يدير فيها حياته ورحلته هذه» .
أما فيلمها الثالث «الباحة» الذي أخرجته عام ٢٠١٦ فهو يرصد اثنين من حفاري القبور ممن عملوا في المقبرة القائمة في مركز العاصمة تشيلي سنتياغو منذ فترة الانقلاب حتى الآن والتي هي بمثابة ملجأهما النائي عن منزلهما كما يقولان . فثمة حديقة تتوسط المقبرة ملأى بأنواع الزهور وحقل صغير تنمو فيه أنواع الخضار . لكن رغم ارتباطهما الحميم بهذه المقبرة، إلا إنهما يتوجسان خيفة من تلك الأيام السوداء التي أبقياها طي الكتمان حتى الآن .
لقد استطاعت إلفيرا دياز أن تتعقب هذان الرجلان في عملهما اليومي وهما منهمكان في حفر القبور وتنظيفها وإصلاح شواهدها
وأضرحتها وصنع التوابيت . ونجحت في إخراجهما أخيراً من صمتهما الطويل القاتل ليرويا إلى زميلهما الحفار الأصغر «سيرﮔو» ولنا أيضاً حكاية ماضيهما البعيد غير المعلن وذكرياتهم المضطربة في الأيام الأكثر عتمة حين قاما بشكل خفي بعد إنقلاب ١٩٧٣ بدفن مئات الجثث من الضحايا المجهولي الهوية والذين تم تشويه الكثير منهم من أثر التعذيب . لقد حاول هذان الحفاران نسيان السنوات الأربعين الماضية، نسيان قاعة الموتى أو مستودع الجثث المرعب .
«لقد كانت الجثث متناثرة على الأرض فيما راحت الديدان تغزو الجدران»، يقول أحدهما بحزن وإحساس بالندم . لقد حاولا أيضاً نسيان موت زملائهم الذين غرقوا في إدمان الكحول والاكتئاب والجنون . المقاومة والقدرة على الصمود وحدها فقط كانت السبيل الوحيد لبقائهما على قيد الحياة خلال ذلك المنحدر إلى الجحيم .
كانت الكلمات تخرج من بين صمت ممرات المقبرة وبعض شواهدها الرمزية لتعيد ذلك التأريخ الأسود ثانية وتدعنا نواجه الواقع التشيلي ورؤية كيف كان النظام التوتاليتاري يدفع بعملية تجريد الانسانية نحو الأمام .
أضافت المخرجة لتلك المونولوجات والحوارات تلك، لقطات وثائقية أرشيفية لمقابلات واقعية تتضمن عودة جثة أحد الأشخاص المختفين إلى عائلته وتظاهرات من قبل أسر الضحايا الذين لازالوا ينادون بالعدالة ويطالبون بأن لا تدفن حقائق الماضي القاسية .
***
أجرت هذه المقابلة جينيفر ميرن عبر الموقع الألكتروني «اتحاد الصحفيات السينمائيات» الذي تأسس عام ٢٠٠٦ ومقره نيويورك وهو
ممّول من قبل النساء ومكرس لدعمهن في صناعة السينما ويتألف من ما يقرب ٧٦ من الناقدات والصحفيات المحترفات والكاتبات
البارزات والعاملات في ميدان المطبوعات والبث والاعلام عبر الانترنيت .
في هذه المقابلة سنتعرف على التحديات التي واجهت عمل المخرجة على إنجاز هذا الفيلم فضلاً عن الأشياء التي تعلمتها هي وفريقها السينمائي، الذي هو جله نسوي، في العمل وسط مجتمع ذكوري .
نص المقابلة :
س: كيف ولماذا قمتِ بتنفيذ ثيمة فيلمك ومواجهة الشخصيات الرئيسية فيه ؟
ج: حين قمتُ بتصوير فيلمي الوثائقي الثاني حول الدفن السري للمغني فكتور جارا حاولت التحدث مع حفاري قبور عام ١٩٧٣
والذين لازالوا يعملون في المقبرة . وقد التقيت حينها بصحفية تشيلية اسمها باسكال أونيفوي والتي كتبت لسنوات عن هذا الموضوع، وقد أخبرتني بأن حفاري القبور لا يتحدثون لأّيٍ كان عن العمل الرهيب الذي كانوا ملزمين حينها في القيام به بعد الانقلاب . مع ذلك فقد أصريت على أن ألتقيهم وقد استطعت حقاً القيام بذلك . لقد كان الأمر حساساً للغاية ومع ذلك أردت في الواقع توثيق وأرشفة شهاداتهم .
س: ما الذي اكتشفته بشأن هذا الموضوع وأنت تخرجين الفيلم ؟
ج: اكتشفت أن لا يزال ثمة كثير من الأسرار في هذه المقبرة ينبغي على العوائل والمحققين البحث عنها في ذاكرة الناجين . والأهم من كل ذلك أنني تعلمت أن البشر أقوياء جداً وبوسعهم إعطاء دلالة وإحساساً إيجابياً إزاء الأشياء السيئة التي تحدث في الحياة .
س: ما الذي تعلمتيه من عملك للفيلم فيما يتعلق بالإخراج السينمائي ؟
ج: ما تعلمته هو أنه حتى لو كانت ثمة عقبات في بعض الأحيان، ينبغي على المرء أن يتبع حدسه ومشاعره الحميمة وأن يكون واثقاً من وجهة نظره ورؤيته للبشرية لعرض رؤيته الخاصة للعالم، فضلاً عن عمله بإخلاص «مع» الشخصيات وليس «عنها» فقط . إن هاجسي كمخرجة وثائقية هو المرونة والقدرة على التحمل والتكيف .
س: ما هو أكبر التحديات التي واجهتك في تصويره ؟
ج: التحدي الأكبر هو أن أنال ثقة الحفار الأصغر سيرﮔو والشخصيات الأخرى لأنها المرة الأولى التي يتحدثوا فيها عن هذا الأمر بعد أربعين عاماً من الصمت .
س: هل تعتقدين أن كونك إمرأة قد منحك رؤية متميزة أو طريقة خاصة للتعامل مع عملية الإخراج السينمائي ؟
ج: كلا، لكن ربما، أقول ربما، كوني إمرأة ساعدني ذلك على الاقتراب من هذه الشخصيات . الكثير من الصحفيين في تشيلي هم رجال ولم يتحدث أحد من الحفارين معهم مطلقاً . ربما حساسيتي الخاصة ووجهة نظري الطبيعية ساعداني على منح تلك الثقة لهم . قال لي أحد الأصدقاء إن وجهة النظر الشاملة والعالمية والطريقة التي صوّرتِ بها المقبرة هي أنثوية للغاية . لا أعرف حقاً . ربما، لقد كان فريق العمل كله من السيدات وهن اللواتي قمن بتنفيذ المهمام الأساسية في الفيلم بما فيها الإنتاج بل وحتى المونتاج وتصحيح الألوان . استطيع القول أن جل العمل اضطلعت به سيدات .
لقد عملت مع امرأتين كمساعدات لي وكنت مديرة للتصوير ومخرجة للفيلم . بالتالي من الممكن جداً أن يكون أسلوب عمل كهذا معظمه من النساء هو نهج نسوي ما أعطى الفيلم الوثائقي هذا ميزة أنثوية .
س: ما هي خططك التي تعتزمين إنجازها في المستقبل ؟
ج: إنني أكتب سيناريو فيلمي الرابع، وهو قصة تشيلية مرة أخرى، لكنني سوف أعمل ولأول مرة مع فريق أشخاص هم في سّني، أشخاصاً ولدوا بعد الأنقلاب مباشرة وترعرعوا في بيئة سرية وهم الآن يشاركون بفعالية ونشاط في حركة تسعى إلى إدانة جلادي وقتلة النظام الديكتاتوري السابق .
س: مَن مِن المخرجين قد ألهمك في أعمالك أو تأثرت بهم ؟
ج: لقد تأثرت بحساسية بيدرو غونزاليس روبيو كمدير تصوير، وشعرت بمتعة المخرجة نينو كيرتادزي في تصويرها للإنسانية . كذلك ريثي بان، برونو مويل، وباتريسيو غوزمان بالطبع وماريانا إوتيرو وماكارينا أغيلو، وكثيرون غيرهم . وقد اكتشفت هذا العام الفيلم الوثائقي «الموثِّق» لإيفارس زفيدريس وإينس كوافا وقد أحببته حقاً بسبب الطريقة التي تم فيها تصوير العلاقة بين المخرج والشخصية الرئيسية التي صورها في الفيلم .
س: ما هو نوع المشورة التي يمكن أن تقدميها لمخرجات الأفلام اللواتي يحاولن شق طريقهن من خلال صناعة لا يزال يهيمن عليها الذكور؟
ج: أود فقط الإشارة هنا إلى ضرورة إتباع المرء حدسه الخاص للعمل في هذا الحقل سواء كان رجلاً أو إمرأة . وينبغي على المرأة أن لا تخشى من التعبير عن نفسها بسبب جنسها . لقد تم تصوير فيلمي «الباحة» وسط عالم العمال الذكوري على وجه الحصر، ومع ذلك لم أفقد قناعاتي أو أحكامي مطلقاً .
لكن مع ذلك ينبغي عليّ الاقرار إن من السهل عليَّ قول هذا لأنني ولدت في فرنسا في عائلة منفتحة جداً وفعلت ما أردت ودرست ما أحببت، وهذه الحرية هي بمثابة الإرث الثمين لنضال والدتي بالطبع، فقد كانت معنية بالنضال من أجل حقوق المرأة، ففي فرنسا مثلاً قامت بإنشاء مؤسسة لحماية وإيواء النساء مع أطفالهن اللواتي اضطررن إلى الفرار من عنف أزواجهن .
***