استيقظت كعادتها باكرا . أخذت تتمطى لتنفض عنها آثار النوم . قفزت من الفراش واتجهت إلى الراديو. داست على الزر انبعثت موسيقى شجية هادئة. دخلت إلى الحمام وهي تترنح نشوى وتتمايل على إيقاع نغمات الموسيقى.. زخات الماء ستجدد حيويتها قبل تناول الفطور.
اقتربت من النافذة وهي تجفف جسدها .. أزاحت الستار لتطلع على حالة الجو. شخصت ببصرها إلى السماء .. سماء غائمة قاتمة كالعادة . تذكرت زرقة سماء بلدها .. الشمس الساطعة .. هزت كتفيها باستخفاف .. لم تبالِ بهذا العبوس الدائم المخيم على هذه السماء . الإنشراح و الإنقباض شعوران يسقطهما الإنسان في قلبه على من حوله وما حوله.. لا علاقة لهما بالسماء . هذا ما أقنعت نفسها به ..
انتبهت إلى دقات الساعة المنبعثة من جهاز الراديو تذكرها بسيلان الدقائق والساعات .. بل السنوات ..عليها أن تسرع أن تستعد للخروج تستهويها الموسيقى فتنسى نفسها تؤخرها عن الخروج في الوقت اللازم :
- ما هو الوقت اللازم ؟ أين يبدأ وأين ينتهي . مشكلتها هي أن توفق بين زمنها الداخلي وزمنها الخارجي .. زمنها الآن ثمين جدا . كلفها ويكلفا معاناة لا تكفي موسوعة لغوية للتعبير عنها.. تركت فلذتي كبدها في رعاية إحدى قريباتها.. كانا شجاعين ناضجين قبل سن النضج.. قدمت إلى هنا لتحضر الشهادة لن تضيع الوقت في اختيار الملابس، سترتدي ما ارتدته بالأمس، ارتدت بسرعة، ثم تحولت إلى المرآة لتضع بعض الأصباغ على وجهها : الماكياج - عادة قديمة قدم حواء ؟ على أي علمتها إياها أمها .. أناقة الوجه لا تنفصل عن أناقة اللباس.. هكذا كانت تقول لها . تذكرت سخرية صديقاتها من هذا الماكياج .. كانت تذهب إلى المحكمة الشرعية في كامل زينتها وأناقتها قبل أن تتوجه إلى العمل . يسألنها :
- أين تأخرت ؟
ذهبت إلى المحكمة الشرعية يتضاحكن
- كيف تقابلي القاضي الشرعي وأنت على هذه الهيئة ؟
- وما شأن القاضي بهيئتي ؟ هذا هو اللباس اليومي وتعرفنه ..أليس
كذلك ؟ تمادين في الضحك .. قالت لها إحداهن :
- يجب أن تقابليه مرتدية جلبابا باليا، أن تضعي على راسك منديلا عاديا يغطي شعرك حتى يفهم قضيتك .
لم تجب، بل استغربت المفروض أن القاضي يطبق مقاييس النصوص الشرعية لا مقاييس اللباس والماكياج، تعرف أن القضية اعقد من ذلك.. ما كان يشغلها في تلك الآونة هو كيف تتحول العلاقة الحميمية بين كائنين اسمها الزواج إلى قضية أمام حضرة القاضي.. كل الحب كل الحنان كل العطف يذوب وينمحي ليصبح أوراق ملف أصفر .
أجالت بصرها في أنحاء البيت الذي تقيم فيه . صالة وحيدة في إحدى زواياها مطبخ فرن وبراد وحنفية.. في الجهة الثانية غرفة نوم وحمام.. لم تمضَ وقتا طويلا في التنظيف والترتيب.. لو عدت الساعات التي تمضيها في تلك المهام ستكون مفاجأة
!!
لا يستدعي تحضير الفطور عناءاً كبيراً، لكن لن تتناوله في البيت ستمر على المقهى الذي اعتادت ارتياده بعد خروجها من المكتبة .. ما زال أمامها متسع من الوقت ريثما تدب الحياة في كل مكان .. لم تكن الساعة تتجاوز السابعة والنصف .
تناولت حقيبة يدها وحقيبة الأوراق وأسرعت بالخروج .. توقفت برهة أمام باب البيت .. استقبلها رذاذ المطر .. تلقفته وجنتاها في نعومة ورقة .. بيت أرضي .. لا درجات ولا مصاعد.. كم حلمت بالسكن في مثله في بلدها .. تفرح كطفلة حين تشعر بالحصى والتربة تحت قدميها حين تقفل باب البيت . ذكرى جميلة تحملها في حناياها منذ طفولتها .. ولدت وترعرعت في بيت عربي قديم تتوسطه باحة فيحاء .. بدون سقف تغمره السماء .. تعانقها مباشرة لا من خلف الزجاج والنوافذ.. تلفحها لسعة البرد أو نسائم الربيع تتلقى رسائل الشمس.. تشعر أنها تسبح في الكون .. تتدثر بفضائه . تصميم الشقة والعمارة يحرمها من كل هذا ..
ترى .. ما الذي دفع الإنسان إلى أن يخنق نفسه في جدران بعيدة عن الأرض .. لا تصل السماء إليه إلّا عبر كوات، فتحات صغيرة ..زجاج .. يستغني عن ضياء النهار ليستعيض عنه بنور الكهرباء.. "النيون" في واضحة النهار ..
أوقفت تيار أفكارها .. لا داعي للدخول في متاهات الهندسة المعمارية وتحولاتها .. لن تبدأ يومها بكيف ولماذا .. سؤالان يلحان عليها دائماً : إن تثبت عندهما قد تذوب تتلاشى.. مهما حدث تظل الحياة متعة يحق التلذذ بها .. تظل نعمة من الخالق.. نعمتها تضاهي قسوتها .. ما أتى وما سيأتي لا داعي للتفكير فيها .. مشاهد الحياة تصبح ذكريات لذيذة .. تنبع لذتها من الشعور بالتغلب عليها .. تتجاوزها .. ينمحي ألمها أمام الشعور الفياض بدفقة الحياة .
ملأت رئتيها بنفس عميق .. ما زال أمامها يوم كامل لاستنشاق الهواء .. للإنصات إلى ألحان الحياة .. لاستمراء نغمات الطبيعة .. بداية كل صبيحة هي بداية من العمر.. هي هدية الحياة على وجه البسيطة لا تحتها .. كل أحبائها ماتوا ليلا ؟ لم تقاسمهم تسبيحة الصباح .. كل صبيحة تحمل في خباياها فرحة جديدة .. مأساة جديدة .. مع صديق ..مع الوطن .. مع العالم ..كل دقيقة تمر ستنكشف لها أشياء سترى .. ستسمع .. ستعرف ما لم تكن تعرف .. ستفعل ستنفعل ..ستعيش ..
غمرتها سعادة عارمة وهي تشق طريقها إلى المكتبة .. فنجان القهوة الساخن ينتظرها في المنعطف.. ستتناوله ثم تواصل سيرها . لفت انتباهها طابور أمام محل الفطائر .. توقفت عنده لتشتري منها لتكمل فطارها .. وقفت تنتظر دورها ..الإنتظار .. مشروعها ينتظر ..انتظر عشرين سنة قبل أن يتحقق موعد انجازه
المشكل الدائم الوقت الذاتي والوقت الموضوعي ..
أخذت محطة المترو تلفظ أفواج الطلبة والطالبات .. وجوه تنضح بالصحة والرفاه.. سحنات لامعة نظيفة .. روائح الصابون والكولونيا يعبق بها المكان .. وجوه في عمر الزهور .. مشاريع حياة . مشروعها عشش في حنايا قلبها سنوات .. لم تنتبه إلى حكاية مراحل الحياة .. تحب الحياة وتقبل عليها بشغف.. الحياة ديمومة .. اتصال وتواصل متواصل .. يضحكها السؤال الذي يتكرر على مسامعها :- أين وصلت ؟ أين وصلت ؟ أنحن في سباق؟ من وضعه ؟ سباق نحو ماذا ؟ هل الحياة سباق ؟..
وردت على خاطرها عبارة "قطار الحياة" الحياة بالنسبة للبعض محطات.. حين تغادر الأولى تنمحي لتبرز الثانية.. وهكذا.. هي تتصور الحياة كالشلال الدافق يكبر حجمه حسب المسافات التي يقطعها.. مجرى لا تنفصل فيه الذات عن ذاتها .. تتعمق أبعادها تغتني أجزاؤها دون أن تلغي الأجزاء الأخرى، المراحل.. الحياة كل تندمج فيه، الذات وأبعادها دون التجمد في القوالب، في الأدوار .. في المراحل..
كثيرا ما وجه لها هذا السؤال :
- لماذا لم تعيدي حياتك ؟
- ماذا سأعيد فيها ؟ أنا أحيا
شق عليها فهم السؤال.. فهمته أخيرا لأنها حاصلة على شهادة الطلاق
فهي شبه ميتة .. الحياة بالنسبة للمرأة هو الزواج.. أنا متزوجة .. أنا حية .
أيقظتها البائعة من غفوتها . كان الدور دورها أخذت الفطائر واتجهت إلى المقهى لتناول فطورها .
تزايدت وثيرة قدوم الشباب.. تحتضنهم المدينة الجامعية . تتألق بضحكاتهم وقفزاتهم.. يضفون عليها جو الحبور والأمل.. هم يقبلون عليها في سعادة.. فيها يحققون مشاريعهم.. سينمّون معلوماتهم وتكوينهم.. يجدون بسهولة ما يبحثون عنه.. الكتاب في الجامعة الغربية يلاحقك.. يشد بتلابيبك .. يستحوذ عليك.. في الجامعات العربية عليك أن توظف ربما مخبرا سريا ليدلك عليه .. تبحث عن كنز مفقود . حين تنعم بالعثور عليه، ربما كان ما فيه ما زال يرفل في سرابيل القرن التاسع عشر
!!
إن أردت العثور على الكتاب الحديث فما عليك إلّا أن تحزم حقائبك وتغادر . لا تقلق عند انتظارك في ردهات الإدارات والمكاتب لتحصل على ورقة المغادرة.. تجميد الأعصاب في براد كبير وصفة سائدة . انتظر ..
هي أيضا انتظرت وأتت إلى هذه المدينة العلمية بمشروعها في حالة مشروع مصممة على إنهائه..
دفعت الحساب وسارعت بالخروج من المقهى متجهة إلى مكتب الكلية، لتواصل عملها . غاصت في صفحات كتاب نصحها المشرف على مشروعها بأهمية دراسته.. لم تشعر بمضي الوقت . نسيت كل ما حولها . أحست بالجوع ..
ستذهب الى البيت لتناول وجبة الغذاء وترتيب الفوضى التي تركت فيه حتى يكون مريحا عند عودتها في المساء.. لملمت أوراقها وانصرفت .
حين اقتربت من البيت لاح لها ساعي البريد .. تمنت أن تصلها رسالة من ابنتها تخفف عنها الشوق وتطفئ الحنين .. تمحو قلقها وتريح بالها..
لاحظت أن ساعي البريد يسير في نفس اتجاهها وفي يده غلاف . وصلا إلى باب البيت في ذات الوقت .. بادرها :
-هل أنت فلانة ..
-نعم
-لديك برقية..
سلمها لها وطلب منها إمضاء التسليم . جف ريقها تسارعت دقات قلبها..
نادرة هي البرقيات التي تحمل أخبارا سارة ..
فتحتها بسرعة .. قرأتها.. تقلص العالم كله في ورقة في يدها .. برقية من ابنتها لا تحمل كلمات شؤم بل كلمات قليلة تحمل معاني عديدة - ماما، لا بد أن تعودي . وصلتني بطاقة السفر...سألتحق بالجامعة هناك .
أخذت الأفكار تتدحرج في ذهنها بسرعة البرق.. هل تفرح ؟ أم تحزن ؟ حين كانت تخطط لتنفيذ مشروعها كان مشروع آخر يختمر .. نسيت جريان الزمن.. حاد عن طريقها، خارج إرادتها فوق حساباتها . عليها أن تحسم بسرعة .. بسرعة الزمن الآلي، تحسم بوضوح تجانسه وكثافة برودته.. عليها أن تخرج عن إيقاعها وتبتعد عن زمن الحلم، زمن التداخل والاختلاط.. زمن الهلوسة . عليها أن تختار بين مشروعين .. مشروع في بداية نهاية المطاف وآخر في بداية أول المطاف.. كلاهما جزء منها يتساويان في تعلقها بهما وحرصها عليهما.. لتعاود الحساب دون الإستعانة بأية آلة حاسبة.. لا يضيع من كان ضائعا .. عليه فقط أن يجد مكانا له في ذلك الضياع دون أن يلحقه بأحد بمن حوله .. مشروعان لا مجال للفصل بينهما الآن .. القضية واحدة .. المشروع واحد في نهاية الأمر.. ستودع واحداً وتحتضن الآخر ..
استعادت الشعور بالسكينة حين وصلت إلى هذه النتيجة.. ابتسمت طوت البرقية ودستها بعناية فائقة في حقيبة يدها.. منذ لحظة تحرقت إلى إطفاء الشوق والحنين .. هاهي الآن ستعيشهما بشكل آخر . تسللت الفرحة إلى قلبها .. أيام قليلة وستجد نفسها بين فلذتي كبدها .. ستعانقهما.. ستواصل رعايتهما..
تراجعت الفرحة.. تذكرت أن جزءاً من قلبها سيظل إلى جانبها وترعاه وجزء سيبتعد .. عليها أن تتحمل غصة الشوق والحنين بشكل آخر . الشوق والحنين قدرها.. تحمله معها أينما حلت .. يسري في دمها . شدت معطفها بقوة على جسدها كأنها تحتمي به .. لم تذهب إلى المكتبة بل إلى شارع وكالات السفر..
15 أبريل 1989