كانت الحرب لم تزل مستمرة بين العراق وإيران، ولم نرجع إلى المحمرة بعدُ، كنا نسكن الأهواز إذ دعاني كمال أخو زوجة شقيقي أن أحضر مأدبة الإفطار التي دأبت أمه على إقامتها في التاسع عشر من كل رمضان، حاولت أن أعتذر لبعد الطريق ولشدة إرهاقي بعد العمل الشاق ذاك، لكنه أصرّ على حضوري !
كنت طالبا في الثانوية الأولى، وكان الوقت صيفا تفوق درجة حرارته الخمسين، كنت أعمل عاملا في البناء إلى منتصف النهار وأنا صائم؛ وأرجع وفمي كالصحراء القاحلة من شدة العطش .
أخي ذهب ظهرا على دراجته النارية برفقة زوجته وابنه، وأنا تبعتهم عصرا .
أخبرت كمالا قبلها بأني لا أعرف عنوان بيتهم، فقال :
يكفي أن تصل إلى الدوار، وطمأنني بأنه سينتظرني هناك قبل الأذان بنصف ساعة .
ولشدة الفاقة لم أكن أستطيع أن استقل سيارة أجرة من الباب إلى الباب، ولذا تمشيت إلى محطة الحافلات وركبت .
والحافلة تلتزم بخط سير معين، ولبعد المسافة عليّ أن أستقل حافلة أخرى لأبلغ الدوار الذي يقع بالقرب من بيت أم كمال .
وصلت في الوقت المتفق عليه، نصف ساعة قبل الأذان؛ ووقفت أنتظر صاحبي... ولم يأت !
أذّن المؤذن ... ولم يأت !
مضت نصف ساعة على وقت الأذان ... ولم يأت !
انتظرت أكثر من ساعة وأنا أتصفح الوجوه التي تقترب إليّ من الجهات الأربع... ولم أجده .
أيقنت أنه نسي الميعاد، وتركني أتلوى من العطش والجوع والأوهام .
كنت أحس بالعطش منذ الضحى، وقد اشتد عطشي عند الظهيرة إذ ازدادت دقات قلبي وكثر تعرقي ! أما بعد الأذان فقد بدأ العطش يؤثر على عينيّ حيث أمست الأشياء ضبابية في نظري !
وقعت في حيرة، ماذا أفعل ؟! ونقودي كانت قليلة !
هل أشتري شطيرة أسدُ بها جوعي وأرجع مشيا على الأقدام ؟! لكنني كنت تعبا مرهقا !
أم أرجع كما جئت وأفطر في البيت ؟! لكنني لم أرَ أثرا للحافلات !
وآثرت الخيار الثاني ساخطا .
تلك الليلة، رجعت ماشيا نصف الطريق، ومستقلا سيارة أجرة نصفه الثاني، وقد وصلت إلى البيت شبه ميت من شدة العطش والجوع والتعب والحر ... بُعدا لكِِ يا أيام الفقر، ما أكفرك !