سفينة عابرة أقلّت العائلة من جنوب شرقي أسيا لتستقر ـ أي العائلة ـ في قرية(باب ميدان)، القرية التي صافحت أيادي أبناءها أفراد العائلة وقاسمتهم قوتها.
عائلة تمتهن الخياطة والتنجيد برع الرجال الأربعة (عبد الرزاق، رشاد، علي، عبد الرحمن، بعد ذلك في الخياطة وتخلّوا عن التنجيد.
(علي) وبعد زيارة خاطفة إلى الحجاز عاد بلقب حاج وأنتقل من الأسرة ليسكن في شقة متداعية تطل على الجزء الجنوبي الشرقي لسوق أبي الخصيب وقبالة الركن الذي إحتله محل خياطته الصغير بواجهته الخشبية الخضراء المعتمة يقابله من جهة الشارع دكان الندافيين (صالح عيدان وعلي عيدان الملقب بـ(علي دبو)، وبما إنّ وسائط النقل(سيارات أو عربات) شبه معدومة ـ آنذاك ـ في هذا الجزء من السوق فقد إستغل الأخوان المكان لخياطة اللحف بحواشيها البيضاء النظيفة وتطريزها بالنقوش المبتكرة على القماش (الكريب ستن) الملون كالأخضر الزاهي والأزرق اللماع والوردي البراق...ألخ.
ونحن نهم بالدخول إلى السوق من جهة محلة بلد سلطان أول ما يقابلنا ملا منصور بائع الخردفروش تاركاً بضاعته على منضدة خارج الدكان والدخل الذي يجمع به النقود وهو على هيئة علبة مستطيلة من الخشب مقسمة إلى ست مستطيلات يضع في كل مستطيل فئة نقدية (فلس، 5 فلوس، 10فلوس، 25فلس، 50فلس، 100فلس ـ مما يسهل على شياطين (كوت خصاف) سرقة الدخل حين يكون جالسأ على دكة دكان صديقه صائغ الذهب عبد الشيخ بلحيته الكثة وشاربيه المصفريين من كثرة التدخين وهما يحيكان مؤامرة للإيقاع بإحداهن فقد كانا معروفين بمغامراتهما النسائية وسيرتهما على كل لسان ولعل قصيدة الحبيب الشاعر مصطفى عبدالله تلقي الضوء على أحدى مغامرات الملا1 والتي قضت على سمعته وعليه والى الأبد.
الدكان الملاصق لدكان الملا عُلِقت على واجهته قطعة سوداء مستطيلة خُطَت حروفها بخط الثلث الجميل (جمعية العروة الوثقى) لم نعرف ماتعني ولم نشاهد الدكان مفتوحاً يوماً.
بعد دكان الملا باب يختفي بين جدارين ما أن نتجاوزه حتى ندخل زقاقاً على جانبيه مجموعة من الدكاكين، نستدير مع الزقاق فينفتح على السوق الرئيسي وحين نريد أن نواصل السير عبر الزقاق المقابل نتوقف عند الزاوية اليسرى عند دكان معروف الصراف وننظر بإتجاه الزقاق فمحل الخياط ( الحاج علي أحمد يقع في نهايته وكان معتاداً على الوقوف أمام المحل ) وبعد أن نتأكد من عدم وجوده نواصل وإلا نضطر إلى تغير وجهتنا.
ذات مساء تموزي وأرباب الدكاكين أقفلوا دكاكينهم وهزوا أقفالها متأكدين من مغاليقها، كان (مكاميع) بلد سلطان ـ كما يحلو لـ(عبد الأمير عطية ) وهو أحدنا ـ أن يطلق على مجموعتنا، كنا نتقاسم تختي مقهى (محمد عفلوك ـ العاريين ـ الجلوس فقد أغلق هو الآخر المقهى وغادر تواً.
إحتفالات ذكرى 14 تموز الثانية عند عتبة الباب وقد نُشِرت الزينة في السوق وعُلِقت صور الزعماء .. تشكيلات ورقية جميلة تتدلى من سقف السوق وعلى واجهات الدكاكين،بدأً من مدخل السوق من ناحية الشارع العام حيث دكان (قاسم عيسى روحي) يقابله دكان سادة نهر خوز(سيد محمود واخيه) حتى دكان (الحاج أحمد أبو غازي) يقابله دكان(محمزد غفور أبو الثلج)، وكان القرار أن نجمع أكبر كمية من (الزينة) وننقلها لتزين قريتنا ، عندها دخلنّا السوق وبدأنا بالعمل.
وكما هو معروف في مثل هذه الأيام من السنة فإن درجات الحرارة عالية ، فقد كان ( الحاج علي الخياط) واقفاً في الممر العلوي المؤدي إلى شقته من دون أن ينبس ببنت شفة، ربما تعود على ذلك رافعاً شعار" يا غريب كن أديب" أو كان ينتظر أن ننزع الزينة من واجهة محله فيصرخ بنا ولكنه لم يفعل ، ولم ننتبه لوجوده إلا حين إنسل أحدنا وإنزوى خلف المنضدة العالية والكبيرة لمخبز (الحاج عمر المناصير، مخبز منذر فيما بعد) عند مدخل الزقاق وهو يعض على شفته السفلى ويشير بسبابته بإتجاه الشقة، لقد كان بصر(الحاج عاي الخياط) موجهاً نحونا.
بعد فترة تزيد على الشهرين سقط جدار الخوف وعاودنا الحركة عبر الزقاق والفضل يعود إلى (محمد عفلوك) فقد تراهن على أن يقطع المسافة بين مدخل الزقاق الذي ينتهي بمحل (الحاج علي الخياط ) ثم الشارع مروراً بسوق القصابين ليدخل السوق المسقوف عبر الزقاق الضيق المفتوح على مقهى (عبود معارج) من جهة ودكان الحلاق ( الحاج أحمد "أبو سودي) ثم ليعود إلى نقطة البداية ومقابل الشرط الذي وضعه تاجر الجملة (عبد الرحمن الصالح) أن يركض عارياً!، وبعد الإتفاق وإيداع المبلغ عند (الحاج أحمد والد كل من غازي ومثيل) جار عبد الرحمن الصالح بدأ (محمد عفلوك) ركضته وما بين مستهجن ومشجع إندفعنا خلفه ضاحكين وعيوننا مسمرة على وجه الحاج حين وصلنا قربه فقد كان واقفاً ببدلته الكحلية من القماش الإنكليزي الفاخر شابكاً قدميه على بعضهما مستنداً بيده اليسرى على إطار باب المحل ومن الصعب علينا أن نفسر إبتسامته الخفيفة ..لنا أم للمشهد الذي أمامه، المهم كسب (محمد عفلوك) الرهان وحصل على المبلغ والذي سد له باباً من أبواب الحاجة التي تقض مضجعه.
نعود إلى (الحاج علي الخياط)، الرجل الغامض والذي لا يتحدث إلى أحد إلا في حالات نادرة، ولا يحظى بالصداقات على مستوى قضاء أبي الخصيب، كان يقضي يومه بين الشقة والمحل حيث ماكنة الخياطة وكرسي ومنضدة وخزانة ومصباح نيون معلق على الحائط يحدث أزيزاً، حديثه بلهجة أهل الحجاز وبصوت منخفض حتى إنّ زبائنه إعتادوا على تخفيض أصواتهم عند الحديث معه.
قبل حلول رمضان ولسنوات عدة كان يوزع إمساكية رمضان، كتيب صغير بغلاف أزرق أو أخضر فاتح لا تزيد أوراقه على 60 ورقة حوّت بالإضافة إلى مواعيد الفطور والإمساك وأوقات الصلاة فصلاً عن حركة ومواقع النجوم وتأثيرها والأبراج وحساباتها الفلكية..ألخ، وفي نهاية الكتيب قائمة بأسماء أعضاء المجمع الفلكي وإذا بإسمه ضمن هيئة كبار المجمع: (الحاج علي الحاج أحمد ـ قضاء أبي الخصيب).
ففي المساءات التي نركض فيها خلف (سيارة أم الدخان) هكذا كنا نطلق على سيارة(اللاندروفر) الصغيرة والتي تجوب شارع وأزقة أبي الخصيب وفي حوضها جهاز رش مادة (الدي دي تي)التي تنتشر في فضاء القضاء برائحتها النفاذة وملمسها الدبق لمعالجة البعوض وما أن تدخل السوق ونحن وراءها نراه واقفاً في الشرفة المطلة على السوق وكأننا به مكسور الخاطر ينظر إلى الأنوار المنبعثة من النجوم أو مهتدياً بنجم الشعري أو الدب الاصغر.
بعد سنوات عدة إلتقيته في مستشفى أبي الخصيب ـ فقد كان يرقد فيها لفترات متفاوتة بين الحين والحين ـ أما أنا فمكثت فيها ثلاثة أيام بسبب عارض صحي ـ.. الوقت عصراً .. رأيته جالساً على إحدى (مصطبات )حديقة المستشفى يشاركه الحديث رجلاً من أهل الحجاز ـ تؤكد كلامي لوحة السيارة المركونة قرب باب المستشفى ـ كان( الحاج علي ) يرتدي سروالاً أبيضاً طويلاً عريضاً وفوقه قميص ابيض عريض وفي حجره كيس من الورق الأسمر، دعاني وأخرج من الكيس تفاحة كمثرية كبيرة لونها أحمر مائل للسواد قشرتها قاسية بندب بيضاء ناعمة لم أشاهد مثلها آنذاك، شكرته وأخذتُ طريقي إلى (القاووش) مقتسماً التفاحة مع الرجل الطيب والذي يعمل معيناً (كباشي) وكان هو الآخر من سكنة (باب ميدان).
بعدها بفترة قصيرة مات (الحاج علي) ودُفِنّ في قرية(باب ميدان) حيث مقبرة العائلة والتي ما زالت شاخصة ليومنا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ القصيدة
(تأتيه النسوة، بديوكٍ سود، وتراب ٍمن قبر صبي.
بسلاسلهِ المعقودةِ فوق الأرضِ، يحلُّ السحر، ويَفتحُ للدنيا الأبوابْ.
الملّا:
في الدكان الرطب، حلّقَ ذات مساءٍ مثل غراب.
مُذ عَاطت بين يديه البنت وألتمَّ الناس، مثل الوسواس.
ــــــــــــ
عاطت: صرخت.