من أدب المذكرات/الموظف النزيه ...حكايا من أيام زمان!! *

2016-04-25
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/12f13fc5-a203-486c-bf5b-a5e94dd00424.jpeg
عاد أخي الأكبر جادر من أقامة عمل بدت لنا طويلة، طويلة، في العاصمة بغداد ليستقر معنا في البيت في مدينتنا الصغيرة بعد ان حصل على وظيفة في بلدية المدينة في ناحية الفهود... 
بعد فترة من عمله هذا أصبح رئيساً لدائرة الكهرباء التي انفصلتْ عن البلدية فيما بعد وأصبحت دائرة مستقلة لها مبنى مستقل لايبعد كثيراً عن بيتنا في حي المحمدي الواقع على ضفة النهر والذي يسميه العامَّة من أهالي المدينة ـ حي الأحمدي ـ.
منطقتنا زراعية في الأساس حيث يعتمد الناس على الزراعة ومنتجات المواشي والدواجن وصيد الأسماك والطيور .
 بعض الفلاحين في قرى المدينة كانوا بحاجة الى مضخات كهربائية تُنصب على ضفة النهر أو الجدول القريب من بساتينهم لأيصال مياه النهر دون عناء كبير الى أشجار النخيل والنباتات والمزروعات .
كان لدينا الكثير من معارفنا من الفلاحين أصحاب البساتين والحقول، وبعضهم من أتى الى بيتنا في زيارة صديق ليطلب من أخي تزويد حقله بالكهرباء ليتمكن من نصب مضخة ري .
لم يُقصّر أخي في عمله ولم يرغب ان يرد طلب أحد ولكن طاقة المكائن الكهربائية في المدينة  كانت محدودة بالفعل ولا تكاد تكفي للمشتركين داخل مركز الناحية، بل ان التيار الكهربائي ينقطع بعض الأحيان بسبب زيادة الحمولة أو كلل المكائن عن العمل المستمر مما يستدعي حضور مهندس مختص للصيانة أو لأصلاح العطب .
أتذكر الى الآن المهندس المصري رجائي الذي كان يأتي مع أخي بعد العمل الى البيت لتناول الغداء معنا في غرفة الضيوف، حيث لايسمح له أخي بالذهاب الى مطاعم المدينة طالما كان ضيفاً على مدينتنا وقد أتى لأصلاح مكائن كهرباء الناحية!
والى الآن أتذكر أيضاً  تلك اللحظة، اننا بعد ان فرغنا من تناولنا الغداء المتنوع والوافر في بيتنا وقد وضع المهندس رجائي نظارته الشمسية قربه خطر على بالي ان أمسك النظارة وأرى نوعيتها وفي أي بلد صُنعت بعد ان استأذنتُ من المهندس رجائي، فطلب مني ان أضعها على وجهي، وحين فعلتُ هذا قال لي: خلاص هذه النظارة  تليق بك لقد صارت لك فأقبلها هدية مني!
ولم ينفع رفضي وأصراري على أرجاع نظارته له فقد أصر أخونا المهندس المصري القبطي ان يمنح نظارته الفرنسية الفاخرة هدية لأخيه وأخ زميله العراقي، ربما امتناناً وشعوراً بالعرفان عن الكرم الذي يستقبله في بيتنا دون انتظارنا لمردود مادي .
في يوم من الأيام بعيد في حساب الزمن قريب في زمن الذاكرة أتت زوجة خالي الحاج حنين الى بيتنا لزيارتنا من قريتهم التي تبعد عن بيتنا حوالي ثلاثة أو أربعة كيلومترات .
خالي الحاج حنين لم يكن شقيق أمي أو أخاها المباشر وأنما قريبها الّا اننا اعتدنا ان نسميه خالي وكان نعم الخال : كريماً ، شهماً ن، طيّباً، مضيّافاً يقع مضيفه مباشرة قرب بيته، وحنوناً وقد سبكه أسمُهُ حيث كلمة حنين في اللهجة العامية العراقية صفة أو نعت وتعني حنون !
لخالي الحاج حنين، وعلى مسافة قصيرة من بيته، بستان كبيراً فيه أنواع متعددة من النخيل ومنها النادر والنبيل، وأنواع نخيل التمر في العراق كثيرة تربو على اربعمئة نوع !
وعائلتهم في الأساس عائلة فلّاحين، وقد اعتادوا ان يجلبوا لنا معهم شيئاً من هدايا القرى والحقول .
أقول أتت خالتي زوجة خالي حنين في ذاك اليوم لزيارتنا في البيت وكانت تحمل سلة مصنوعة من خوص سعف النخيل وفيها دجاجتان صغيرتان كهدية لنا من الريف .
كان هذا ديدنهم دائماً معنا حين نتزاور، وفي موسم الرطب تكون هداياهم سلالاً من الرطب رغم اننا نمتلك بستان نخيل ورثناه عن جدي وجدتي في قرية الحمّادية القريبة من قرية بيت خالي !!
أتى أخي من العمل فوجد خالتي في البيت فسلّم عليها ورحَّب بها  ثم دخل الى غرفته .
كان يعلم ان خالي بحاجة الى مضخة تعمل بالكهرباء لبستانه .
كانت غرفة أخي من امكنتي الأثيرة في البيت حيث جلب معه من بغداد مجموعة كبيرة ورائعة من الكتب والمجلات شكّلت الى جنب مكتبة مدرستنا أول  خطوات مسيري في عالم  القراءة والأطلاع على الأدب العربي والآداب الأجنبية .
كنتُ في غرفته حين نادى أمي لتحضر بعض الوقت الى غرفته، وكان قد لمح وجود الدجاجتين في السلة التي جلبتها  خالتي معها !
خاطب أخي أمي قائلاً:
أنا أعرف ان خالي بحاجة الى الكهرباء، لكنه واسوة بالفلاحين الأخرين سيحصل على الكهرباء حينما  سيكون الأمر ممكناً للجميع . أنا لا أستطيع ان استثنيه من الناس الذين يحتاجون الى الكهرباء وأعطيه الكهرباء وحده . أرجو ارجاع الدجاج الذي جلبته خالتي، فأنا موظف نزيه .
سمعتُ هذا الكلام من أخي ورأيتُ ارباك أمي الذي بدا واضحاً على ملامح وجهها وهي تتعرض للأحراج، فقالت له :
وليدي هذا من بيت خالك هدية لنا وليس من أجل الكهرباء ... هم يهدون دائماً لنا من بستانهم وبيتهم الرطب أو الطيور أو البيض، من الصعب علي أرجاع زوجة خالك مع هديتها، لا استطيع القيام بهذا، استحي منهم ومن خالك !!
أما انا فقد كنتُ محرجاً بسبب الجميع : لتقديري وفهمي لموقف أخي، لتفهمي وتعاطفي مع موقف أُمي، ولخجلي من الموقف الذي ربما ستتعرض له خالتي !
أخيراً وجدت أمي حلاً للتخلص من الهدية دون أحراج أو أيذاء أي أحد حيث قامت بأرسال الدجاجتين الى بيت أختي القريب والواقع في نفس الحي !
بقي أخي على هذه النزاهة حتى بعد ان أصبح في فترة ما محاسباً لبلدية  قضاء، الجبايش تقع تحت تصرفه ميزانية قضاء كامل .
وفي فترة رئاسته لدائرة كهرباء الفهود، كان بأمكانه ان يجني آلاف الدنانير من طالبي الكهرباء، لو أراد ان تُقدم له على شكل هبة أو أكرامية، دون ان يتعرض لمساءلة قانونية . ولكنه كان متأثراً بشتى الأقوال والمواقف والسير التي تحث على النزاهة والأمانة والصدق ويقظة الضمير ومنها قول حكيم وزعيم الهند الكبير غاندي، ذلك القول الذي خطَّه أخي بخطه الجميل على جدار غرفته المطلي بالأزرق السماوي، ذلك القول الذي يقول:
هناك محكمةٌ عليا أعلى من محاكم العدالة هي محكمة الضمير .

وأنا أكتب هذه القصة الواقعية أدرك البعد الخيالي فيها الذي يضفيه عنصر الزمن أو عنصر المفارقة بيد انني اعتمدتُ فقط الأسلوب الأدبي لرواية أحداث حقيقية في حقل أدبي أثير عندي هو أدب المذكرات ألذي يروي عن أيام زمان!!


*  كتبتُ هذا النص في 24.09.2015  في برلين

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved