مساجلة بين أبو معيشي والملا عبود/شذرات من الجنوب

2016-10-14
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/12f13fc5-a203-486c-bf5b-a5e94dd00424.jpeg
من أدب المذكرات ..

في عراق العصور الخوالي كانت هناك حياة لأن الحب كان هناك !!.الحب في أروع وأصدق صوره : الحب العائلي، حب أهل الجوار، حب أهل القرية أو المدينة التي ينتمي اليها العراقي ولاينتهي هذا الحب عند حب كبير هو حب الوطن، فهناك حب الجمال : جمال الناس والطبيعة والمخلوقات لذا كان الشعر حاضراً تسمعه من غناء الفلّاحين في الحقول أو البساتين وغناء الملاحين في الزوارق والسفن وغناء الصيادين اذ يأتيك صاعداً الى البر من قلب النهر أو البحيرة . أقصد بعراق العصور الخوالي العراق الى ماقبل عقود قليلة قبل ان تفجعنا الحروب الخاسرة وتدمر حياتنا الأحزاب فتسهِّل لمن يريد ان يفتك أو يشمت أو يتشفى  بنا . لاخراب يأتي من الخارج فقط اذا لم تمهد له أوضاع في الداخل !!
 
عفوية الحياة، تلقائية الناس، حميمية العلاقة بين البشر فيما بينهم وجمال العلاقة بين البشر والطبيعة الجميلة حد الأبهار والتي تثري روح وقلب الأنسان في وعيه ولاوعيه وتجعله جانحاً للأبداع ليصوِّر ويصف ويبوح ويحاول ان يرد الجميل بالجميل ، وبراءة أرواح الناس آنذاك من الغدر والذم والنميمة والتكالب على مصالح ضيقة ومنافع مزعومة، كل هذه الأوضاع والمواصفات  كانت محفزات ودوافع ليزهر الشِعر ويزدهر .
الشعر من نتاجات الحب والتوق للحب، وعلاقته بالحب لاتقل عن علاقته بالحرية، بالخير وبالجمال . ما أن يمس الحب شغاف قلب الأنسان حتى يبدأ بالترنم ويريد ان يقول شيئاً عذباً وهائلاً والِقاً، وبعضهم يبدأ بالغناء ان لم يتمكن من الشعر، فيغني شعر الآخرين، وكل الغناء البشري أصلاً شعر بل حتى غناء الطيور والحيوات الأخرى انما تدفعة قوة الشعر والشعور. وكم هو رائع وهائل ومعبِّر هذ الأسم الذي منحته العربية لهذا النشاط الأنساني الأِبداعي : شِعر!

أكاد أقول ان الحياة في الجنوب العراقي، مثلاً، قبل أربعة عقود وأكثر كانت مهرجاناً شعرياً متواصلاً، والقرية أو المدينة كلها صالونا أدبياً وشعرياً كبيراً اركانه القراءات الشعرية والمداخلات والردود والنقد الأدبي، وقد يمارس هذا  النشاط أناس أميّون لم يتعلموا القراءة والكتابة قط، ولديهم من قوة الحافظة وسرعة التأليف وحضور البديهة ما يُعجز الوصف حقاً .
مِن هؤلاء كان العم أبومعيشي من سوق الشيوخ وهو شاعر شعبي بالفطرة له موهبة لاتُجارى في كتابة رباعي الأبوذية . أطبقت شهرته الآفاق فتجاوز سوق الشيوخ الى عموم الناصرية فالجنوب والفرات الأوسط . تقدم أبو معيشي في العمر ولكنه بقي مثل المعدن النبيل في التحفة الأثرية لايفقد من قيمته شيئاً بمرور الزمن بل يزيده مرور الزمن أهمية .
تبادل أبو معيشي الأبوذيات والأشعار مع معظم شعراء سوق الشيوخ والناصرية البارزين، وكان من أصدقائه الشعريين ومجايليه حمدي الحمدي والشيخ مطرب السعيدي والسيد عبد العزيز الحصونة وان كان أبو معيشي أكبر من هؤلاء سناً هو المولود في العام 1880 والمتحدر من نجد الى العراق والى سوق الشيوخ على وجه التحديد .
كان والدي الشاعر ملا عبود الأسدي شاباً حين تعرف الى أبو معيشي في كهولته وقد عمَّر أبو معيشي حتى وصل عمره الى قرن كامل حيث توفي في العام 1978 على حد علمي فرحل شاعر كبير ومؤرخ موسوعي للشعر الشعبي العراقي  . كان والدي كثير التردد الى مركز سوق الشيوخ في ذاك الزمان بسبب عمله آنذاك كتاجر للحبوب والمواد الغذائية حيث سوق الشيوخ مركز تجاري كبير، أو لزيارة أصدقائه الشعراء ومنهم السيد محمد سعيد السيد عكَلة آل النبي الموسوي رفيق طفولته في قرية الحمادية في الفهود والذي أستقر فيما بعد نهائياً  في مركز سوق الشيوخ المدينة التي كانت تمتد في ذاك الزمان ليدخل ضمن حدودها الجبايش والفهود، قبل ان يستقل الجبايش كقضاء وتتبع له الفهود كناحية .
كان والدي يهتم بشعر الغزل، ولجمال صوته ووسامة طلعته وعذوبة حديثه واسلوبه في التعامل كان لديه في شبابه الكثير من العلاقات مع النساء  قبل ان يتزوج أمي، وقد روت لي أمي مراراً وتكراراً ان عدد عشيقات أبي بلغ أربع وعشرين عشيقة، وعشقُ ذاك الزمان هو عشقُ براءة وكلام جميل على طريقة الشرق العربي المسلم المحافظ الخجول، والحياء بشكل عام صفة من صفات الشرقي وان لم يكن مسلماً .
أختار أبو معيشي والدي من بين الشعراء، ربما للأسباب تلك، ليبوح له بحبه للنساء وأمنيته ان يتواصل معهن حتى بعد موته، ورغم كبر سنه كان أبو معيشي يحس ان له دوماً دَيناً في أعناق النساء الجميلات البيضاوات خصوصاً يجب عليهن تسديده ..
يبدو ان أبو معيشي كان أسمر شديد السمرة، ومن هنا جاء لقبه الجوهرة السوداء، ولذا كان يميل أكثر الى النسوة البيض مثلما سنحدد هذا الأمر في بيته الشعري الذي أرسله الى والدي طالباً الرد .
كتب الشاعر أبو معيشي الى والدي الشاعر ملا عبود الأسدي هذا البيت من الأبوذية يقول:

وحقْ المصطفى ودينك وداني
وياهن دوم الي مطلب وداني
يملّا لو كَرب وكتي وداني
لِمْ البيض الي وانصبْ عزيه


فما كان والدي الّا ان أجاب صديقه أبا معيشي في بيت الأبوذية الذي يقول فيه :

نكر كَلبي سهام الوكت ويحاد *
وتجلد كَام للمضعون ويحاد
جيش البيض الك حزنان ويحاد
وأخلي السمر تلطم بالثنيه


أبو معيشي يحلم حتى بعد حلول أجله ووقته بوصال مع الجميلات، يحلم وهو ميت ان تجتمع البيضاوات للتعزية في وفاته لأن له ديناً في أعناقهن كما يعتقد ويقول في هذا البيت..
ووالدي يتعهد له انه سيقوم بأضافة السمراوات الى البيضاوات في مأتم حداد الشاعر الراحل .
فما أروع وأبهى وأجمل تلك العلاقات وذياك الزمان وذياك المكان، وهل الحنين الى تلك الأجواء وتلك الأيام لايعدو عن كونه نوعاً من الحنين الى الماضي والناستولوجيا !!



* أصل كلمة ( كَلبي ) هنا قلبي  ، حيث تُلفظ القاف هنا في اللهجة العراقية مثل الجيم المصرية  ، وتكتب مثل حرف الكاف وعليه علامة الفتحة ، وكذا الأمر في كلمة ( حق ) التي تفيد القسم هنا والتي يستهل بها أبومعيشي بيته الأبوذية هذا ، ولكننا فضلنا كتابتها بالقاف تخفيفاً على القاريء الذي لايعرف اللهجة العراقية.

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved