السينما سلسلة من الأكاذيب هدفها تقصّي الحقيقة/ لقاء مع المخرجة الجورجية نينو كرتادزه

2018-09-11
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/29a95e67-aff4-4cee-8fe5-85db27d2569f.jpeg
إسلوبياً، تنتمي أفلام المخرجة السينمائية الجورجية نينو كرتادزه إلى منهج «سينما الحقيقة» الذي سبق وأن ابتكره المخرج السينمائي والأنثروبولوجي الفرنسي ‪»‬جان روش» والذي استوحاه من المخرج والمنّظر السينمائي الروسي دزيغا فيرتوف بما كان يُعرف بـ «سينما الحقيقة»، في عشرينات القرن الماضي . 
 
إن منهج «سينما الحقيقة» يؤكد على عنصرين حيويين أساسيين في الفيلم الوثائقي هما الارتجال وعين الكاميرا «أي عين المخرج» للكشف عن الحقيقة أو تسليط الضوء على ما يختبأ خلف تفاصيل الواقع اليومي . إنها السينما المباشرة الخالصة أو سينما الرصد التي كثيراً ما تسعى إلى تجّنب كل ما يُقحم على الفيلم من خارجه، كصوت الراوي أو المعّلق، الموسيقى أو المؤثرات الصوتية وسواها . هذا النوع من السينما معّني بتسجيل الأحداث التي يصبح فيها الوسيط غائم بين الموضوع والمتفرج، أعني الكاميرا وتدّخل المُخرج، لأن "الكاميرا الوثائقية"، إذا جاز لنا القول، تسعى حقاً إلى أن تكون حيث لا ينبغي على من يعمل خلفها عادة أن يكون ! . وهذه مفارقة جمالية محيرّة وملغّزة . 
 
تستمد أفلام نينو كورتادزه طاقتها وتأثيرها من غنى الواقع أولاً، ومن ثم عبر أسلوب معالجاتها الإخراجية للثيمات المنتقاة بدقة وحذر من ذلك الواقع، فضلاً عن رصدها الدقيق للأحداث الاستثنائية وغير العادية . 
 
كورتادزه تقيم، في أفلامها، علاقة سرية وخفية مع الشخصيات التي تقوم برصدها وتصويرها، فهي تطلق اشعاعاتها وتأثراتها عليها من خلف كاميرتها «عينها السينمائية» بشكل خفي فطن غير محسوس، وهذه واحدة من السمات البارزة والمميزة لجماليات نظرية دزيغا فيرتوف بشأن «سينما الحقيقة» .
 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8694b0ee-b2b3-4373-aff8-b5b85e608e3d.jpeg  

 «لهذا السبب أحب السينما الوثائقية».. تقول كيرتادزه.. «إن ما يفتنني فيها دائماً هو ذلك الارتباط الوثيق والعميق بين الشخص الذي يتواجد أمام الكاميرا والشخص الذي يعمل خلفها» .
 
إن الهدف الجمالي الفكري والفلسفي الذي تسعى نينو كيرتادزه لتحقيقه في أفلامها هو محو الحدود بين الكاميرا والموضوع، بين التوثيقي والفني، بين الواقع والخيال . معالجاتها السياسية الخلّاقة ومناوراتها البارعة وجرأتها الفريدة تفضي دائماً إلى خلق حبكات ملتوية مبهرة ومثيرة للجدل على الدوام . إنها ثيمات تتمحور حول وطنها جورجيا، هموم أناسها ومجتمعها، عاداتهم وتقاليدهم، ثقافتهم، تضاريس بيئتهم الغنية والخلابة، فضلاً عن معالجاتها لموضوع الهوية الوطنية في وضع عالمي متزايد التعقيد .
 
ولدت نينو كرتادزه عام ١٩٦٨ في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا السوفيتية (آنذاك)، وهي حاصلة على درجة شهادة ماجستير في الأدب . 
شرعت إبان تخرّجها في كتابة البحوث والدراسات الأدبية والنقدية حول أدب القرون الوسطى على وجه التحديد، ثم ما لبثت تكتب مقالات سياسية تحريضية إثر أول قمع دموي مارسته القوات الروسية ضد الجورجيين الذين كانوا يطالبون بالحرية، وتلك هي المرة الأولى التي يدنو جيلها من حواف الموت والحرب . يومها علقّت بطرافة وتهكم : 
«كان الوضع سوريالياً حقاً . أتّذكر أن الناس كانوا يتظاهرون خارج مكاتبنا مطالبين بالحرية والاستقلال فيما نحن غارقين في بحث وقراءة نصوص القرن الثالث عشر والرابع عشر» .

جرت الأمور بعدها بشكل متسارع حيث شهدت نينو انهيار الاتحاد السوفييتي في ٩ أبريل ( نيسان ) عام ١٩٩١ واندلعت
العديد من الصراعات في المرحلة التي تلت ذلك السقوط خاصة في جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وبدء الحرب الشيشانية الأولى . 
 
الاضطرابات التي حدثت في القوقاز دفعتها للعمل كمراسل حربي لصالح وكالة فرانس بريس ووكالة الأسوشييتدبريس لتغطية الحرب في الشيشان وسواها من الصراعات المسلحة حيث أمضت قرابة الأربع سنوات هناك :
 
« كان ذلك العمل هو من شّكل شخصيتي وما غدوت عليه فيما بعد . أعتقد أن ثمة شيئاً ما يحدث لك حين تكون على مقربة من الموت والمعاناة . تتطلع إلى العالم من حولك، من حولي أنا على أية حال، وهو يتغير أمام ناظري... » .

حين توّقف إطلاق النار في الشيشان عام ١٩٩٦ تلقت نينو مكالمة هاتفية من مخرجة سينمائية فرنسية من أصل جورجي اسمها نانا جورجادزه، تطلب منها القيام بأداء الدور الرئيسي في فيلم سينمائي جورجي مشترك بعنوان "رئيس الطهاة عاشقاً" . وافقت نينو على الفور بالطبع وقد أُنجز الفيلم ثم رُشح لعرضه في مهرجان كان السينمائي . طُلب منها السفر إلى باريس والمكوث هناك مدة شهر للترويج للفيلم في المهرجان، حينها اعتقدتْ أنها ستبقى لبعض الوقت في باريس لكنها فكّرت في ما إذا بإمكانها متابعة أحلامها الوثائقية هناك كما تقول . حصل فيلم "رئيس الطهاة عاشقاً"على جائزة مهرجان كان وتم ترشيحه لجائزة الأوسكار .

« كان الأمر مضحكاً حقاً » تقول كرتادزه... « فحين وصلت باريس لم تكن لديّ أية فكرة عن مدى الصعوبة التي يمكن فيها تحقيق مثل هذه الأحلام . لقد اتصلت هاتفياً بأحد المنتجين الكبار فأجابتني سكرتيرته : ( من يتكلم؟ )، قلت لها أنا نينو كرتادزه . ( من؟ ) . وبعد ثوان تلقيت الإجابة ذاتها ( إنه في الخارج، أو غير موجود، أو شي من هذا القبيل ) . وهكذا جرى الحال على هذا المنوال لفترة من الوقت، ومع ذلك استطعت في النهاية أن أخرج فيلمي الأول، والثاني، وامتدت مدة مكوثي في باريس لتصل إلى ما يقرب العقدين الآن . 
لقد كنت محظوظة في حياتي وعملي حقاً . إنني أؤمن بالمعجزات وقد تحققت هذه المعجزات بشكل واقعي في حياتي » .
لعبت نينو كرتادزه دوراً آخر في فيلم آخر للمخرجة نانا جورجادزه هو «صانع قوس قُزح» عام ٢٠٠٨ .

كمخرجة وثائقية، كرتادزه، هي واحدة من المخرجين الجورجيين القلائل ممن شيّدوا حضورهم السينمائي الأول في فرنسا، فقد استطاعت أن تثبّت شخصيتها السينمائية كإحدى السينمائيات الوثائقيات المميزات في جميع أنحاء العالم وذلك من خلال جرأة ثيمات أفلامها ومعالجاتها الفريدة لدراما الواقع .
 
تعيش كرتادزه في فرنسا منذ عام ١٩٩٧ وهي تجيد اللغات الروسية والفرنسية والإنكليزية إضافة إلى الجورجية لغتها الأم . عملتْ مع مخرجين كبار أمثال بيتر بروك، بن گازار، فيتوريو گاسمان، جان بيير آمريس، كلود گوريتا، فيليب مونير، جيرارد بيرس وأليفر لانغلس وسواهم، فضلاً عن نشاطها الملحوظ في المنظمات الوطنية والدولية والمعاهد السينمائية المختلفة .  
 
حازت أفلامها على شهرة عالمية وجوائز عديدة مرموقة في جميع أنحاء العالم بما في ذلك جائزة أفضل مخرج في مهرجان سانداس عن فيلمها دوراكوفو أو «قرية المغفلين»، وجائزة أكاديمية الأفلام الأوروبية عن فيلمها «خط الأنابيب المجاور»، والجائزة الذهبية الألمانية الكبرى أدولف غريم عن فيلمها الوثائقي «التهويدة الشيشانية»، وكذلك جائزة المهرجان السينمائي العالمي «سينما الحقيقة» في باريس عن فيلمها «أخبروا أصدقائي أني مّت» . (*)
تم تصوير معظم أفلام كرتادزه إما في جورجيا، بلدها الأم، أو في روسيا، أو في العلاقة بينهما، وهذا أمر نادر جداً لشخص يعيش ويعمل في فرنسا وغالباً ما يعود إلى جذوره، وليس ثمة استثناءآت كثيرة تشذ عن هذه القاعدة حتى إذا تنوعت الموضوعات التي تقوم بمعالجتها .

نص اللقاء:

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a4b10dfa-f08a-446a-9194-8bcdefc98fa7.jpeg
                         
   «السينما سلسلة من الأكاذيب هدفها تقصّي الحقيقة»

ـ حدثينا عن جمالياتك وأفكارك حول فن السينما ؟
 
ـ* إن تكوين إطار اللقطة (**) وحركة الكاميرا والإضاءة وكل ما هو موجود في مقدمة الصورة وخلفها والطبقات أو الشرائح أو المستويات، جميعها أمور غاية في الأهمية إذا أردنا الحديث عن السينما . وهذه هي السينما . الشيء الآخر هو الطاقة . ما هي طاقة السيكوينس (***) وكيف يمكن إحرازها عند القيام بتصوير شيء ما، بغّض النظر ما إذا كان الفيلم وثائقي أو روائي ؟ .
 ينبغي أن يتضمن السيكوينس طاقة  مفعمة بالحياة لأن خلاف ذلك يصبح مجرد صورة جميلة ليس أكثر . ومن أجل أن يصبح الفيلم شيئاً حيوياً هو بحاجة إلى أن يتنفس .
 
ـ ما هو أفضل فيلم قمتِ باخراجه ؟ وما هي انطباعاتك حول الأفلام التي أنجزتِها ؟
 
* كان في فرنسا رساماً اسمه بونارد . قامت إدارة متحف اللوفر يوماً بشراء لوحاته وعرضها في المتحف . حين أصبح حلم بونارد حقيقة، تمنى حينها أن يحمل ألوانه وفرشاته ويذهب إلى المتحف في محاولة لتصحيح بعض الأخطاء في لوحاته المعروضة . لكن ذلك كان شيئاً محال . 
أعتقد إن شيئاً شبيهاً بهذا يحدث للمخرج السينمائي . فأنا مثلاً عندما أشاهد أفلامي التي أخرجتها، أقول لنفسي «حسناً، ربما كان عليّ أن أغيّر هذا المشهد أو ذاك، أن أجري تغييراً هنا وهناك» . إلا إن ذلك غير ممكن، لقد انتهى الأمر . 
إن أفضل فيلم هو الفيلم الذي أنت على وشك القيام بعمله في المستقبل في مكان ما . رغبة الفنان في مواصلة عمله وعدم التوقف هو ما ينبغي عليه القيام به دائماً .
 
ـ أي من أفلامك كان الأسهل في تصويره أو الأكثر بساطة وألفة بالنسبة لك ؟
 
* لا أحد منهم . لم يكن أيّ منهم سهلاً . كل فيلم له تأريخه وحكايته وسّجله الخاص به لأسباب  تتعلق بأمور شتى، كطاقم العمل، موقع التصوير، نوع الثيمة، الناس الذين ستقوم بتصويرهم، التحديات التي ستواجهها، فكل تّحدٍ مختلف دائماً عن التحدي الآخر . عموماً، أنا أحب وأكره أفلامي على حد سواء . 
 
ـ  ما هي العلاقة بين أفلامك وتقصّي الحقيقة ؟ هل تعتقدين أن أفلامك تبحث عن الأصالة والمصداقية ؟
 
* أعتقد أن «الحقيقة» و «الواقع» هما أمران غاية في الأهمية، لكنهما مختلفان بالطبع . إن ما يسميه الناس «واقع» هو فكرة ضبابية تغشى البصر . لنفترض أن لدينا كاميرا… ما هو «واقع» الكاميرا ؟ . واقع الكاميرا هو ذلك الذي اخترته أنت، والذي سيصبح واقعك أنت في النهاية . وهذا هو الأمر المثير للاهتمام جداً بشأن الإخراج الوثائقي .
دور المخرج هنا هو أن ينتقي جزءاً من تلك الفوضى التي يسمونها الناس «واقع». طيب، ماذا سيكون واقع إطار اللقطة الخاص بك ؟ (**) وما هو الشيء الذي تريد التركيز عليه في ثيمتك ؟ 
إن اللحظة التي يتم التركيز فيها على ( الباب ) مثلاً، تصبح تلك الباب هي الخيار . إذن، اللحظة هي التي تقرر الأمر الأساسي أو الشخصية الرئيسية في فيلمك الوثائقي، ومن بعد تأتي المراحل الأخرى، تقطيع الصورة، تقطيع الصوت... وسواه . لكن الأمر الرئيسي دائماً له شأن بالخيارات .
 
ـ هل يمكن أن تحدّثينا قليلاً عن ثيمة الموت في فيلمك «أخبروا أصدقائي أني مُتّ» ؟
 
*  كنت قررّت قبل سنوات عديدة مضت أن أبحث ثيمة "الموت" في فيلم وثائقي في إطار مفهوم الموت، لكن بالإمكان تحويله في ذات الوقت إلى نشيد وثناء للحياة . كيف ؟ كانت رغبتي تتمحور حول ربط أواصر الطرفين، أعني الموت والحياة معاً . كنت أحلم بفيلم مفعم بالطاقة والقوة والحيوية تجعلني قادرة في الحديث عن الحياة عبر الموت .
لقد ارتكز مشروع الفيلم هذا بشكل جوهري على ذكريات من طفولتي : عن صور بقيت مخزونة في ذاكرتي لجنازات شهدتها
في جورجيا، هناك حيث ولدتُ . ووفق عادات وأعراف بعض المناطق المحددة، يحتفظ الأحياء بموتاهم بروابط متينة تجعلهم يواصلون الحياة كما لو أنهم لا زالوا أحياء . 
عنوان الفيلم "أخبروا أصدقائي أني مُّتْ"، ومصدر هذا الاسم كان نقشاً على ضريح عثرت عليه في إحدى المقابر خلال رحلة بحثي عن موقع للتصوير في غرب جورجيا . 
كان النقش يتضمن كلمات المتوفي على لسانه يدعو فيها جميع معارفه أن يجلسوا ويشربوا بالقرب من قبره . كما يطلب منهم أن يأتوا لرؤيته دائماً وأن ينشدوا له أغانيه المفضلة كي لا يشعر بالضجر والوحدة في قبره، مجدداً رغبته بمواصلة حياته .  
كان ثمة شيء سوريالي حول هذا الواقع الذي رأيته . شيء قوي لا يُّصدق بشأن هذه الطريقة في مواجهة الموت والابتهاج بالحياة والتي انبثقت جميعها من خلال تلك النقوش الغرائبية في المقبرة . 

"أخبروا أصدقائي إني مُت" هو أكثر أفلامي جنوناً وتناقضاً . لهذا السبب أجدني أختزن مثل هذه الذكريات الأثيرة عنه . كان تحدياً حقيقياً لنا جميعاً، تحدياً لفريق العمل ولمدراء الانتاج وللقناة التلفزيونية التي أنتجته . نجاحه والجوائز التي نالها كان بمثابة ثناء لمخيلة الواقع، مكافأة للعالمين الحقيقي والسوريالي معاً، حيث الضحك والدموع يمتزجان، وحيث الحزن والفرح يتعايشان، وحيث الحياة والموت يصبحان شيئاً واحداً .
منذ تلك اللحظة ولغاية الآن، حين أُسأل عن أي شيء يتحدث هذا الفيلم، لا أعرف ماذا أقول حقاً : هل يتحدث عن الحياة
والموت ؟ عن الحزن والفرح ؟ أم عن الحب والخلود ؟ . نعم، لا زلت أجهل الإجابة عن هذا السؤال، لكنني أشعر بسعادة غامرة لأنني أنجزته .
                                                                           
ـ «دوراكوفو أو قرية المغفلين» هو فيلم وثائقي، بمعنى أنه يوثق أحداثاً واقعية . ما مدى حقيقة ما يحدث في هذه القرية بالنسبة لروسيا اليوم ؟
 
* دوراكوفو أو قرية المغفلين هو بورتريه وثائقي لدكتاتور روسي معاصر تم تصويره في مكان غريب جداً يشعر المرء من خلاله ما يمكن أن تفعله سلطة الاستبداد بالإنسان . إن تواجدي في تلك القرية اللغز كان هو الآخر غريباً جداً، بالنسبة لي على الأقل، فقد ذكرّني بطريقة جدتي حين كانت تروي لي قصصاً وأنا طفلة . كانت جدتي تتحّدث بصوت خفيض ومهموس خشية أن يسمع أحد ما شيئاً لا ينبغي عليه أن يسمعه، أعني وجهات نظرها السياسية . هناك، في تلك القرية، أدركت تماماً مغزى الطريقة التي كانت تتحدث بها جدتي عن زمن الثلاثينات ونظام حكم ستالين . 
كتجربة شخصية، ذهابي إلى هناك وشروعي في تصوير فيلم كهذا كان شيئاً لا يُصّدق تماماً، شيء فريد من نوعه بهذا المعنى . إنه فيلم حقيقي، حقيقي وواقعي تماماً ! . قد يبدو غير قابل للتصديق لكنه حقيقي . التجربة كانت بالشكل التالي : أنت تشهد ما يحدث أمام عينيك ولا تريد تصديقه، لكنه حقيقي وواقعي . إذن، عليك التسليم به ومن ثم التأمل والتساؤل : «لماذا يحدث هذا ؟ . من الذي يدعم هذا الدكتاتور الصغير؟ وكيف حدث، وإلى أي مدى يمكن للناس أن يتعايشوا مع هذا الافتتان بهذه القبضة الحديدية وهذا المستبد ؟ 
إن ما يحدث في دوراكوفو على نطاق ضيق هو بمثابة صورة مصغرة لما يحدث في باقي أنحاء البلاد . لقد كان الأمر بالنسبة لي حقاً بمثابة استعارة أو مجاز للسؤال الأكبر: إلى أين تتجه روسيا اليوم، وماذا حدث للناس، وماذا سيحدث أيضاً ؟
 
ـ كيف عثرت على هذه القرية وكيف أمكنك مقابلة حاكمها المستبد ؟
 
* لقد سمعت عنه وشاهدت بعض اللقطات في التلفزيون الروسي تتحدث عن قدراته وعظمته وكيف أنقذ الجميع من شتى الآثام والخطايا لأن هناك أشخاصاً في قريته كانوا يعانون من مشاكل عدة : الإدمان على الكحول والمخدرات والتهميش حيث ليس بوسع الكثير منهم العثور على موقع لهم في المجتمع . 
البعض من رواده يبقى لفترة ثم يغادر والبعض الآخر يرفض مغادرة المكان على الاطلاق، فثمة من بقي في القرية منذ تأسيسها، أي قبل أحد عشر أو إثنا عشر عاماً مضت . وهذه القرية، وفق رؤية مالكه وحاكمه موروزوف نفسه، هي بمثابة الفضاء الذي سيتشكل فيه إنسان جديد لروسيا جديدة . هناك سيتعرف القادمون من كل أرجاء البلاد على القيم الروسية الجديدة المعلنة وكيفية ممارستها وهي: الإيمان بالرب، القيصر، ووطن الأسلاف . وهذا هو شعار القرية ! .
 
ـ ما يتعلق بالايمان بالقيصر، هل يمكنك تحديد مغزى القيم الجديدة المتعلقة بهذا الايمان ؟ 
 
* إنهم يعشقون رئيس بلادهم بوتين ! . حاكم القرية هذا لا يتفوه بأية جملة مع طلابه أو مريديه دون ذكره . ليس هذا فحسب، إنما يحاكيه أيضاً في ممارساته اليومية، لا بل يعتقد أنهما، هو وبوتين، متشابهان ومثاليان، وهذا ما تحتاجه روسيا، على حد قوله ! . أصدقاؤه السياسيون يأتوا لزيارته ويقولوا الشيء ذاته . يمكنك سماع ذلك في الكنيسة أيضاً وفي كل مكان، إلى الحد الذي ينتابك فيه شعور غريب أن الحكاية نفسها تتكرر من جديد مرات ومرات . وهذا الشيء بالنسبة لي محزن على الصعيد الشخصي، لأن جدي كان روسياً وأنا أحب روسيا، أحب الثقافة الروسية لأنني نشأت وكبرت معها . إن رؤية وجع الناس ومراراتهم بشأن الآمال التي لم تتحقق ولم يتم الوفاء بها كما وعدوا تتحول إلى شيء مقرف حقاً في المستقبل، كل هذا يجعلني حزينة للغاية . 
إن رؤية الطابع الوطني الرائع وهو يتضاءل وينكمش بالتدريج، رؤية الطريقة التي يجري فيها التلاعب بالقيم الكاثوليكية على هذا النحو، كل ذلك  يجعلني أتسائل، «إلى متى سيظل الناس يدعمون ذلك ؟ وكم بالغ هو صبرهم في الاستمرار على هذا ؟» .
 
ـ أرجوا أن تحدثينا، ولو قليلاً، عن الطريقة التي عُوملتِ بها في القرية ؟ 
 
*  أوه، هذه قصة طويلة. كانت فترة التصوير كئيبة ومفزعة تماماً . كنا نشعر ولأول مرة ولمدة شهر كامل بالقمع وعدم اليقين حول ما سنفعله لاحقاً، أو ماذا سيحدث، وكيف سيكون رد فعل حاكم القرية هذا على الطريقة التي كنا نعمل بها . كنت متعبة ومتوترة جداً وقد أحسست بإرهاق طاقم العمل كذلك . كنت أحس في كل لحظة أنه سيرفض مشروع تصويرنا للفيلم ويقوم بطردنا من القرية لمجرد طرحنا أسئلة من شأنها أن تثير أعصابه أو القيام بشيء ما خاطىء أو أزعاج طلابه أو مريديه بأسئلة لا يُّحبذ هو أن أطرحها عليهم . 
في اليوم الأول دعانا لتناول الشاي وسألني سؤالاً غريباً ما إذا كنت أتذّكر كيف توّفي تروتسكي ! ؟ ومن ثم واصل حديثه بطريقة تهديدية بقوله: «لا تنسي بأن فرنسا ليست بعيدة من هنا» ! . لقد أصبت بالفزع وكان مساعدي يصغي له وهو يرتجف من الخوف طوال الوقت .
 
ـ ماذا تأملين من هذا الفيلم ؟
 
* آمل أن يكون باستطاعة الناس في روسيا مشاهدته كما وأتمنى لهم مستقبلاً آخر أفضل . أعتقد أنهم يستحقون العيش أفضل بكثير مما هم عليه الآن .
 
ـ  ما هو مستقبل فن السينما، ربما بالنسبة لك شخصياً، أو السينما بشكل عام ؟ أعرف أن هذا السؤال واسع وملتبس، لكن ما الذي تعتقدينه سيحدث لاحقاً بالنسبة لهذا الفن ؟
 
* أعتقد أنه سيكون ثمة إعادة اكتشاف أو ابتكار فلا بد من التجديد . ثمة نقاشات واسعة وعميقة تدور اليوم في فرنسا بشأن المسموح وغير المسموح به في الفيلم الوثائقي . فهناك أفلام وثائقية مثلاً تستخدم ممثلين وأخرى تعيد تمثيل الأحداث . الأمر شبيه بولادة طفل يبدأ في النمو شيئاً فشيئاً ولا يمكنك أن تضع هذا الطفل في علبة وتقول له «الآن يجب أن تتوقف عن النمو» . إنه كائن حي، كذلك الفيلم . لذا أعتقد أن الكثير من الأمور ستتغير لاحقاً . لو نظرنا إلى السينما على نطاق واسع سنجد أن الحدود بين ما هو وثائقي وروائي أصبحت غائمة جداً حقاً . خذ الطريقة التي تم فيها تصوير فيلم «الطريق إلى غوانتانامو» مثلاً (****) ستجد أنه صّور، وبقصد، بطريقة أشبه بتصوير الفيلم الوثائقي . وإذا نظرت إلى الفيلم الوثائقي اليوم سترى أن الأسلوب الذي يتبعه أصبح قريب جداً من أسلوب الفيلم الروائي .
أعتقد في الآخِر، أن الوثائقي والروائي كلاهما يتقصى الحقيقة، وهذا هو الأهم . غودار قال مرة «السينما هي سلسلة من الأكاذيب غرضها تقصّي الحقيقة» وأنا أتفق مع ذلك .
حين تحاول وضع مجموعة عناصر جنباً إلى جنب لرؤية ما إذا كان سينبثق من ذلك شيء ما، شيء يسطع كالحقيقة، فكّر فقط في الكيفية التي يمكنك فيها الغوص تحت السطح هناك حيث تكمن الحقيقة . إنه شيء يتماهى والبحث عن أحجار الماس . هناك تحت الأرض يكمن حجر الماس فما عليك سوى أن تحفر عميقاً لتعثر عليه . هذا الشيء شبيه بعملنا تماماً وأظن أن هذا البحث سيتواصل دون توقف .
 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/d2d13148-d6b0-4317-9fcb-e038c159b140.jpeg  
 

   //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8bccfd8d-8525-450b-89b3-a64c7fe0e807.jpeg                                                     
  ***

هوامش:
ـــــــــــــــــ
(*)
أفلام نينو كرتادزه :
ـ «ثلاث حيوات لأدوارد شيفرنادزه» ٢٠٠٠
ـ «كان يا ما كان في الشيشان».  ٢٠٠١
ـ  «ستالين بقلم ستالين» ٢٠٠٣
ـ «جنازة الرب» ٢٠٠٣
ـ «أخبروا أصدقائي أني مت» ٢٠٠٤
ـ «التنين في مياه القفقاس الصافية» ٢٠٠٥
ـ «دوراكوفو، أو قرية المغفلين» ٢٠٠٧
ـ «باسم الرب، القيصر، ووطن الأسلاف»، أو «من أجل الايمان، القيصر، ووطن الأسلاف»  ٢٠٠٧ 
ـ شيء عن جورجيا ٢٠١٠ 
ـ «جورجيا تبحث عن أوربا باستماتة» ٢٠١٠
ـ «الخطأ» ٢٠١٤ 
ـ لا تتنفس ٢٠١٤
 
(**)
 
 إطار اللقطة (frame) يتضمن صورة واحدة ثابتة، ولأجل أن تتحرك الصورة سينمائياً على الشاشة ينبغي تتابع هذه الأُطر (frames) على الشريط السينمائي (السيللويد) فهو الذي يوحي بالحركة عند عرضه على الشاشة وذلك بفضل خاصية العين المعروفة بـ “استمرارية الرؤية" . ومن الجدير بالذكر أن كل قدم من الفيلم مقاس ٣٥ مللم يحتوي على  ١٦ إطار صورة ثابتة ويمر هذا الفيلم خلال آلة العرض بمعدل ٩٠ قدماً في الدقيقة، أي بمعدل ٢٤ إطار في الثانية الواحدة . ويعرف إطار الصورة في اللغة الدارجة (كادر) المأخوذ أصلاً من الفرنسية .
 
(***) 
 
السيكوينس: (sequence) هو سلسلة من المشاهد أو اللقطات تشكل الوحدة السردية المتميزة للفيلم والتي ترتبط بعضها ببعض عادة إما عن طريق وحدة المكان أو الزمان أو وفقاً للشكل أو الموضوع .
 
(****)
 
فيلم «الطريق إلى غوانتانامو» فيلم دوكو ـ دراما بريطاني تم إنتاجه عام  ٢٠٠٦ سيناريو مايكل وينتيربوتوم ومات ويكروس وإخراج مايكل وينتيربوتوم . وهو يتحدث عن القاء القبض على ثلاثة مواطنين بريطانيين عام ٢٠٠١ في أفغانستان واحتجازهم من قبل الولايات المتحدة لأكثر من عامين في معسكر الاعتقال في قاعدة خليج غوانتانامو البحرية . كوبا . لعب أدوار الفيلم : رز أحمد بدور شفيق، فرهاد هارون بدور راحيل، وقّار صّديقي بدور منير، أفران عثمان بدور أسيف إقبال، ومارك هولدن بدور محقق قندهار . فاز الفيلم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي وحصل على جائزة الروح المستقلة independent Spirit Award كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان ساندانس السينمائي .
 
                                                              ***

a‪_‬film50‪@‬yahoo‪.‬co‪.‬uk
                                                                        

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved