رأيتُ صديقي عبد الرحمن قادما إلى منزلنا في خطوات عَجلى، فهرعتُ إلى الباب أفتحه، وبادرت بالتحية :
- مرحبا عبدَ الرحمن .
لم يرد على تحيتي. أمسك بيدي، وسار بي نحو الشارع .
- ولكن عبدَ الرحيم انتظر، أريد أن أغير ملابسي وأخبر والدتي ..
- لا يهم، لا يهم.. ليس الآن .
ومضى بي في دروب ملتوية قادتنا إلى المدينة القديمة . كان بعض السياح الأجانب ينظرون من "الطيقان"[1] إلى ضوء القمر ينعكس على وجه البحر، ويلتقطون صوراً تذكارية. لم يتوقف عبد الرحمن هذه المرة ليحاور بعضهم حواراً ينتهي بحصوله على علبة سجائر أو حامل مفاتيح.. كان ما يزال ممسكا بيدي ومُهَرْوِلا بي إلى حيث لا أدري .
وحينما تجاوزنا قصر الرَّيْسوني[2] بخطوات قليلة وقف بي أمام منزل جميل يملكه أحد الأجانب الذين امتلكوا جزءاً كبيرا من المدينة القديمة . في الداخل وجدنا ديفيد David وماري Marry في انتظارنا .
ديفيد زبون إنجليزي يتردد على المطعم كثيرا.. يجلس دائما إلى طاولة في آخر ساحة المطعم . يتناول طعامه هو وماري، ويقضيان بعض الوقت في الحديث، وأشعر بهما يتتبعان تحركاتي أثناء العمل، وعندما يهمان بالإنصراف يغدقان عليَّ بسخاء؛ فأبقى لحظة مرددا أمامهما :
- Thank you very much..thank you very much .
قال ديفيد : "أنت يا أحمد شاب جيد . لقد أعجبتنا أناقتك وجديتك في العمل . لدينا مطعم في إنجلترا ونريدك أن تشتغل معنا هناك.." .
كنت أستمع لكلامه في ذهول وأنظر بين الحين والحين إلى صديقي عبد الرحمن . لم أتوقع يوما أن أتخلص من العيش في هذا العذاب... سَلامٌ عليك أيها المطعم . سَلامٌ عليك أيتها الكلية . لقد استنزفتماني طويلا . عشت زمنا مشتتا بينكما، حتى إن أحدهم قال لي يوما بخبث أو حسن نية : "هل تشتغل لتدرس أم تدرس لتشتغل ؟" . لقد حان وقت وداع هذه الإزدواجية في أرض لا تكف عن تعذيب أبنائها .
شعرتُ بخفة ونشاط وأنا أغادر منزل ديفيد مع عبد الرحمن، وانتابتني رغبة في الغناء ونحن نسير في دروب المدينة القديمة.. لم أمن أتبين جيدا ما يقوله صديقي.. كان صوت الفرح في أعماقي يعلو كلَّ صوت سواه..
مضى زمن وأنا أنتظر موعد السفر، وحل يومي الموعود . جمعت حقيبتي، وتوجهت إلى المطار مع ديفيد . ترافقني أمي وصديقي وعبد الرحمن... مرت لحظات تَنازَعَتْني فيها مشاعر متضاربة بين حزن أمي وفرحة صديقي عبد الرحمن.. ثم وضعت قدمي على أدراج سلم الطائرة . كنت وأنا صاعد ألوح بيدي لأمي وصديقي . وعندما اقتربت من مدخل الطائرة فوجئت بصوت يتناهى إلى مسمعي
- أفق يا بني . أفق رضي الله عنك .
- إلى اللقاء أمي.. إنجلترا.. إنجلـ..
- أفق يا بني، فقد حان وقت العمل . لعل المطعم قد فتحت أبوابُه .
"المطعم" !!
أحسست بالكلمة كصفعة على خدي أرجعتني إلى واقعي . عندئذ عرفت أن الصباح قد أدركني . ابتسمت قليلا وقلت بداخلي متذمرا : "متى أتخلص من العمل في المقاهي والمطاعم عند أرباب العمل الجهلاء ؟"، ثم ساخرا : "متى أذهب إلى إنجلـ.. ؟". ولم أستطع إتمام الكلمة فقد ارتميت في لحظة ضحك وأنا أرى ضحكة جميلة على شفتي أمي .
شرفات مطلة على البحر تقع داخل المدينة القديمة لأصيلة (شمال المغرب) .[1]
[2] قصر موجود بالمدينة القديمة لأصيلا بناه أحمد الريسوني الحاكم بشمال المغرب في مرحلة من تاريخ المغرب .