كان اللقاء في القاعة رقم ثلاثة آلاف ومائة وستة، أمام طاولة الخشب الرمادية المستديرة، التي تضم سبعة عشر عضواً من اثنتي عشرة دولة. كان السيد شفمير يأخذ مكانه المعتاد في وسط الحضور، وعن يمنيه البروفسور موكل، وعن يساره البروفسور كورتس، وكلاهما أستاذان في فلسفة الحضارة. أخرج السيد شفيمر ـ الذي أتم عامه الثاني والسبعين ـ نظارته المذهبة من جرابها الأسود، ووضعها فوق عينيه الزرقاوين، فغطت حاجبيه الأشيبين، واستندت على أنفه الأخنس، فظهرت معالم الجدية والصرامة العلمية في تقاسيم وجهه، الذي يميل للاستدارة، ثم خلل بأصابع يده اليسرى لحيته البيضاء الصغيرة، ثم أدار الجزء المتحرك من قلم الحبر الأسود ذي الماركة الفاخرة، الذي اعتاد على حمله في جيب قميصه الكحلي؛ ليسجل في رأس صفحة جديدة من مفكرته تاريخ المشاركة وعنوانها، ثم وضع القلم أمامه من جديد، وأعطى الإذن ببدء المحاضرة.
انتصبت السيدة ليه؛ لتعرض مشروعها. كانت امرأة في الثلاثينات من العمر، سمراء البشرة، بشعرٍ أسود غزيرٍ مسترسل، ينحدر على كتفين هزيلين يتصلان بعود نحيل مال إلى الطول منه إلى القصر، ويعتمد على ساقين دقيقيتين طويلتين، تنتهيان إلى قدمين مستطيلتين، لهما شكل ورقة شجر الكينة. أما عيناها فقد كانتا سوداوين مشربتين بحمرة، تسكنان وسط حفرتين صغيرتين شقتا على جانبي أنف يرتفع قليلاً في أعلاه وينخفض بتأنٍ في أسفله، ثم يحيط بهما رأس مستدير، بناصية بارزة عما حولها، ومن شقي عينيها انبعث شعاع يعكس وهج الذكاء المتقد في عقلها. فتحت الحاسب المحمول، وبدأت بعرض بعض اللوحات الفنية لمشاهير الرسم في أوربا، فكانت اللوحة الأولى تمثل طاولة وُضع عليها وعاء فيه سمكة وحيدة. كانت هذه اللوحة البسيطة تلخص بالنسبة لها تصور الحضارة الغربية للكون. إذ تعبِّر عن القدرة المطلقة على السيطرة على الأشياء، وإعادة ترتيب شكل الطبيعة، وتغيير محتوياتها. لم يفهم الجميع كيف استوحت هذه المعاني من هذه اللوحة البسيطة؟. ماذا يعني سمكة محجوزة في مزهرية؟ ألا يرسم الصينيون سمكة في مزهرية؟! كان هذا هو سؤال السيد مولر، لكن السيدة ليه أجابت بالنفي الشديد، فالصينيون والشرقيون عامة لا يرسمون الأسماك معزولة في قوارير، بل يصورن الأسماك في بحيرة أو نهر، أي في الرحم الطبيعي الذي تعيش فيه، وليس لديهم الهاجس الغربي للسيطرة على الطبيعة وإخضاعها، والارتفاع على مكوناتها، ومحاولة خلق جمال مصطنع تشكله اليد البشرية. إن عبقرية الرسام تكمن في قدرته على عكس الجمال الحي في الطبيعة، وليس في تجريدها وعزل مكوناتها عن محيطها. في هذه الأثناء تنحنح السيد شفيمر، وهو يعترض على الفهم الذي قدمته السيدة ليه. إن الفنان الغربي لا يعزل عناصر الطبيعة، بل يخلق أشكالاً جديدة من جمال مكوناتها. لم تعقب السيدة ليه، ولم تعد لمناقشة هذه اللوحة، بل عرضت لوحة جديدة، تصور منزلاً أوربياً ريفياً، عُلق على جداره رأس غزال مقطوعة ومحنطة. مشهد مألوف في التقاليد الأرستقراطية الأوربية. هذا النوع من الغزلان يعيش في الواحات والصحاري العربية، فهل يقطع العرب كذلك رؤوس الغزلان من أجل الزينة؟! كان هذا تعليق السيدة ليه على اللوحة، وهي تشير بعينيها للسيد عبد القادر، ففهم الرسالة، وعلم أن الوقت قد حان ليدلو بدلوه، فانتصب من على كرسيه، كان رجلاّ بهي الطلعة، حنطي البشرة، أجعد الشّعر، ادعج العينين، حليق اللحية، بشاربين عريضين يتماهيان مع شفتيه الواسعتين، بجسم ممتلئ من غير ترهل، وبصدر مرتفع بارز. اقترب من شاشة الحاسب أكثر، ثم أخذ برهة في تمعن اللوحة، ثم هز رأسه مؤكداً كلام زميلته الصينية: نعم إن هذا النوع من الغزلان يعيش في بلادنا، لا بد أن المستعمر الأوربي قد جلبها معه من بلاد العرب مع بقية الأشياء الأخرى التي كان قد نهبها من الشرق، أما عن سؤال إن كان الفنان العربي يصور في رسمه أو نحته مثل هذه اللوحة، فإني أستبعد ذلك كثيراً، نعم، إن الشاعر والأديب العربي تغنى بصيد الظباء والغزلان في صحرائه وبواديه، والفنان السّامي خلد مغامرات الصيد بنقوشه على الرقم كما هو الحال عند الأشورية والآرامية والمروية وقصور ملوك العرب، لكن لا تجد أبداً لوحة تصور رأس غزال مقطوعة بهذا الشكل الوحشي، ومعلقة على الجدار، وإن وجدت مثل هذا المشهد، فإنه سيكون تأثراً بالثقافة الغربية. فالغزال هو رمز الجمال والبراءة في ثقافة العرب، ولطالما شبهت حسناوات النساء به. هذا هو ببساطة رأيي المتواضع، ثم عاد إلى كرسيه، وجلس عليه. لكن السيد براغة البرتغالي كان له رأي آخر، فهو يستبعد أن المسلمين ـ الذين قاموا بالأعمال الإرهابية في الغرب ـ كان لديهم مثل هذه الثقافة الراقية والحساسية العالية تجاه رموز الجمال في الطبيعة! فنظر إليه السيد عبد القادر، وابتسم بوجهه، ثم أجابه بكل هدوء: يا عزيزي يبدو أن معلوماتك حول تاريخك المحلي ضعيفة بعض الشيء؛ فقد كانت بلدك حتى الأمس القريب مستعمرة إسلامية صغيرة، مع فارق أن الأمراء المسلمين ـ الذين أعطوا بلادك اسمها (برتقال) ـ لم يقطعوا رؤوس المخلوقات، ويحملوها إلى دمشق وبغداد ومراكش ليعلقوها على جدران قصورهم، بل علقوا على جدران البيوت في بلادك قوانين الرحمة والتسامح، ورسموا اللوحات الخالدة في التعايش بين المختلفين. لاذ السيد براغة بالصمت، ولم يعقب على هذا الكلام سوى أنه حرك رأسه إلى الطرف الآخر، وقد احتقن دمه، واحمرت خدوده.
ابتسمت السيدة ليه بعد هذه المداخلة، ثم ضغطت على زر (الماوس)، فظهرت على الشاشة لوحة جديدة، تمثل نابَي فيل، قد صُقلا وطُليا بماء الفضة، ثم وُضعا فوق موقد يتوسط صالة استقبال في أحد البيوت الأوربية، ثم توجهت للسيد كاميني، وسألته: هل الفنان الكاميروني يرسم مثل هذا اللوحة؟ وماذا يمكن أن تعني له؟ انتصب الشاب الكاميروني عن مقعده، وقد أقطب حاجبيه فوق عينيه الواسعتين وأنفه ذي الحجرات المترامية، فلمعت أسنانه العريضة شديدة البياض، وسط وجهه الرخامي الأسود، وقد أشار بأصبع سبابته الطويلة ذات الشكل المستطيل إلى تلك اللوحة، بعد أن حرك لسانه وسط القواطع المربعة في فمه، وهو يردد: هذا مثال واضح للوحشية والهمجية التي مارسها الغازي الأوربي على أرض أفريقيا. كيف للعقل البشري أن يستوعب قسوة قلب إنسان يفتك بذلك الكائن العظيم الفيل ـ الذي هو أروع مخلوقات الله في الغابات الاستوائية ـ فقط من أجل أن يستمتع بشهوة النظر إلى نابين من العاج يوضعان في ركن حجرة مظلمة؟! إن ذلك الفيل هو حياة بني قومي، وسر من أسرارهم، لا ينفصل عن تاريخهم وحكاياتهم. والمأساة التي حلت به على يد المستعمر الغربي ما هي إلا جزء من المأساة الكبرى التي لحقت بالإنسان والحيوان والنبات في أفريقيا بأكملها. جلس السيد كاميني في كرسيه، وهو ينكس رأسه، ويحدق في قدميه، فانتاب القاعة صمت مهيب، لم يقطعه إلا تدخل السيدة راج الهندية، بتعليقها: إن شعبي عرف الفيل وعايشه لعهود طويلة، فكان سفينته التي تحمل أمتعته وسط الغابات والأدغال، وكان أنيسه وسميره في وحشة الليل، ورفيقه في رحلة الحياة، فقدّسوه ومجّدوه حتى رفعوه إلى مرتبة الآلهة! شأنه شأن الكثير من كائنات هذا الوجود، التي تشاركت في الحياة مع بني آدم، فالتفت بينهما أواصر من المحبة والوفاء. لذلك فإنني أفهم وأقدر الآلام التي يمكن أن تحدثها هذه اللوحة الوحشية في نفس السيد كاميني! وعندها تدخل البرفسور البريطاني كورتس، بقوله: نعم، لقد ارتكب الغربيون أخطاء في علاقاتهم مع الشعوب الأخرى، وربما تتحمل بلادي النصيب الأوفى من هذه الأخطاء، لكنني أدعوا جميع زملائي ألا ينظروا بعين واحدة نظرة بتراء، بل بكلتا العينين. إن كنا قد فعلنا أخطاء فقد قدمنا في المقابل خدمات جليلة للشعوب التي استعمرناها، فقد أوصلنا لها المدنية والحضارة: الآلات البخارية، والمحطات الكهربائية، والقطارات السريعة، ومضخات المياه العظيمة، ومطابع الكتب، ومدارس العلم ..، كل ذلك يجب ألا يغيب عن أذهاننا، فإن كان الغربيون سلبوا باليد اليمنى، فقد منحوا باليد اليسرى!.
حينها طلب السيد فريدوا البوليفي ـ القادم من أمريكا الجنوبية ـ الإذن بالمداخلة، فوجه حديثه للسيد كروتس، قائلاً: سيادتكم تبررون الأخطاء الكبيرة بحفنة من المكرمات. يسرق أحدهم دجاجتي، ثم يرمي لي ببعض ريشها! إن إبادة أقوام بأكملها في الأمريكيتين لم يترك لهم متسعاً من الوقت ليستمتعوا بسماع راديوا (البي بي سي)، أو مشاهدة لعبة (الغولف)، إنني شخصياً لا أحب الحديث عن الماضي، فلا أريد أن أحرك جثماناً هامداً؛ لأن ذلك عبث بقدسية الموت، لكنني لازلت أذكر تلك اللوحة الشهيرة، التي يقف فيها راهب مسيحي إسباني وبيده الصليب أمام أحد زعماء قبائل الأرض القابعة خلف البحار، وهو معلق على جذع شجرة بانتظار تنفيذ حكم الإعدام به حرقاً على يد جنود أسبان، لا لشيء سوى أنه دافع عن أرضه وشعبه، يعرض عليه الإيمان بالمسيح الرحيم، فيفضل ذلك الزعيم القبلي الذهاب إلى الجحيم على الذهاب إلى جنة فيها أسبانيون، أرجو ألا يفهمني بعض زملائي بصورة خاطئة، فأنا شخصياً مسيحي، لكنني أردت أن أبيّن للسيد كروتس المعاناة التي لقيها شعبي على يد أقوام من الأوربيين!.
فأراد البرفسور البريطاني أن يتكلم من جديد، لكن السيدة نوريه الأسبانية رأت أن تسرّي قليلاً عن زميلها البوليفي، فأسرعت برمي عبارة لطيفة ساخرة، قبل أن يكمل البرفسور البريطاني فتح فمه، قالت: أؤكد لك يا صيديقي العزيز فرديوا أن الأسبان لم يعودوا بهذا القدر من السوء! وقد كفوا عن حرق الآخرين منذ فترة طويلة! وقد أرسلوا محاكم التفتيش من غير رجعة إلى قعر حفرة مظلمة من التاريخ، فلا مزيد من قطع الألسن، وقلع الأعين، وهرس النهود!.
ثم أرادت السيدة ليه أن تعرض لوحة جديدة، لكن السيد شفيمر اعتذر لها بأن وقت الحلقة البحثية لم يعد يسمح بذلك، ثم أردف بقوله: حقاً أيها الزملاء كان الماضي محملاً بالكثير من الأخطاء والمعاناة، ولا نريد أن نضع الغرب مجدداً ـ كما فعل المؤرخ البريطاني السيد تونبي ـ مقابل العالم، بل الغرب جزء أصيل مكمل للآخرين، وليس كياناً مستقلاً متعالياً عليه، ويضرب اليوم المثل في احترام الآخر، وسن التشريعات، التي تصون كرامة الإنسان، وتحمي الحيوان، وتحافظ على النبات، بل كذلك تحافظ على الجمادات، كما هو الحال في حماية المكتشفات الأثرية. الغرب اليوم يفتح ذراعيه لحوار حضاري إنساني مشترك، ولحرية التعبير. وأكبر دليل على كلامي هذا هو لقاؤنا الدوري في حلقة البحث هذه، في قاعة من قاعات إحدى أهم الجامعات الأوربية وأعرقها . إنكم تجلسون في المكان الذي جلس فيه يوماً من الأيام فلاسفة ألمانيا العظماء: هيغل، ونيتشه، وماركس، وفيبر، وزمل، وفون همبولدت، وفيخته، وغيرهم الكثير؛ لتنتقدوا بكل حرية ورحابة صدر سلوك الغربيين في المرحلة الاستعمارية. إن هذا مؤشر بالغ الأهمية على الوجه الإنساني في الحضارة الغربية. وإذا كنا حقاً مختلفين في الأعراق والأديان والحضارات، فإن ذلك يجب ألا يكون سبباً في تفرقنا، بل علينا أن نصنع من هذا الاختلاف لوحة فسيفسائية متكاملة. إن اختلاف الألوان الزاهية وتغايرها لم يمنع الشمس من أن تخلق منها لوحة خلابة عندما تخترق أشعتها الذهبية جبال القطن الطائرة؛ لتتوج ناصية الأرض قوساً قزحياً رائعاً، وربما لا يكون من الصدفة أن عدد ألوان الطيف سبعة، وكذلك قارات الأرض سبعة. فكما أننا نستطيع بمزج الألون أن ننتج ألواناً جديدة، ونشكل بها لوحات عديدة، فكذلك بتفاعلنا كبشر نستطيع أن نرسم صيغاً حضارية إنسانية متعددة. دعونا أيها الزملاء ننسى ما كان من ماضينا، ونبدأ صفحة جديدة، نتشارك فيها الحياة معاً باحترام متبادل، وروح أخوية إنسانية صادقة.
ثم توجه السيد شفيمر للسيدة ليه بالشكر على مشاركتها، ومن ثمّ ضم أصابع يده اليمنى، وقرع بها ظهر الطاولة، وكذلك فعل الجميع؛ تعبيراً منهم عن الإعجاب بالمشاركة التي قدمتها.
النهاية

