
هل من الضروري كتابة هذه الأسطر؟ هل في البوح راحة وخلاص وتفريغ للآلام ؟ ما الذي يستحق الحكي في هذه القصة ؟
قضيت زهرة شبابي في التركيز على عملي ، حيث كنت أعمل بين 10 و 13 ساعة في اليوم الواحد، وأحيانا لمدة أسبوع كامل... ونجم عن ذلك نتائج مشرفة في العمل، و إحساس شخصي بالرضا والفخر وحلاوة التحدي والانجاز، أما على المستوى الصحي فحدث ولا حرج : التوتر وضغط الدم وآلام مزمنة في المفاصل والظهر، لكن لا يهم، فأنا أبلغ من العمر 63 سنة، و رغم أن الأعمار بيد الله، فلن أعيش أكثر مما عشت...
وطوال مدة خدمتي - لأني الآن متقاعد منذ 3 سنوات - انتقلت للعمل في مدن كثيرة، في إطار مهامي التفتيشية، وكنت أعتقد جراء ذلك أني قسوت على زوجتي وأبنائي بهذا الترحال الدائم، غير أن العكس كان هو الصحيح ، فقد نتج عن ذلك على مستوى أسرتي الصغيرة عشق للتغيير، وانفتاح في الذهن، واكتشاف لعدد لا بأس به من الثقافات المحلية، وعدم تقوقع أو ارتباط قبلي أوعصبي بمدينة أو جهة أو لهجة أو لكنة ما.
لقد كانت حياتنا مليئة بالسفر والتجديد، وأطلق علينا الجيران بكثير من الفكاهة لقب "عائلة ابن بطوطة"، ولم يكن التنقل الدائم متاحا - حسب علمي وشهادات أبنائي - لأغلب الأشخاص والأسر التي كانت تربطنا بهم علاقات المودة والصداقة.
وكان هدفي من العمل التفاني في أداء الواجب المهني، والتميز على الأتراب، وأيضا، وربما هذا هو الأهم، تدارك و تغطية المردود الضعيف لأغلب العاملين معي في نفس الإدارة.
ولست أقول هذا من باب الادعاء أو التبجح أو تعظيم الذات، ولكنه الواقع بعينه، فهل كنت بإفراطي في العمل وسد ثغرات الآخرين من غير أن يطلب مني ذلك، هل كنت عادلا ؟ هل كنت ظالما في حق نفسي ؟ ألم أكن مجرد كبش فداء ؟
إن هذه الأحداث التي أنا الآن بصدد استنطاقها تعود إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، و المؤسسة وزارة من إحدى الوزارات، و المكان مدينة من مدن الجنوب. و أنا بكتابتي لهذه السطور لا أروم شيئا غير شهادة على تاريخ مضى و تذكر لأحداث ما زالت تبعاتها علي موجودة لحدود الساعة.
كنت أحاول دائما البرهنة على وجودي في الوزارة بالعمل الجاد والمتواصل، وكنت أقبل من غير تفكير المهام التي تستدعي السفر،لأن ذلك من شأنه أن يخلق لدى المدير انطباعا حسنا حولي، كما من شأنه أن يجعل كبار المسؤولين في الوزارة يفهمون أني مخلص في عملي، وهذا ما غرسه والدي - عليه رحمة الله- في صميم شخصيتي : الإخلاص.
هل انعدم الإخلاص في هذا الوطن ؟ لماذا مات الضمير المهني لدى الكثيرين ؟ لماذا أصبح الغش هو العملة السائدة ؟ لماذا أصبح الهدف الرئيس من العمل لدى العامة أجر دائم و لو قليل ، ترقية فورية دون استحقاق و مجهود ، سهولة في كل شيء، نقص في الإبداع ، و أداء يتسم بنقص في الحيوية و الروتيٍن ؟
لقد التحقت منذ عشرين سنة بالرفيق الأعلى، لكنك حي ترزق في ذاكرتي الوفية لك، و في فؤادي الذي ينبض دوما بحبك.
أنظر يا أبي إلى ألوف مؤلفة من الموظفين تبدأ صباح كل يوم عملها متأخرة ساعة أو ساعتين، و تنهيه باكرا مثل ذلك : ساعة أو ساعتين قبل نهاية الدوام.
أنظر إلى غش الكثيرين، أنظر إلى التملص من المسؤولية، والكسل في العمل، وإهدار الوقت، واحتقار المواطن، والاعتداد الفارغ بالذات، و حب التسلط و التملك، و التملق، و التزلف، و الانتهازية، و خدمة المصالح الشخصية، و ترسيخ ثقافة الجهل، و عبادة المال و الجاه و زيف المظاهر.
ويقولون أننا نعيش في بلد دينه الإسلام...
هل هذا صحيح يا أبي ؟؟؟
مهدي عامري
* أديب و أستاذ جامعي
amrimahdi@yahoo.fr