( كل ما له معنى هو جميل) سقراط الحكيم
إنه يوم الجمعة مساءاً.
مساءٌ معطرٌ برائحة الخريف يدثره دفْء شمس النهار المخبوء، دفء الأحلام في قلوب باقة مشعة من الفنانين العراقيين من الطائفة المندائية في معرضهم التشكيلي وعلى قاعة مقرهم الرسمي في ( يمتلاندزجاتان 151، فلينجبي ـ ستوكهولم)،لم يستسلمو إلى اللاجدوى ولم يُحتَجَزوا في ركن مهمل بل ضلوا يلهون في لعبتهم، أُعطيت أيديهم قوة التشكيل وفرشهم طقوس الضربات، تمرسوا في عملية الإبداع، ملأاوا عيوننا بالبهجة والصور، هؤلاء اللذين إستيقظوا بعيداً عن جذورهم وبعضهم حتى عن حياته الخاصة ومع ذلك فنسغ المنفى البسيط والذاكرة المليئة بضوء الشرق وحرارته والإصرار على عدم الضياع في ضباب أوربا أشعل في قلوبهم جذوة الفن فكانت الحركة التي صافحت اللوحة لإستنبات الجميل والمفيد.
في القاعة الواسعة سعة قلوبهم، ثمة شيخ ـ أذهلني ـ يشد بيده المرتجفة الأصابع على العصى التي يتوكأ عليها قائلاً: منتصبٌ أنا ونخلة بلادي .. أنتظروا مني الأجمل في العام
القادم، إذن مأثرة الإنسان العراقي لم تنته، هي مستمرة إستمرار العالم هي رسالة إلى هناك، أما مَنْ كان هنا فأعتقد إنّ البعض منهم شعر فعلاً بالدمع يلسع زوايا عينيه.
في هذا المعرض لن أقول إنَّ الفنانين إبتعدوا عن الهم العراقي إلا إنهم سئمو العنف الذي يمزق بلادهم، فالنوايا تكشفت والأسباب عُرِفت فالسياسة عملت على إفساد كل شيء بدأً بالحروب التي شُنَتْ وإنتهاءاً بالمحاصصة المقيتة والتي حالت دون التخطيط السليم ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لذا نرى إنَّ البلاد تنحدر وبقوة نحو الهاوية إذا لم يتوقف الأجنبي من ممارسة دور الوصاية وإذا لم يتراجع ـ ما يسمى ـ بـساسة البلد عن سياستهم المنتهجة والتي اوصلت البلد إلى ماهو عليه لآن.
سبق وإن تحدثت عن بعض الفنلنين المشاركين في معارض سابقة وسأتحدث هنا عن كل مَنْ:
الفنان مهدي العايش، من طبقات الزجاج المتعددة والألوان الحارة وبجهد عينيه العميقتين جعل الوردات المتدرجة، والتي تكاد تلتصق بحنان وسط أجواء الخضرة والأضواء الحالمة، تمائم للراحة نكتشف من خلالها عشباً وأزهاراً ورقعاً من السماء.
منذ عقود وهو مطمئن لهذا المسلك مفتون به وله أسبابه في ذلك.
الفنان نوري عواد حاتم، نعومة وطمأنينة وعيون بنداء يخفف عن القلب الوجع وعن حوافي العمر العزلة .
قياساته دقيقة وتوزيع ألوانه متناسق زاوج العتمة والضوء فكان ربيعاً من الدفء والحنان، أما الألوان الموزعة بشكل أقواس وسهام دقيقة مع الرداء المرقش ساهمت في الإغناء وأعطت إيقاعاً وأشاعت إنطباعاً لطقوس الرشيد أو الخيّام ، مجامر متقدة بمنقوع البخور الجديد تبخر سماوات الزمن الماضي وتبهر فضاء زمن المستقبل.
الفنانة سليمة السليم، كتلتان مخروطيتان فرّق بينهما اللون. كتلتان هادئتان بالرغم من الكوارث المحيطة، أن تداعبهما الريح العذبة تنبسطان جناحي رحمة، وإن تهزهما العواصف البلهاء تشتعل نار غضبهما.
الفنان وسام عبد الزهرة الزهيري، المسافات ـ بين كتل الكولاج التي إحتلت قماشة اللوحة وما قامت به الفرشاة من جهد ـ مسافات محسوبة، أما المساحات، المساحات الخالية والتي شكلت اجساداً واجنحة وهموم تتحاور وثمة مَنْ يصغي للحوار!، فوّهة الهم هذه والمعجونة بالطمى توهم إنها فوهة بركان منطفيء لكن رماده ما يزال يعبر الليل والنهار.
ما أراه بطاقات تعريف بعيدة عن وطن تعرض أهله لوجع العيش ومحطات أمان نتوق للوصول لها ولكن ببطاقات سفر صالحة.
محمود بدر عطية
الجمعة 25 ـ 10 ـ 2013