سُئلتُ سؤالين : الأوّل عن سبب الهجرة العراقيّة إلى كندا، والآخر عن حركة الشعر العراقيّ فيهاَ.(2) .
كان جوابي عن السؤال الأوّل هو أَنَّه ليس هناك سبب واحد للهجرة العراقيّة إلى كندا . إنّما هناك أسباب دينيّة وسياسيّة واقتصاديّة؛ إذ بدأت الهجرة الدينيّة إليها في الثلاثينيّات حتّى الخمسينيّات من القرن العشرين في العهد الملكيّ حصراً في الطائفتين : المسيحيّة واليهوديّة (يُنظر إلى مجزرة سمّيل 1933م، وقانون إسقاط الجنسيّة العراقيّة 1950م) . وبدأت الهجرة السياسيّة إليها في أواخر السبعينيّات من القرن العشرين، في العهد الجمهوريّ، بعد أن استولى حزب البعث على الحكم في العراق 1968م . وهي مقصورة على فريقين سياسيّين ( يساريّ،وإسلاميّ).تَعسَّفهما الحزب الحاكم تسقيطاً وتنكيلاً؛ففرَّا منه خلاصاً من موتين : معنويّ وجسديّ . وقد ضمَّ كلا الفريقين جَمَّاً غفيراً من المعلّمين الرافضين قرار(تبعيث التعليم)، والإنضمام إلى حزب البعث الحاكم . ثمّ تلت هاتين الهجرتين (الدينيّة والسياسيّة) الهجرة الإقتصاديّة التي بدأت في مطلع التسعينيّات من القرن العشرين . وهي تشمل كلّ الشرائح الإجتماعيّة الراضية عن الحكومة البعثيّة وغير الراضية عنها بحثاً عن لقمة العيش التي عزّت على المواطنين العراقيّين في بلدهم المحكوم عليه بالحصار الدوليّ جزاءً بما فعل دكتاتوره (يُنظر إلى قرار الأمم المتّحدة المرقّم 661ف 1990م) . وبهذه الهجرة الإقتصاديّة "إختلط الحابل بالنابل"سياسيّاً . وماهي بالأخيرة؛ إِنّما هناك هجرات أُخَر تنتظر من يكتب عنها مؤرِّخاً.. وأودّ أن أقف قليلا عند مسار الهجرة الثانية (السياسية) التي بدأت في أواخر السبعينيّات (1978م ــ 1979م) (3)،لأهميّتها نوعيّاً، واتّساعها كميّاً؛ إذ فرّ اغلب اليساريّين المرتبطين بـالحزب الشيوعيّ العراقيّ إلى روسيا (الإتحاد السوفييتيّ سابقاً)، وإلى دول أوربا الشرقيّة (الإشتراكيّة سابقاً) . وفرّت ثُلّة منهم إلى كردستان ــ العراق ابتغاء "الكفاح المسلّح" ضدّ الدكتاتوريّة . وبيناً فرَّ أُولئك إلى الجهات المماثلة لهم إيديولوجيّاً، فرّ أغلب الإسلاميّين المرتبطين بـحزب الدعوة الشيعيّ الى إيران؛ لكنّ كثيراً من معارضي الحكم البعثيّ من غير الحزبيّين المذكورين لاذوا بالدول العربيّة لاسيّما المعلمون الذين قصدوا إلى ليبيا والجزائر والمغرب الأقصى لمزاولة مهنتهم التعليميّة في هذه الدول الثلاث.. ولم يكُ العراقيّون غير البعثيّين الذين هاجروا إلى الدول العربيّة، ماخَلا سوريا، بمنجىً من تسلّط الحكومة العراقيّة خلال الحرب العراقيّة ــ الإيرانيّة (1980م ــ1988 م) . لذا شرعوا يفكّرون باللجوء إلى البلدان الأجنبيّة الآمنة ابتعاداً عن قبضة الدكتاتوريّة في العراق، وتحقيقاً لحياة مستقرة لهم، ولأُسرهم بعد أن قاسوا ما قاسوا من خوف وسغب وهوان في معظم تلك الدول، وبعد أن يئسوا كلّ اليأس من أن يعودوا سالمين إلى وطنهم المثخن بجراح الحرب والإستبداد.. وماكانت حال العراقيّين المقيمين في دول أوربا الشرقيّة، ولا في روسيا بعد عام 1991م، باحسن من حال إِخوانهم العراقيّين المقيمين في الدول المسمّاة بدول العالم الثالث . وفي هذه الظروف اللاانسانيّة التي لم يكن يأمن فيها العراقيّ غير البعثيّ أن يعود إلى وطنه، ولا أن يراجع سفارته في الخارج، ولا حتّى أن يضمن إقامته في البلد الذي قد حلَّ فيه؛ كانت كندا من الدول الديمقراطيّة التي تلوّح بالأمان والعدل والعطاء للمشرّدين في الأرض عملاً بمبدأ حقّ الإنسان في الحياة، فلجأ اليها كثير من العراقيّين المقيمين في الدول العربيّة، وفي دول شرق أوربا وفي غيرهما، وحتّى من المقيمين في ايران وسوريا اللتين كانت حكومتاهما عدوّ الحكومة العراقيّة خلال الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة.نعم . لجأ كثير إليها بحثاً عن بلاد آمنة عادلة معطاء، وقد وجدوا ماكانوا يبحثون عنه؛ فأقام بعضهم في مدينة مونتريال التابعة لولاية كيبك الناطقة بالفرنسيّة، لاسيّما القادمون من المملكة المغربيّة والجمهوريّة الجزائريّة، وأقام بعضهم في مدينة تورنتو التابعة لولاية أونتاريو، وأقام آخرون في مدينة أُوتاوا (العاصمة الكنديّة) . هذه المدن الثلاث هي أهمّ المدن الكنديّة التي احتضنت العراقيّين المهاجرين واللاجئين، وأصبح لهم فيها شأن ثقافيّ وتجاريّ ومهنيّ . ويبلغ عدد العراقيّين في كندا خمسين الف مهاجر تقريباً (49,680 نسمة / إحصاء2011م) . وأكثرهم لا كلّهم، يعكسون صورة طيّبة عن الشخصيّة العراقيّة نظراً وعملاً . وخيرهم هم العاملون الذين يعيشون من كدح أَيديهم غير معتمدين على إعانات الحكومة الكنديّة . وهم، على الرغم من تناقضاتهم الكثيرة، متآلفون في ظلّ دستور حقوق الإنسان الكنديّ الذي يحرّم كلّ أنواع التمييز ضدّ الإنسان الآخر .
وكان جوابي عن السؤال الآخر، هو أَنَّ كندا هي أكبر بلاد في الأرض بعد روسيا . تستغرق فيها الرحلة الجويّة ــ مثلاً ــ من شرقها، إلى غربها، سبع ساعات أو أكثر . وما يزيد الطينَ بلّة أَنّ مناخها جِدُّ متقلّب . وكثيراً مايسوء طقسها إلى حدٍّ، تتوقّف وسائل النقل فيه عن الحركة، ويتعذّر السفر . ولهذا السبب الجغرافيّ ــ الطبيعيّ، يعزّ فيها التواصل الفزيولوجي المباشر بين ساكنيها في أَحايين كثيرة، وبخاصّة في فصل الشتاء . وغرضي، من هذه المقدّمة، هو أنّي أريد أن أُعلِم سائلتي (الباحثة)، أَنْ لا قدرةَ لي على استيفاء حقّ حركة الشعر العراقيّ في كندا، من دون معرفة شعرائها كلّهم، واستقراء ما انطوت عليه تجربة كلّ واحد منهم حياةً وشعراً، لكي يكون الحكم على كليّة الحركة، بما يوجد في جزئياتها لتحقيق الموضوعيّة العلميّة في الجواب . وانطلاقاً من هذا المفهوم المنهجيّ، فإنّي سأقصر حديثي على تجربتي الشعريّة الخاصّة، مدّة ثلاثة عقود من إقامتي في كندا، مركّزاً على تفاصيل ما تضمّنته من نشاطات ثقافيّة واجتماعيّة ابتغاء التوثيق التاريخيّ . ومهما تختلف خاصيّة هذه التجربة؛ فانّها ستجلو دون ريب صورة مهمّة ومفيدة،عن حركة الشعر العراقيّ في كندا.. لجأت، إلى مدينة مونتريال في كندا، في صيف 1989م،عراقيّاً مُشرَّداً قادماً من المغرب . وقد حلَّ فيها، قبيل لجوئي إليها، عراقيّون مشرّدون قادمون من بلدان شتّى، ممّا تخطر ببال، وممّا لاتخطر ببال. وكلٌّ قد انتهى إليها بطريقةٍ ما، ومن بينهم ثُلّة من مريدي الفكر والأدب والفنّ والصحافة الذين نثرتهم الدكتاتوريّة نثار النجوم المضيئة في ليالي المنافي والمغتربات، بعد أن اختار كلٌّ منهم أن يكون إنساناً حرّاً، لا دميةً بيدها الإستبداديّة.. ودّعتُ بلاد المغرب في السنة المذكورة آنفاً . وحسبتني، حين ودّعتها، قد ودّعت الحرف العربيّ أبداً . ولم أحسب أنّ في مونتريال الناطقة بالفرنسيّة روافد تزخر بالثقافة العربيّة . منها ماهو غزير ودانٍ : مثل المكتبة العامّة في قسم الدراسات الإسلاميّة في جامعة مكغيلMcGill University، ومثل مكتبة "الشرق الأوسط"التجاريّة، لبيع الكتاب العربيّ . ومنها ماهو شحيح وقاصٍ : مثل الصحائف الوطنيّة الثقافيّة التي يُصدرها العراقيّون اللاجئون في سوريا، وفي أوربا الغربيّة، وفي الدول الإسكندنافيّة، وفي استراليا، ويبعثون بها إلينا بالبريد، لاسيّما صحيفة "الاتّحاد الديمقراطيّ"التي تصدرها الحركة العراقيّة اليساريّة الثقافيّة، في ولاية مشيغان في الولايات المتّحدة.. ولم تكن في مدينة مونتريال صحيفة عراقيّة حينذاك، ولا في كندا كلّها جمعاء. وماكان للشعراء العراقيّين، لينشروا أشعارهم، ويذيعوها؛ لولا بعض الصحائف العراقيّة الصادرة في بلدان اللجوء ممّا ذكرت، ولولا بعض منتديات الجالية العربيّة ــ الكنديّة، والحفلات الإجتماعيّة العراقيّة التي بدأ الناشطون العراقيّون يُحيونها في مونتريال، في المناسبات الوطنيّة وغيرها.. وما إن مضَى عام،على مقامي في مونتريال، حتّى اتّسعت دائرتنا العراقيّة الثقافيّة، وتعمّقت روابطنا الوطنيّة رؤيةً وممارسةً . وأخذنا نتزاور، ونتلاقَى، ونتظاهر سياسيّاً داعمين شعبنا العراقيّ المحاصر داخليّاً وخارجيّاً.ولطالما أمسَى تزاورنا، وتلاقينا، وتظاهرنا، منتدىً للنشاطات الأدبيّة، التي كان للشعر فيها نصيب وافر. ثم عقدنا العزم على أن نصدر مجلّة فصليّة . تعبّر عن صوتنا الثقافيّ، وعن موقفنا الوطنيّ الخاصّ . واتّفقنا على أن نعتمد على جهدنا الذاتيّ في إصدارها . وآثرنا أن نجعلها فرعاً من"رابطة الكتّاب والصحفيّين والفنّانين الديمقراطيّين العراقيّين"في المهجر، تزكيةً لهويّتها الوطنيّة والثقافيّة؛ وأن تُدار إدارةً جماعيّة مؤلّفة من خمسة : كان المسؤول،عن تقييم نصوصها النثريّة والشعريّة، القاصّ الأستاذ رحمن خضير عبّاس، وأنا عبدالإله الياسريّ، وعن ماليّتها وطبعها، الصحافيّ الدكتور سعدي المالح، وعن بريدها ونقلها الشاعر الأستاذ عبّاس الدليميّ، وعن نقد عددها الصادر الناقد الأستاذ كاظم الزيديّ . وماكان لبذرتها أن تورق وتثمر لولا تظافر جهود العراقيّين الوطنيّين المشكورة . وأخصّ منهم بالذكر الناشطينَ الإجتماعيّين :ا لأستاذ عبدالله فليفل حمد والأستاذ عادل عبد عثمان والأستاذ عبد الإمام المنصوريّ والأستاذة عالية محمّد كريم . وسميّناها "أصــداء" ــ وسأتقصّد الإطناب لتوثيق الجواب مفصّلاً ــ وفعلاً أصدرنا العدد الاوّل، في شتاء 1990م . وهو يضمّ موادّ عن الشعر والنثر، وعن الفنّ التشكيليّ . ولقد لقي من العراقيين في كندا قبولاً ورضاً . ورغبوا إلينا في أن نمضي على إصدار المجلّة، فمضينا عليه مُصدرين العدد الثاني منها، في ربيع 1990 م . وهو يضمّ دراسات نقديّة تتناول الشعرينِ العربيّ والكرديّ، وقصائد وقصصاً لأدباء عراقيّين، وموادّ ثقافيّة وفنيّة أخرى.إضافة إلى ملفّ خاصّ عن الفقيد الشاعر العراقيّ مصطفى عبدالله . ولئن هان علينا نحن ــأعضاء هيئة الإدارة ــ ما يكلّفنا إصدار المجلّة من جهد ومشقّة؛ فإنّ العقبة الماليّة التي اعترضت سبيلنا، بعد العدد الثاني، كانت أصعب من أن تهون .على أيّةحال . طال بيننا السجال ابتغاء تذليلها . ولمّا أنْ تعمّق تباين الآراء بيننا، من دون أن نجد حلّاً جماعيّاً للمشكلة الماليّة؛ أوقفنا صدور المجلّة (أَصداء)، وكففنا عن مزاولة العمل الصحافيّ، راضين بأنّ في الكفّ عنه دليلاً بيّناً،على استقلالنا الثقافيّ وحريّتنا الفكريّة؛ إذ لاصحافة عراقيّة من دون تموين . ولا تموين من دون عبوديّة لسلطة الدولة أوالعقيدة أوالمال؛ لكنّ الزميل د.سعدي المالح لم يكففْ عن العمل الصحافي، بل أستأنفه مُصدراً صحيفة عربيّة، في مونتريال، في 1990م . أسماها”المــرآة”.. و"المرآة"هي صحيفة سيّارة . تمزج الثقافة بالتجارة والتجارة بالثقافة . تُوزَّع على الناطقين بالعربيّة في كندا مجّاناً، اعتماداً على ماتدرّ عليها إعلاناتها التجاريّة من مال . ثم نشطت"المرآة" أشدّ نشاط، وتوسّعت أحسن توسّع، واتخذت لها مراسلين عرباً في أهم المدن الكنديّة . ينقلون لها تقاريرهم عن المهرجانات العربيّة، والنشاطات الثقافيّة، والترفيهيّة . وقد غطّت في أحد أعدادها (23تشرين الأوّل/اكتوبر1996م) أمسية شعريّة . أُقيمت في مدينة أوتاوا في خريف 1996م، تحت عنوان”مهرجان الرافدين الشعريّ". وسأسمّي هذه الأمسية الشعريّة مهرجاناً . لا لشئ إلّا لأنّ مُنظّميها سمّوها مهرجاناً . وماهي من الناحية اللغويّة الخالصة بمهرجان، لأنّ المهرجان هو الإحتفال العظيم لا الأمسية الشعريّة . والكلمة فارسيّة أصلاً . ولم أكد أعرف حتّى الآن سبب إصرار أعضاء اللجنة التحضيريّة على "المهرجان" تسميةً، وعلى فصل الخريف توقيتاً، رغم ما واجهوه من إنتقاد للإسم والوقت كليهما، في أمسية شعريّة قبل سنتين في مونتريال في خريف 1994م . ومهما يكن، فإنّي كنت ضمن الشعراء المشاركين في هذا المهرجان الذي أعلن عنه عريف الحفل أنّه المهرجان الشعري الثالث . ولقد غطّاه الأديب كريم شعلان،على صفحات جريدة "المرآة"، وصفاً ونقداً وتقييماً.. إِبتدأ برنامج المهرجان، بكلمة اللجنة التحضيريّة، فالشعراء : كاظم البشير، فسعدي الفنديّ، ففيصل العليّ، ففادي جورج، فعبدالإله الياسريّ، فعبّاس الكاظميّ حتّى انتهَى بشاعر نُودي بكنيته (أبو فلان) لاباسمه الصريح، من باب التقيّة التي أَلفها بعض الإسلاميّين السياسيّين في المحافل العامّة في كندا قبل 2003م . وما إن قدّمه عريف الحفل على أنّه شاعر الجمهور، حتى انطلقت زغاريد بعض النسوة في القاعة احتفاء به؛ لكنّه لم يكد يُنهِي إنشاد المورد الأوّل من قصيدته حتّى أخذت صاحبتي تحوقل ممتعضةً من كثرة لَحنه (الخطأ في الإعراب).. لم أشكك بالدوافع الوطنيّة، لتلك اللجنة التي حضّرت للمهرجان، ولم أتحفّظ أواحتط لنفسي بإزائها. إنّما أحسنت الظنّ بها . وكلّ نشاط عراقيّ يضادّ السلطة الدكتاتوريّة غير مرتبط بالأجنبيّ ، هو حريّ بحسن الظنّ آنذاك؛ لكنّ هناك أشياءَ قد استوقفتني في المهرجان، وجعلتني أفكّر فيما يخالف حسن الظنّ : أوّلها أن يفاضل أعضاء اللجنة التحضيريّة، بين الشعراء المشاركين، مفاضلة توحي بالتسيّس والتمذهب . وثانيها أن يمنعوا التصوير والتسجيل داخل القاعة، ويحصروهما بنفر منهم حصراً يؤكّد السلوك القمعيّ، وينفي الحريّة الثقافيّة . وثالثها أن يمرّ الغلط العروضيّ والغلط النحويّ في قصائد دون أَن يدّقّقوا فيهما أو يلتفتوا إليهما؛ مما يدلّ ذلك المرورعلى أنّهم لايعرفون وجه الصواب في الشعر ولا في اللغة . وأستطيع أن أقول عنهم الآن : إنّهم قد تقنّعوا بالوطنيّة شعاراً، واستجاروا بالشعر الوطنيّ وبجمهوره وسيلة لغاية سياسيّة، قد انكشفت واضحة بعد أن تبوّأَ أَعلامهم مناصب حكوميّة مهمّة في سلطة الدولة، بعد الغزو الإمريكيّ للعراق 2003م. ماآلمني كلَّ الألم، من هذه التجربة الشعريّة، هو أن تطرح قوّة سياسيّة معارضة شعاراً وطنيّاً جميلاً (مهرجان الرافدين الشعريّ)، لكنّ ممارستها لم تُظهر من الوطنيّة غير السراب والوهم . لم تكن هذه القوّة إلّا مثل غيرها من القوى السياسيّة العراقيّة المعارضة التي تأسّست في لندن ــ بريطانيا 1992م،ثمَّ صارت جسوراً ليعبر الأجنبيّ عليها غازياً الوطن ــ العراق.. كنت ضدّ الدكتاتوريّة الحاكمة في العراق، لكنّي كنت ضدّ الاحتلال الأجنبيّ للعراق في الوقت نفسه . كنت أرى الخلاص في أن نتحرّر من قيودنا المزدوجة داخليّاً وخارجيّاً، لنبني شخصيّتنا العراقيّة المستقلّة بعد خمسة قرون من الاحتلال العثمانيّ والإستعمار البريطانيّ والإستبداد السياسيّ المتقنّع بالوطنيّة العراقيّة تارة، وبالقوميّة العربيّة تارة أخرى . ولمّا وجدتني أسير في ساحة الصراع باتجاهٍ يعاكس اتجاه المعارَضة العراقيّة السياسيّة؛ آثرت الإنفراد لتمييز موقفي عنها، وعمدت إلى أن أوصل صوتي العراقيّ الخاصّ إلى بني وطني وبناته في المغتربات كافّة، فشرعت أَنشر شعري في الصحافة العراقيّة المهجريّة خارج كندا . ولم انشر لي شعراً، في كندا قبل 2007م، الا مرّتين:مرّة في مجلّة"الفلسطينيّ"في مدينة أوتاوا، لصاحبها الشاعر الفلسطينيّ أحمد عيد . ومرّة في مجلّة "عيبال" في مدينة مونتريال، لصاحبها الأديب وليد نصّار . ولم أشارك في المحافل الشعريّة في كندا حتّى اليوم سوى ثلاث مرّات : ألأُولى في أمسية شعريّة في مدينة تورنتو ، في ذكرى وطنيّة عراقيّة، بدعوة من الزميل الشاعر كاظم البشير، في صيف1997م. والثانية في اُمسية شعريّة، أقامها المثقّفون العراقيّون، في فندق دلتا (Delta Hotel) في مدينة مونتريال، لرثاء الشاعر محمد مهديّ الجواهريّ في 1997م . والثالثة في اُمسية شعريّة،اقامها المثقّفون العرب، في جامعة اوتاو (Ottawa University) في العاصمة الكنديّة، لتأبين الشاعر الجواهريّ كذلك، في شهر آب/أوغست من عام 1997م . ومِمَّا يُستحسن ذكره، لتَوْفِيَة الجواب حقَّه، أَنّي لاقيت، في هذه الأمسية الأخيرة، مثقّفين عراقيّين مغتربين، وتوثّقت العُرَى الثقافيّة بيننا . منهم الباحث الماركسيّ الأستاذ عزيز سباهي، ومنهم الشاعر الدبلوماسيّ الدكتور عبدالحسن زلزلة الذي اعتزل السياسة في كندا معارضاً الدكتاتوريّة في العراق .وله ثلاثة دواوين شعريّة (صهيل القوافي ج1ــج2) و (ويستمرّ الصهيل) و(قبل الرحيل).. ومن بعد ضاقت الصحافة الورقيّة، واتّسعت الصحافة الإلكترونيّة في كندا في أخريات سِنِي القرن العشرين الماضي،؛ فاحتجبت عن القرّاء صحيفة "المرآة"في مونتريال، للصحافيّ العراقيّ د.سعدي المالح،وتأسّست مجلّة"معكم"الثقافيّة الاجتماعيّة الالكترونيّة،في المدينة عينها، في 2007م، للصحافيّة العراقيّة الأستاذة عالية كريم . وهي مجلّة ثقافيّة اجتماعيّة نظيفة . مازلت أنشر أشعاري فيها حتّى اليوم، وأعدّها من المنابر الثقافيّة المهمّة التي تحتضن كثيراً من الاقلام الشاعرة والناثرة في كندا، وفي المشرق والمغرب العربيّين أيضاً . ثمّ تأسست جريدة"البلاد" الورقيّة ــ الإلكترونيّة، في مدينة لندن في ولاية أونتاريو الكنديّة، لصاحبها الصحافيّ المخضرم الأستاذ العراقيّ ليث الحمدانيّ . وهي تصدر بالعربيّة والإنجليزيّة معاً، وأنشر فيها أشعاري أحياناً كذلك.. هذا مختصر ما يتعلق بتجربتي الشعريّة الخاصّة في كندا.علماً أنّي قد أصدرت سبعة دواوين شعريّة (أرق النجم ــ في ظل حوّاء ــ جذور الفجر ــ أشرعة بلا مرفأ ــ جرح ومنفَى ــ أجراس الخلود ــ رغم الثلج والرماد.) . وهي في مجموعها تقاوم جوهريّاً مظاهر التخلّف العربيّ والعراقيّ، وأُسبابه الكامنة في سلطاته القمعيّة الأساسيّة الثلاث : سلطة الدولة وسلطة العقيدة وسلطة الذكورة . وأهمّها عندي هي سلطة الدولة الرسميّة التي توجب المسؤوليّة الإجتماعيّة أن يقاطعها الشاعر ويقاومها، إن كانت فاسدة، لإسقاطها؛ وأن يعارضها ناقداً، إن كانت صالحة، لتقويمها، لأنّ السير في ركب الأولى خيانة وطنيّة، والسير في ركب الأخرى عبوديّة وتبعيّة . وأمّا ما يتعلّق بتجارب الشعراء الآخرين في كنـدا، فانّ الاديب كريم شعلان قد طبع كتاباً بالانجليـزية :
Certainity) (The New في 2018م . يعكس فيه تجارب شعراء كُثْرٍ؛ إذ جمع فيه أربعة وعشرين شاعراً من الشعراء العرب في امريكا الشماليّة (الولايات المتّحدة وكنـــدا) متناولاً فيه السيرة الشخصيّة لكلّ شاعر منهم، ونموذجاً أو أكثر من قصائده العربيّة المترجمة للإنجليزيّة مع صورة شخصيّة له .
وختاماً هذا هوالجانب المعلوم المؤكّد لي، من حركة الشعر العراقيّ في كندا، من خلال تجربتي الشعريّة الخاصّة فيها . وهو موثّق تاريخياًّ، ولديّ مايؤكّد توثيقه ،إذا
اقتضى الحال مع كلّ الإعتزاز والتقدير.
27آب/أوغست/2021م
في أُتاواــ كندا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نُشرت في موقع"صحيفة المثقّف"الإلكترونيّة في 28-08-2021
سألتني الطالبة (نُهى عبدالرسول زكيّ الأنباريّ)، في أثناء بحثها لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة العربيّة (2) وآدابها في جامعة بغداد،ذَيْنِك السؤالين .
لم يكتم حزب البعث الحاكم فزعه من وصول الشيوعيّين في أفغانستان إلى السلطة، والإسلاميّين في(3) إيران إلى السلطة كذلك أواخر السبعينيّات؛ وخوفه من أن تتكرر التجربتان في العراق .