موشك

2021-06-30

أدري أنّ الريح ذرّت بعضا من رملي على بيوت الجيران، وأصوات الحفر والطقطقة أزعجتهم؛ وأنّ كِسر الآجر تبعثر في الشارع، فتأذّى الأطفال وسائقو السيارات .

ولكن ما الحلّ لأتحاشى الإزعاج الذي سبّبته لجيراني سوى أن أوقف عملية البناء التي ابتدأتها منذ أسابيع ؟

ولو أوقفتها، فكيف لي أن أصلح هذا البيت الذي مضى من عمره ما يقارب الثّلاثين عاماً ؟!

فتراني كلّ يوم أعتذر لجيراني وأعدهم بأنّي سأبذل قصارى جهدي لأكفّ هذا الإزعاج والبعثرة التي سبّبتها، قريباً .

وعندما أوشك الشغل على الإنتهاء، سألتني جارتي يوماً : هل انتهيت من عملية البناء ؟

أجبتها : موشك على الإنتهاء .

تجهّمت ثمّ قالت : اسم الله على بيتك، بعيد الشر إن شاء الله .

 وتابعت : لا تذكّرني بالحرب ثانية !

ثماني سنوات من الخراب والنزوح، أرتنا النجوم في وسط النهار .

خسرنا بيوتنا، أثاثنا المنزليّة، جيراننا .

عرفتُ أنّها تاهت في وادٍ ثانٍ، لكنّ خجلي العربي منعني أن أقاطعها، فاستمرّت تشرح لي ما عانته من الحرب طيلة ثماني سنوات فقالت :

عندما اندلعت الحرب، شحّ البنزين؛ هل تتذكّر؟

ونزحنا بسيارتنا من المحمّرة آملين أن نرجع إليها بعد يومين أو ثلاثة، ولم نأخذ معنا سوى الملابس التي كنّا نرتديها؛ وكانت السيارة خالية من الوقود، فما إن حركّنا حتّى أتت على آخر قطرة بنزين فصرفتها ووقفت .

ولم يكن أمامنا خيار إلّا أن نركنها في شارع ونفرّ بأنفسنا، وكانت لحظتئذ قذائف المدافع تتساقط حوالينا .

وإلى أين نتّجه ؟!

اتجهنا إلى أقاربنا في قرى الجراحي وسكنّا عندهم أسبوعاً كاملاً .

ثم خبأت خصلاتها تحت (المقنعة) وتابعت تقصّ خواطرها المرّة :

وللضيف كما تعلم ثلاثة أيّام لا أكثر .

وبصراحة، ضقنا وضاق أقاربنا منا، كرهنا أنفسنا، صمّمنا أن نرجع إلى بيتنا، لكنّ الحرب قد اندلعت نيرانها وأحرقت الأخضر واليابس .

 نظرتْ إلى معصميها وتابعت قائلة :

بعت أساوري واستأجرنا داراً، واشترينا بعض الأثاث، وكأنّنا رضينا بالواقع وصرنا نستعد لحياة جديدة ملؤها حرمان وقهر وضيم .  

ثمّ نظرت نحوي وتابعت قائلة :

تصوّر، كنّا جميعًا نسكن في حجرة واحدة : أنا وزوجي وعمّي وعمّتي والأطفال .

لا أراك الله تلك الأيّام السود .

قلت وأنا أنظر نحو الأطفال الذين يقفزون من فوق الرمل فيساعدون الريح في بعثرته :

لقد رأيتـُها كما رأيتِها .

وكأنّها لم تسمعني فأردفت قائلة :

اليوم أتألّم ممّا يعانيه النازحون السوريّون، وبما حلّ بهم من دمار بل يبكيني .

ويؤذيني ما يحدث للعراقيين، وما يحدث في لبنان وفلسطين واليمن .

والمصيبة الكبرى ...

لم أقصد مقاطعتها لكنّها نوت أن تدخل في بحر السياسة الخدّاعة، فقلت مكملا جملتها :

والمصيبة الكبرى يا أمّ علي رضا، أن تلك الحرب اللئيمة خسّرتكم لغتكم العربيّة الجميلة، فأصبحتم لا تجيدونها كما يجيدها العرب .

لأنّني لم أكن أعني بالـ (موشك) الصاروخ، بل ما عنيته هو أنّني اقتربتُ من نهاية العمل .

موشك على الإنتهاء، أي أنّني اقتربت من نهاية العمل . وسأريحكم من الأذى الذي سبّبته لكم .

ضحكت طويلا، وما دريت هل كانت تضحك منّي أو من لغتي الجميلة ؟!

                                        ***

المقنعة : حجاب الرأس .
موشك بالفارسيّة : الصاروخ بالعربيّة .

سعيد مقدّم أبو شروق

 مدرس فرع رياضيات

يسكن  الأهواز

نشر قصصه في العديد من المواقع

نُشرت له مجموعة من القصص القصيرة جدا

saeed135057@gmail.com

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved